Documenti di Didattica
Documenti di Professioni
Documenti di Cultura
ال تنسوا املهندس يف عتمة عزلته لقد كان فيكم للحريه عنوانا
ري ِّ
الظل ِ مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
حقوق الطبع حمفوظة للم�ؤلف
الطبعة الأوىل
4
فهر�س املحتويات
5
6
ِّ
املقدمة
ثرت مر ًة ب�إذن ربي على املحتل الغا�صب ،وها �أنا �أثور اليوم �أي�ضا ً بعون ربي
وال�سجان لأكتب ق�صتي ،ق�صة مقاوم ق�صد وجه ربه ورفع ال�سالح ّ على ال�سجن
بوجه الظلم ،لعل ر�صا�صات احلق تعيد طريق الن�رص واحلرية.
عرب جوابي على ر�سالة ابنتي ،وردي على ت�سا�ؤالتها ،لعلي �أكون قد �أو�ضحت
مل �أنت؟ ..ولعليلها ما يدور بذهني حول ذلك ال�س�ؤال الذي تردد كثريا ً :من �أنت و َ
�أكون عرب جتربتي املتوا�ضعة ،قد �ساهمت ولو قليالً من خالل �صفحات هذا الكتاب،
ومن خالل مقاومتي للمحتل ،ب�أن �أ�شعل �شمعة على درب احلرية ،ف�أنا �أكره الظالم
و�أكره من ال يلعنون الظالم.
7
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
الإهداء
�إىل والدي ووالدتي �أطال اهلل بعمرهما� ..إىل زوجتي و�أطفايل تاال و�أ�سامة و�صفاء..
�إىل كل من �ساعد و�ساهم لكي يرى هذا الكتاب النور..
لفل�سطني والقد�س والأق�صى..
للقدو�س والقد�س والق�سام
8
ر�سالة من تاال� ،أ�سامة و�صفاء
9
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
متلك عقلني؛ ال عقالً واحدا ً مثل باقي الب�رش ،فيقال �أنك ا�ستبدلت قلبك بعق ٍل �آخر..
ولكن ما يجري �أي�ضا ً يا والدي احلبيب �أنهم �أي�ضا ً يقولون �أنه لوال �أن قلبك كبري،
و�أنك حنون طيب ملا و�صلت �إىل ما و�صلت �إليه ..ملا قاتلت وملا عني ابتعدت.
ال �أدري من �أنت ..من �أنت؟ �أنت تلك ال�صورة التي كتبت عليها تلك اجلملة التي ال
�أفهم لها معنى « :الأ�سري البطل».
�أ�سري بطل! ..كيف ي�صبح الأ�سري بطالً؟ �أم �أن ال�س�ؤال هو كيف ي�صبح البطل
�أ�سرياً ..هل �أنت مقاوم بطل؟ �أم �أنك جمرد متهور ،مندفع خا�ض حربا ً ال ناقة له بها
وال جمل ..قل يل بربك يا عبد اهلل اجلمل من �أنت؟� ..ألي�س هذا هو ا�سمك قبل �أن ي�صبح
عبد اهلل الربغوثي �أو عبد اهلل الق�سام؟ من �أنت؟� ..أنت ذلك الظل الذي ال �أرى �صاحبه
ولكنه ميد يل يد امل�ساعدة دون �أن �أطلب ..هل تعلم يا والدي احلبيب �أنك الأب الوحيد
الذي ال ين�سى ذكرى ميالد �أبنائه وذكرى ميالد من يحب؟ ..كل الآباء ين�سون �إال
�أنت فال تن�سى..وما دمت ال تن�سى ،ملاذا غبت عنا طول هذه الأعوام؟ �أمل تكن تعلم �أن
من يقاتل يغيب ويبتعد عن من يحبهم؟
والدي �أجب على �س�ؤايل من �أنت؟ وملاذا تركتني طفلة �صغرية ال يتجاوز عمري
الثالثة �أعوام ملقاة ب�سيارة حتا�رصها الكالب من كل �صوب؟ ملاذا تركتني يف الربد
القار�س بعد �أن غبت ومل �أعد �أراك؟
باهلل عليك يا �أبي قل يل من �أنت؟ قل و�أجب على �أ�سئلتي �سوا ًء التي �س�ألتها �أم تلك
التي مل �أجتر�أ على �س�ؤالك �إياها ..من �أنت يا �أمري الظل؟ من �أنت؟ »..
ابنتك املحبه تاال
ابنتي احلبيبة على قلبي وعلى عقلي تاال ،و�أحبتي �أ�سامة و�صفاء و�أبي وزوجتي
الغالية ..ر�سالت ِك قد و�صلني قبلها وبعدها العديد من الر�سائل التي حتتوي على هذا
ال�س�ؤال من �أنت ؟ و�س�ؤال �آخر �أكرث تعقيدا ًوهو ذلك ال�س�ؤال الذي تكرر كثريا ًملاذا �أنت؟..
ابنتي احلبيبة ومالكي احلار�س :هذه الأ�سئلة والت�سا�ؤالت حتتاج �إىل �شخ�ص
فيل�سوف لكي يجيب عليها وي�رشح الأ�سباب ،ويو�ضح الأمور لي�سهل علي ِك فهمها.
10
علي �أن �أجيب على تلك�شخ�ص عادي ،و�أقل من عادي ،وي�صعب ّ ٍ �أما �أنا فمجرد
الأ�سئلة ،ولكني �سوف �أق�ص علي ِك ق�صتي وق�صة حياتي ،لعلك يا مالكي احلار�س
جتدين �أجوبة على �أ�سئلتكِ.
لعلك ت�ستطيعني �أنت يا ابنتي �أن تقويل يل من �أنا ،وملاذا �أنا ..حبيبتي ال�صغرية
قد بد�أت ق�صتي من هناك ،هناك بعيد عن فل�سطني وعن التني والزيتون ..هناك يف
ال�صحراء ..فلقد ولدت بالكويت ،و�أحببت الكويت وما زلت �أحبّها ،و�أذكر الن�شيد
الوطني لها و�أردده.
وطني الكويت �سلمت للمجد ،وعلى جبينك طالع ال�سعد.
ظللت �أردده طوال �أعوام طفولتي ،حتى جاء اليوم الذي ما ُ ذلك الن�شيد الذي
عدت فيه طفالً �صغرياً ..فلقد كربت فج�أة ودون مقدمات ،وكان ذلك عندما اندلعت
انتفا�ضة احلجارة يف فل�سطني ،عندما ا�ست�شهد ابن عمي حممود ،وعمي �إ�سماعيل..
ا�ست�شهدا يف فل�سطني ،و�أقمنا لهما يف الكويت عر�ساً ..عر�س ال�شهداء.
مل �أكن اعلم �أن هناك �أعرا�سا ً تقام للموتى ،للقتلى؛ ولكني علمت �أن هناك �أعرا�سا ً
تقام لل�شهداء .من هم �أولئك ال�شهداء؟ وكيف �أ�صبحوا م�ضمخني بدمائهم �إىل
مثواهم� ،إىل جنة اخللد ،من هم؟ ..مل �أرهم ومل �أكلمهم وحتى مل �أكن �أعلم عنهم
�أي �شيء� .س�ألت و�س�ألت ،وجاءين اجلواب :قالوا يل �أن حممود هو ابن عمي الكبري،
وقالوا �أن �إ�سماعيل هو �أ�صغر �أعمامي ،ولقد كان االثنان قريبني يف العمر وقريبني
يف �صداقتهما .بب�ساطة لقد �ألقوا احلجارة على قوات االحتالل ال�صهيوين التي كانت
تعيث خرابا ً يف قريتنا ،ف�ألقت تلك القوات عليهم وابالً من الر�صا�ص فا�ست�شهدا.
قالوا يل� ،أعلم �أنك من هناك من فل�سطني ،من قرية ا�سمها بيت رميا ،وقالوا
�أي�ضا ً �أنت فل�سطيني ..وهكذا يا ابنتي مل �أعد كويتيا كما كنت �أظن وكما كنت �أغنّي،
بل فل�سطينياً ..ومنذ ذلك الوقت �أ�صبحت �أردد �أن�شودة �أخرى تتحدث عني وعن
فل�سطني ،فل�سطني ال�شهداء ،فل�سطني الأ�سرية ..كانت تلك الأن�شودة تقول :
«حممد جمجوم وف�ؤاد حجازي ،جازي عليهم يا �شعبي جازي»� .أن�شودة تتحدث
عن �أبطال ثالثة هم «عطا الزير» و«حممد جمجوم» و«ف�ؤاد حجازي»� ،أُعدموا من
قبل القوات الربيطانية؛ تلك القوات التي ن�صبت لأبناء فل�سطني امل�شانق ،و�أعطت
11
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
ال�صهاينة وعدا ً م�ش�ؤوما ً ا�سمه وعد بلفور ..ذلك احلقري القذر الذي �أعطى من ال
ميلك �أ�صالً �إىل من ال ي�ستحق� ..أعطى �أطهر �أر�ض ،فل�سطني� ..أعطاها �إىل �أقذر �شعب،
�إىل ال�صهاينة املحتلني.
ومن هنا يا مالكي احلار�س كربت ومل �أعد طفالً �صغرياً ،كربت وكربت معي
فكرة املقاومة ،وطرد االحتالل ،وعقاب املحتلني على جرائمهم بحق فل�سطني ،وحق
حممود ،و�إ�سماعيل وبحق كل �شهيد.
كنت يا ابنتي احلبيبة ويا مالكي احلار�س �أ�شاهد على التلفاز كيف يقوم
جنود االحتالل بتك�سري عظام �أطفال فل�سطني� ،أطفال احلجارة ،رجال االنتفا�ضة
و�صقورها ..ولذلك قررت �أن �أ�صبح قوياً ،قويا ً جدا ً حتى ال ُيك�رس عظمي ،وحتى
�أدافع عن من �أحبهم :عن القد�س والأق�صى وعن فل�سطني.
يف تلك الأثناء قدر اهلل �أن �أتعر�ض لل�رضب على يد عد ٍد من التالميذ يف املدر�سة،
كانوا �أكرث و�أقوى وكنت وحيدا ً و�أ�ضعف .وعلى الفور ان�ضممت لنادي الريا�ضة
(اجلودو) ،عند مدرب ا�سمه «منري �سميك» ،وبد�أت تدريبي بنادي اجلهراء .يف الكويت
كان املدرب فل�سطيني ولقد كان يدرب �أي�ضا ً فريق منظمة التحرير الفل�سطينية
مبدينة «حوليّ » ،ب�صمت وبجد على فنون اجلودو .ولكني مل �أكتف بذلك ،فلقد �أردت
�أن �أكون قويا ً جداً ،ف�أ�ضفت �إىل اجلودو التدريب على ريا�ضة املالكمة و�أي�ضا ً كمال
الأج�سام .ولذلك كنت �أم�ضي كل �أوقاتي بعد الدرا�سة متنقالً بني قاعات التدريب .مل
�أكن �أ�شارك بامل�سابقات ومل �أح�صل على امليداليات ؛ بل كنت �أ�شارك بامل�شاجرات
�سواء باملدر�سة �أو يف احلي الذي �أقطنه ،و�أح�صل يف بع�ض الأحيان على الكثري
من الكدمات �أو الك�سور .وقد قال يل املدرب بعد تلك الأعوام� :أين �سوف �أدربك
اليوم على احلركة الأخرية تلك احلركة التي �إن تعلمتها و�أتقنتها ف�سوف تكون
قادرا ً على قتل من يهاجمك ،ف�إياك �أن ت�ستعملها �أبدا ً �أبداً .وعندما �س�ألته كيف
تعلمني حركة قاتلة وتريد مني �أن �أتقنها وال �أ�ستعملها ال يف امل�شاجرات وال حتى
يف املباريات بداخل النادي ؟! ..وهنا �أجاب قائالً �أل�ست فل�سطينياً؟ �أال تريد حترير
بلدك؟ قلت :نعم .قال� :إذا ً هناك يف فل�سطني و�ضد من احتلوا وطنك ..ا�ستعملها
وا�ستعمل كل ما تعلمته هنا.
12
«احلبيبة والبنني»
عيني تبكي وقلبي حزين
على فراق احلبيبة والبنني
فائدة التي الف�ؤاد واليا�سمني
�أنت �شمعة قلبي ال�سجني
بوجهك الب�سمة كل حني
ويف قلبك حبي الدفني
فانتِ حياتي وماء العني
يا وردتي و�أجمل الرياحني
�سيبقى حبي لك قوي متني
مهما فرقنا العدو اللعني
بعد ذلك بد�أت مرحلة جديدة من حياتي .فقد بد� ُأت بالتدرب على ال�سالح ،هناك
يف الكويت يف ال�صحراء� ،أما الأهم من ذلك فهو ما كنت �أعمله �أثناء العطل املدر�سية
�سواء عطلة ن�صف العام الدرا�سي �أو عطلة نهاية العام الدرا�سي ،فلقد كنت �أم�ضي
تلك العطل منذ �أن �أ�صبح عمري اثني ع�رش عاما ً يعني �أ�صغر من عمركِ الآن بعام
واحد بالعمل يف حمل للأجهزة الكهربائية ميلكه عمي �أبو �أحمد� ،أو يف العمل يف كراج
للميكانيك بعد �أن كربت عدة �أعوام.
ف�أنا يا مالكي احلار�س مل �أمار�س الريا�ضة القتالية حبا ً بها �أبداً ،ومل �أتعلم
ا�ستعمال ال�سالح لأين �أهوى ذلك ،فلقد كانت هوايتي هي تفكيك الأ�شياء و�إعادة
تركيبها مرة �أخرى ،وحماولة معرفة طريقة عملها ،هذه هوايتي :االلكرتونيات
وامليكانيك ،الأ�شياء الدقيقة جدا ً وال�صغرية ،والأ�شياء الكبرية والتي ميل�ؤها الزيت
وال�شحوم ،وهذا ما دفعني الحقا ً �إىل درا�سة م�ساق الهند�سة االلكرتوميكانيكية
يف كوريا اجلنوبية� ،أما كيف و�صلت �إىل هناك فهي ق�صة �أرويها ل ِك بعد �أن �أكمل
حكايتي بالكويت �أوالً.
كنت متعلقا ً بالكويت كثريا ً جداً ،حتى �أين عندما كان والدي ووالدتي و�أخوتي
13
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
يذهبون لق�ضاء العطلة ال�صيفية يف الأردن كنت �أف�ضل البقاء يف الكويت وحيداً ،رغم
�أن عمري مل يكن يتجاوز ال�ستة ع�رش عاما ً لكي �أبقى يف عملي وهوايتي التي �أحب.
وهنا �أقول �أن الكويت لي�ست ال�صحراء �أو �آبار النفط ،هي الكويت احلا�ضنة واملدر�سة
التي تعلمت منها كل �شيء ،فلقد كنت �أتابع جملة العربي تلك املجلة التي عرفتني
بالق�ضية الفل�سطينية وحتى بالعامل �أجمع ،وكنت �أتابع ال�صحف وخا�صة ر�سوم
الفنان املبدع �شهيد الإبداع ناجي العلي ،الذي كان ير�سم بال�صحف الكويتية وعلى
ما �أذكر �أنه كان ير�سم يف �صحيفة القب�س الكويتية ،ثم القب�س الدولية يف لندن .الكويت
التي �أجنبت فهد الأحمد ال�صباح الذي قاتل من �أجل فل�سطني يف جبال عجلون يف
الأردن ،فالكويت هي البلد امل�سلم الو�سطي ال املتطرف الأحمق ،فلقد تعلمت ال�صالة
و�أداء العبادات منذ طفولتي الأوىل ،كان والدي ي�صطحبني �إىل ال�صالة بامل�سجد كل
يوم ،وحتى عندما كنت �أتدرب كان التدريب يتوقف لأداء ال�صالة .وعندما كنت �أعمل
بامليكانيك �أو االلكرتونيات فلقد كنت �أوقف العمل من �أجل �أداء ال�صالة ،فال�صالة
�أ�صبحت جزءا ً ال يتجز�أ من �أموري اليومية .و�أذكر �أي�ضا ً �أن والدي كان ي�صطحبني
ل�سماع خطبة اجلمعة يف �أحد املدن املجاورة ملنطقة اجلهراء وذلك حلب والدي خلطب
م�شايخ الكويت.
بعد �أن حتررت الكويت ،انتقلت مع �أ�رستي للعي�ش يف عمان العا�صمة
الأردنية حيث كان والدي ميلك هناك منزالً ،ولكن مع انتقالنا بد�أت مرحلة
ق�صرية جدا ً لكنها مهمة جداً ،فلقد كنا بعد خروجنا من الكويت �إىل الأردن بحالة
مادية �صعبة جدا ً ولذلك ورغم �أين كنت �أدر�س� ،إال �أنني كنت �أعمل �أي�ضا ً يف �أحد
كراجات املدينة لعلي �أ�ساهم ولو بالقليل من م�رصوف البيت .ف�أنا يا مالكي
احلار�س يا ابنتي اجلميلة �أكرب �أخوتي مثل ِك متاماً.ولذلك حتولت هوايتي �إىل
عملي وحتى درا�ستي فلقد در�ست يف مدر�سة مهنية ق�سم امليكانيك ،وما �إن
انتهيت من درا�سة الثانوية العامة حتى �أدركت عدم قدرة والدي على تعليمي
باجلامعة .ولذلك قمت باال�ستدانة من �أحد �أقاربي مبلغا ً من املال ووعدته �أن
�أعيد املبلغ خالل عام واحد ،ولقد قمت بافتتاح كراج خا�ص يل قبل �أن �أكمل
عامي الثامن ع�رش.
14
عملت بجد دون كلل �أو ملل ،لكن دون فائدة فلقد كانت الأردن متر يف تلك
الفرتة ب�أو�ضاع اقت�صادية �صعبة جداً .وبعد مرور �أكرث من �ستة �شهور ،ومل
يحدث �أي تقدم ومع اقرتاب موعد �سداد الدين ،وموعد �إيجار الكراج وهو �إيجار
وجدت �أن الأبواب قد �أغلقت بوجهي ب�شكل كامل .ففي ُ دفع مقدما ً ملدة عا ٍم كامل،
تلك الفرتة كنت قوي اجل�سد ف�أنا ما زلت �أتدرب على اجلودو بعمان ب�شكل منتظم
عند نف�س املدرب الذي كان يدربني يف الكويت ،الكابتني «منري �سميك» فلقد ترك
هو �أي�ضا ً الكويت لي�ستقر يف الأردن وليدرب هناك ،يف نادي مكة الريا�ضي ،ولقد
كنت ميكانيكيا ً فنيا ً �إلكرتونيا ً ماهرا ً �أي�ضا ً فلقد مزجت الهواية بالدرا�سة ملدة
عامني باملدر�سة ال�صناعية ،ورغم كل ذلك؛ �أي القوة اجل�سدية وقوة املعرفة� ،إال
�أين كنت ال �أ�ساوي �شيئاً ،ال �أ�ساوي �شيئاً .وذلك لأين كنت فقرياً ،فقريا ً ومديوناً،
هل يعقل �أن تتجاوز ديوين اخلم�س �آالف دوالر ومل يتجاوز عمري الثامنة
ع�رشة بعد ،وهذه التجربة املريرة من العوز املايل وعدم القدرة على م�ساعدة
والدي و�أخوتي ال�صغار جعلتني �أدرك �أهمية املال .ولذلك وقبل حلول موعد
�سداد الدين بعدة �أ�شهر قررت �أن �أهاجر� ،أهاجر بعيدا ً لعلي �أح�صل على فر�صة
�أف�ضل ولعلي �أح�سن ظرويف املعي�شية ،و�أيف بوعدي الذي قطعته على نف�سي وهو
�إعادة الدين مبوعده املحدد ،و�إعالة عائلتي التي لوال ذلك املنزل الذي كنَّا منلكه
يف عمان لكنا قد ت�رشدنا يف الطرقات ،فوالدي كان كبري ال�س ّن فلقد تزوج يف �س ٍّن
مت�أخر ،و�أخوتي بد�أوا يكربون ويكرب م�رصوفهم وم�رصوف البيت .قدر اهلل يل
يف تلك الفرتة �أن يكون يل �صديق ا�سمه �أحمد ،له قريب يعمل يف كوريا اجلنوبية،
وكان �صديقي هذا قد قرر ال�سفر للعمل هناك عند قريبه ،وهنا طلب مني �أحمد
�أن �أملأ له طلبا ً لت�أ�شرية الفيزا ،فهو مل يكن يجيد اللغة االجنليزية وال حتى
العربية ،ف�أحمد مل يكمل تعليمه .ولذلك قمت مبلأ طلب الفيزا لأحمد ،وطلب �آخر
يل �أنا ،وما �إن جاءت املوافقة على الفيزا حتى قمت ببيع موجودات الكراج و�رشاء
تذكرة لل�سفر وعندها �أخربت �أحمد �أين �أريد ال�سفر معه لكوريا فرحب بذلك �أ�شد
ترحيب وذلك لعدة �أ�سباب ذكرها هو يل عندما �صعدنا �إىل الطائرة فلقد قال� :أنت
يا عبد اهلل قوي اجل�سد ويدك «طر�شا» ف�إذا حدثت معنا م�شكلة نحتاج للع�ضالت
15
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
ف�أنت موجود ،و�إذا احتجنا ملرتجم ف�أنت موجود� ،أما الأهم -ح�سب ر�أي �أحمد
-فهو قوله� :إذا ما تعطلت الطائرة باجلو ف�أنت موجود �أي�ضا ً كي ت�صلحها ،ولقد
كان جادا ً يف ذلك.
قبل موعد ال�سفر بيوم واحد �أبلغت والدي عن نيتي بال�سفر �إىل كوريا للعمل
هناك ،مل يعرت�ض بل بارك �سفري و�شجعني على الثبات والعمل اجلاد ،فلقد كان
والدي يثق بي جدا ً ويعلم �أين ل�ست من النوع امل�ستهرت ،فوالدي كان يتابع عملي
يف الكراج وتدريبي يف النادي ،كان يراقب ويتابع �صامتاً ،ويكرر تلك الكلمة التي
يرددها دائماً :لقد كربت قبل �أوانك يا ابني.
ودعت �أهلي وانطلقت �إىل املطار مع �أحمد و�أنا ال �أحمل معي �سوى تذكرة ال�سفر
فقط ال غري؛ فلقد دفع �أحمد �أجرة التك�سي ور�سوم اخلروج من املطار� .أحمد كان قد
خطب ابنة عمته قبل عامني من �سفرنا فهو �أكرب مني عمراً ،لكنه رغم كرب عمره �إال
�أنه كان من�سجما ً معي وكان ان�سانا ً طيبا ً جدا ً وب�سيطا ً جداً.
ما �إن �أقلعت الطائرة من مطار عمان حتى قال يل �أنه يريد العودة �إىل عمان مرة
�أخرى لقد تبدل حما�سه الكبري �إىل فتور وت�شا�ؤم .حاولت �أن �أغيرّ ر�أيه لكنه �أ�رص
على العودة �إىل عمان رغم �أنه حتدى �أهله و�أهل خطيبته الذين كانوا يرف�ضون
�سفره ،ورغم كل الإ�رصار �إال �أنه حول ذلك الإ�رصار �إىل �إ�رصار معاك�س م�رصا ً
على العودة وعدم ال�سفر ،وما �إن و�صلت الطائرة �إىل كوريا بعد مرورها بالبحرين
وهونغ كونغ ،حتى �أ�رص بكل ما �أوتي من قوة على العودة.
حاولت �أن �أحجز له تذكرة لكي يعود �إال �أين مل �أجد طائرة ت�سافر بذلك اليوم،
فانتظرنا يف املطار يومني حتى حجزت له تذكرة و�أو�صلته لبوابة املغادرين ليغادر
عائدا ً �إىل عمان دون �أن يرى كوريا .غادر هو تاركا ً يل عنوان قريبه يف كوريا وودعته
�أنا بعد �أن قمت بعمل جنوين.
نعم يا مالكي احلار�س ،فلقد �أر�سلت مع �أحمد جواز �سفري وتذكرة عودتي
�إىل عمان و�أر�سلت معه ر�سالة قلت بها لوالدي �أين لن �أعود قبل �أن �أحقق ما حلم
بتحقيقه ،وطلبت من �أحمد �إي�صال الأمانة والطلب من والدي الدعاء يل واالحتفاظ
بجواز �سفري حتى �أطلبه منه.
16
جيوبي خالية ،فال مال لدي ،وال تذكرة للعودة ،وال جواز �سفر ،كل ما معي هو
عنوان مكتوب على ورقة ،و�إ�رصار بالنجاح ورغبة بالتحدي.
هنا يجب �أن �أقول �أن �أحمد قد عاد �إىل عمان لأنه كما قال يل عرب الهاتف فيما بعد
�أن عمته �أي حماته قد عملت له عمالً عند �إحدى ال�ساحرات ،عمل مينع �أحمد من
�سئلت عن ر�أيي ،ف�أقول اهلل
ُ ال�سفر ،بعيدا ً عن خطيبته بعيدا ً عن بيته يف عمان� ،أما � ْإن
�أعلم عن ال�سبب احلقيقي لعودة �صديقي �أحمد لعمان.
عدت اىل جيوبي الفارغة و�أخرجت منها العنوان ،و�س�ألت �أحد موظفي
اال�ستعالمات باملطار ،ذلك املوظف الذي ر�سم يل العنوان على �إحدى اخلرائط
اخلا�صة بال�سياح فلقد قلت له �أين �أريد الذهاب ما�شيا ً على قدمي فر�سم يل العنوان
وانطلقت بعد �أن �أم�ضيت ليلتي نائما ً بحديقة املطار ،نائما ً على الع�شب الرطب
م�ستيقظا ً على بخاخات املياه التي �سقت الع�شب �صباحاً ،فا�ستيقظت و�رشبت من
تلك املياه ،وبد�أت رحلتي �إىل الأمل ،احللم الذي �أ�صبح حقيقة.
فلقد بقيت طوال ثالثة �أيام وليلتني �أ�سريا ً يف النهار ،و�أنام يف الليل ،وال �آكل وال
�أ�رشب ،ولكني كنت �أ�رشب من املياه من احلدائق العامة حتى و�صلت �إىل العنوان،
و�صلت متعبا ً غارقا ً مبياه الأمطار� ،أ�شعر باحلر تار ًة وبالربد تار ًة �أخرى ،و�صلت
�إىل العنوان الذي مل يكن �سوى عنوان م�صنع لق�ص الأ�شجار يف �إحدى الغابات ،كان
قريب �أحمد قد ترك العمل بامل�صنع منذ مدة طويلة ،وانتقل �إىل مكان �آخر ولكن حل�سن
احلظ �أنه كان هناك عمال �أجانب يعني عمال غري كوريني ،عمال باك�ستانيني م�سلمني.
رحب بي �أحدهم ،و�أوجد يل عمالً بنف�س اليوم مب�صن ٍع جماور ،هناك يف تلك الغابة
ومب�صنع الأخ�شاب هذا عملت طوال خم�سة و�أربعني يوماً ،قبل �أن �أ�ستلم �أول ٍ
راتب
يل فلقد كان النظام هناك �أن نعمل �شهرا ً كامالً و�أن نرتك ت�أمينا ً ملدة خم�سة ع�رشة
يوما ً لدى امل�صنع.
عملت و�أنا ال �أملك املال ل�رشاء الطعام ،فلقد كنت �أتناول وجبة ُتقدم من امل�صنع يف
ال�ساعة العا�رشة وهي وجبة خفيفة جدا ً ووجبة �أخرى تقدم �ساعة الظهرية للغداء،
عملت ب�صمت و�أتقنت ما �أعمل.
كنت �أدون الكلمات الكورية و�أحفظ معانيها لكني مل �أكن �أملك املال ل�رشاء
17
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
القامو�س ،لكني كنت �أمتلك �شيئا ً �آخر .فلما ّ كنت �أنام بتلك الفرتة ب�أحد الغرف امللحقة
كنت بعد انتهاء العمل �أحاول اقتحام جهاز الكمبيوتر املوجود بغرفة بامل�صنع ،فقد ُ
ا�ستطعت اقتحام ذلك الكمبيوتر ومعرفة كلمة
ُ اال�ستقبال؛ وبعد حماوالت طويلة،
املرور ،وبد�أت من خالل ذلك اجلهاز بتعلم اللغة الكورية عرب �أحد مواقع اجلامعات
الكورية ،ف�أنا �أجيد اللغة الإجنليزية ب�شكل جي ٍد جدا ً وذلك �س َّهل علي تعلم اللغة
الكورية عرب اللغة االجنليزية!!
كنت بعد ذلك �أجول بحرية يف ال�شبكة العنكبوتية التي كانت يف تلك الفرتة �أي
عام واحد وت�سعني ما تزال �صغرية جدا ً وحمدودة �أي�ضاً .و�أعتقد �أن ذلك هو ما كان
الدافع بالإ�ضافة للملل لكي �أبد�أ باقتحام املواقع االلكرتونية ولكني مل �أكتف بذلك
�أي�ضاً ،فلقد كنت بعد مرور ما يقارب الثالثني يوما ً على و�صويل �إىل كوريا وعلى
عملي يف امل�صنع ،قد ا�شتقت لالت�صال بوالدتي ووالدي لالطمئنان عليهما وخا�صة
بعد عودة �أحمد.
ولأنني ال �أملك املال الالزم ل�رشاء كرت هاتف االت�صال فلقد قررت �أن �أقتحم
�رشكة االت�صاالت الكورية وخالل خم�سة �أو �ستة �أيام متكنت من فك �شفرة
االت�صاالت الكورية ولقد �أ�صبحت �أجري املكاملات الهاتفية ب�شكل جماين طول فرتة
تواجدي بكوريا �أي طوال �ستة �أعوام حتى عندما حت ّولت ال�رشكة �إىل النظام الرقمي
بدل النظام ال�سابق فلقد ا�ستطعت �أن �أفك تلك ال�شفرة �أي�ضاً ،ومل � ِ
أكتف بذلك بل قمت
بفك �شفرة الهواتف اجلوالة ؛ وهنا حتولت احلاجة �إىل املال �إىل �سبب دخويل عامل
جديد علي وهو عامل (قر�صنة الكمبيوتر)؛ «الهاكرز» ،بعد �أن �أمتمت خم�سة و�أربعني
يوماً ،ت�سلمت راتبي وكان كبريا ً جدا ً يعادل راتب ثمانية موظفني يعملون يف الأردن.
�إال �أنني مل �أ�رصف من ذلك املبلغ �سوى القليل جدا ً على �رشاء بع�ض الطعام واملالب�س
واحتفظت بالباقي ،وما �إن جاء ال�شهر الثاين والراتب الثاين حتى كنت قد جمعت
مبلغ اخلم�سة �آالف دوالر ،وقمت على الفور ب�إر�ساله �إىل والدي مع مبلغ �آخر
م�رصوف للعائلة ،وهنا �سددت ديوين وبد�أت �أر�سل كل ما بقي معي من مال �إىل
والدي ،مما جعل و�ضع عائلتي يتح�سن ب�شكل كبري جداً ،بحمد اهلل.
وهنا �أقول احلمد هلل لأين طوال فرتة وجودي يف كوريا كنت �أحافظ على �صالتي
18
و�صومي وعبادتي بف�ضل اهلل ع ّز وج ّل ،وكنت �أي�ضا ً �أحافظ على �إبقاء لياقتي البدنية
على �أح�سن حال من خالل التدريب املكثف الذي كنت �أمار�سه بعد �صالة الفجر
ب�شكل يومي حلني موعد العمل.
بعد عدة �أ�شهر على هذا احلال قررت ترك العمل يف ق�ص الأ�شجار واملنجرة،
والتوجه للعمل مبكان �أمار�س فيه هوايتي �أي امليكانيك ،فعملت مب�صنع لل�صناعات
البال�ستيكية وبعد فرتة �أ�صبحت عامالً وميكانيكيا ً للآالت يف امل�صنع.
�أما يف �أوقات ما بعد الع�رص فلقد �أردت �أن �أكمل هذه الهواية يف �أوقات ما بعد الدرا�سة،
فقمت بالت�سجيل يف �أحد معاهد الهند�سة ودر�ست تخ�ص�ص االلكرتوميكانيكا؛ �أي
االلكرتونيات وامليكانيك.
وهنا يا ابنتي احلبيبة ويا مالكي احلار�س �أقول ل ِك �أين كما يقال ل ِك مل �أكن
�أملك قلبا ً �أبدا ً �أبداً ،بل كنت �أملك عقلني اثنني :عقل يتقن جمع املال ،وعقل �آخر
أ�صبحت قر�صان كمبيوتر وقر�صان �شبكات ُ من�صب على حتدي القانون ،فلقد �
االت�صاالت ،ولكن الأهم هو ذلك العقل الذي خ�ص�صته لفل�سطني فلقد تعلمت
املتفجرات والعبوات النا�سفة؛ تعلمت ذلك من م�صادره الأ�صلية :من املواقع
الع�سكرية املوجودة يف �شبكة الإنرتنت .فتعلمت الكثري ،وحولت تلك املعرفة �إىل
خربة عملية .فلقد كنت �أم�ضي عطلة نهاية الأ�سبوع يف كوريا هناك يف الغابات
تار ًة �أفجر عبوة وتار ًة �أجرب مادة حارقة جديدة ،وهنا ا�ستطعت �أن �أدمج ما بني
�صناعة املواد املتفجرة و�صناعة املواد االلكرتونية الالزمة لتفجري تلك املواد،
ف�أ�صبحت خبريا ً بكلتي الناحيتني ف�أنا من ي�صنع املواد املتفجرة ،و�أنا �أي�ضا ً من
ي�صنع الأدوات االلكرتونية اخلا�صة بها.
كان ذلك �صعبا ً جدا ً ومعقدا ً جدا ً لكني كنت �أحبه جدا ً فهو �أ�صبح هوايتي
يف بالد الغربة كوريا� .أما ريا�ضة اجلودو فلقد تطورت معي هي الأخرى فلقد
بد�أت �أتدرب بنا ٍد خا�ص وجمعت تدريبي على اجلودو بالتدرب على التايكواندو،
فالكوريون ال يحبون ريا�ضة اجلودو لأنهم ب�شكل عام ال يحبون اليابانيني،
فاجلودو ريا�ضة يابانية ،واليابان كانت قد احتلت كوريا لفرتة طويلة جداً ،ولذلك
فالكوريون ال يحبون �أي �شيء ي�أتي من اليابان مهما كان حتى الريا�ضة ،حتى
19
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
اجلودو حبيبتي مل يكونوا يحبونها فلذلك تعلمت التايكواندو فهي ريا�ضة كورية
�أ�صلية ،فتعلمتها وبخا�صة تلك املراحل اخلا�صة بقتال ال�شوارع �أو ما يعرف
بقتال القوات الع�سكرية اخلا�صة.
وبد�أت بالرتدد على النوادي املخت�صة مبو�ضوع القن�ص على ال�سالح ،ورغم �أنها
مكلفة جدا ً �إال �أين ا�ستفدت منها ب�شكل جيد جيداً.
وهنا يا ابنتي �أكملت احللقة ب�شكل كامل من العبوات املتفجرة �إىل القن�ص �إىل قتال
التايكواندو :قتال القوات اخلا�صة� .أما �إن �س�ألتني عن دافعي لذلك كله ف�أقول ل ِك �أن
الدافع كان جدتكِ� :أمي .ففي تلك الفرتة كانت االنتفا�ضة قد �شارفت على نهايتها
(انتفا�ضة احلجارة) ،وكان بالل ابن عمي الذي تربى معي يف الكويت قد �سافر مع
�أهله �إىل فل�سطني فقد كان ميلك هوية فل�سطينية� ،أما �أنا و�أهلي فلم نكن منلك تلك
الهوية ولذلك بقينا يف عمان.
يف فل�سطني �أ�صيب بالل ،ابن عمي و�صديقي والنا�شط بكتائب عز الدين الق�سام،
�أ�صيب بر�صا�صة ببطنه �أفقدته �إحدى كليتيه ،ولقد مكث يف امل�ست�شفى فرتة طويلة
جدا ً ولأن االت�صاالت كانت مقطوعة بني الدول العربية وبني فل�سطني املحتلة فلقد
كنت حلقة الو�صل بني �أبناء عائلة الربغوثي وبخا�صة �أمي ،و�أعمامي بعمان ،وبني
فل�سطني املحتلة ولذلك كنت �أتابع �أخبار بالل امل�صاب الذي كاد �أن ي�ست�شهد وكدت
�أن �أفتح له بيت عر�س لل�شهادة يف كوريا .بالل كان قد فقد ابن عمه ،وعمه �شهداء يف
بداية االنتفا�ضة الأوىل وها �أنا �أكاد �أن افقده بنهاية نف�س االنتفا�ضة.
فكان ذلك هو دافعي الذي حولني �أول مرة من طفل �إىل �شاب م�صمم على مقاومة
االحتالل وهو �أي�ضا ً ما دفعني بعد �أن �أ�صبحت �شابا ً �أن �أ�صبح رجالً ال هدف عنده
�سوى مقاومة ذلك االحتالل ،فاالحتالل هو �سبب ت�رشد عائلتي ،وهو �أي�ضا ً �سبب
فقري فلو كنت �أحيا بفل�سطني ملا كنت م�رشدا ً فقرياً ،الجئاً� ،أو نازحا ً يف �إحدى
خميمات ال�شتات.
وهنا ال �أحتدث عني �أنا عبد اهلل الربغوثي بل عن كل فل�سطيني ت�رشد وعا�ش
م�أ�ساة املجتمعات بال�شتات وبالغربة ،كان كرهي لالحتالل يكرب ويكرب فلقد تركت
العمل مب�صنع البال�ستيك و�أ�صبحت �أعمل مرتجما ً للغة الكورية ب�إحدى ال�سفارات
20
العربية و�أ�صبحت �أتاجر بال�سيارات امل�ستعملة عرب ت�صديرها للأردن و�إىل اليمن.
�أ�صبحت ثريا ً و�أ�صبح يل عقالن لكني بال قلب ،قلب يحب ويع�شق رغم �أن الفتيات
كن يطاردنني ،وكن ي�سبّنب يل احلرج ال�شديد ،وذلك لأين كنت �أ�صدهن عني ب�شتى
الو�سائل وال�سبل ،واهلل �إن �صد الفتاة �أ�صعب �ألف مرة من ا�ستمالتها.
ولذلك قررت �أن �أتزوج� ،أتزوج بال حب وبال م�شاعر ،فتزوجت فتاة كورية
كانت تدر�س الآداب والفنون اجلميلة ،تزوجتها وبقيت على حايل �أعمل و�أتدرب على
هواياتي التي �أحب :هواياتي التي �أق�سمت �أن تكون و�سيلتي لتحرير بالدي ،لتحرير
القد�س والأق�صى لتحرير الإن�سان من جربوت االحتالل .مل ي�ش�أ اهلل �أن تبقى الأمور
على حالها فلقد اندلعت مواجهات بني طلبة جامعة �سي�ؤول وبني قوات ال�رشطة
ف�شاركت
ُ الكورية على خلفية اغت�صاب عدد من اجلنود الأمريكيني لفتاة كورية
بتلك ال�صدامات وبد�أت ب�إلقاء قنابل امللتوف احلارقة ،فاعتقلت ولوال تدخل ال�سفري
مت �إبعادي �إىل الأردن ،مكبالً بالقيود ..لقد ركبت اليمني ملا خرجت من املعتقل ،و ّ
الطائرة طوال الرحلة و�أنا مكبل اليدين والقدمني حتى و�صلت �إىل عمان.
ولقد كانت زوجتي الكورية (مي �سن �أوكي) �-أ�سميتها �أنا (�إ�رساء) -قد و�صلت
قبلي �إىل عمان ،ومت احلجز على ما كنت �أملكه من مال يف البنوك الكورية ما يقارب
عدت فقريا ً مرة �أخرى ،عدت العامني ،ولذلك فرغم ما �أملكه من مال يف البنك �إالّ �أين ُ
بال مال ،كما �سافرت.
ي�شهد اهلل �أين و�صلت لعمان ومل يكن معي قر�شا ً واحداً .هناك كان �صديقي �أحمد
�شويا�ش ينتظرين مع زوجتي ووالدي ووالدتي لي�أخذين ب�سيارته �إىل منزل �أهلي.
�أحمد كان قد تزوج و�أجنب عدة �أطفال� ،أما �أنا فلم تكن زوجتي «مي �سن» قد �أجنبت.
فلقد كانت تعاين من م�شكلة يف الإجناب وبعد عدة �أعوام من املحاولة يف كوريا ويف
عمان ا�ستمرت �ستة �أعوام وب�سبب ال�ضغوط الكبرية التي مور�ست علي من قبل
من هم حويل با�ستثناء �أمي و�أبي ،فهما مل ي�ضغطا علي �أبدا ً �أبدا ً يف هذا املو�ضوع� ،أما
خاالتي فلم يق�رصن بال�ضغط علي وحتى بال�ضغط على �أمي.
بعد مرور عامني ا�ستطعت عن طريق ال�سفارة الكورية يف عمان �أن �أح�صل كل
ما كنت �أملكه بكوريا من اموال و�أن �أبد�أ عدة �أعمال ناجحة يف عمان؛ فا�ستطعت �أن
21
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
�أمتلك م�سكني اخلا�ص و�سيارة .وكنت يف تلك الفرتة �أحيا و�أعي�ش ببحبوحة كاملة،
مما كثف ال�ضغوط علي لإيجاد حل مل�شكلة عدم �إجناب زوجتي ،فقررت �أن �أتزوج
عجزت عن �إيجاد عالج ُ عليها .وي�شهد اهلل �أين مل �أقدم على هذه اخلطوة �إال بعد �أن
لها ،فلقد كنت حمتاجا ً �إىل الأبناء والبنات ليكملوا فرحتي.
يف تلك الفرتة كنت قد جتاوزت اخلام�سة والع�رشين ،حاولت �أن �أقنع «مي �سن»
�إال �أنها رف�ضت ذلك ب�شكل قاطع وكانت تلك هي املرة الأوىل والوحيدة طوال فرتة
زواجنا التي امتدت ما يقارب �ستة �أعوام ال ترف�ض يل طلبا ً رغم تفهمها للأ�سباب،
�إال �أنها رف�ضت« ،فمي �سن» كانت تعتربين جزءا ً منها ال ميكنها اال�ستغناء عنه
�أبد�أً ،فعندما كنت �أتدرب يف النادي كانت ترافقني �إىل النادي وجتل�س على �أحد
املقاعد �صامتة وتراقبني ،كانت دائما ً حويل ومعي تعد يل �أف�ضل و�أجود الطعام،
ت�سهر على راحتي وترعاين وك�أين ابنها �أو �أبوها الكبري ،كانت حتبني ،نعم كانت
حتبني جداً ،بل حتبني �أكرث من �أي �شي ٍء �آخر بهذه الدنيا ،فلقد قالت يل كيف
�أ�ستطيع �أن �أقت�سم دنياي مع زوجة �أخرى� ،أما �أنا فال �أدري �إن كنت �أحبها ،فكما
قلت ،مل يكن عندي �أ�صالً قلب لأحب ،لكنني تعودت عليها وتعودت على وجودها
يف حياتي ،فهي زوجة �صاحلة هادئة مطيعة ،و�أنا مل �أق�رص معها ب�أي �شيء طوال
فرتة زواجنا ،فهي كانت ترى �أنه ال يوجد �أي اهتمام عندي بالن�ساء ،فكل اهتمامي
حم�صو ٌر بالعمل والتدرب.
ال�رس الوحيد الذي كنت �أخفيه عنها هو هوايتي ب�صناعة العبوات النا�سفة ،فتلك
رسا ً مق ّد�سا ً مل �أ�رشك به �أحدا ً طوال تلك الفرتة.
الهواية كانت �رسية جداً ،كانت � ّ
هي رف�ضت �أن �أتزوج عليها و�أنا �أ�رصرت ،فانف�صلنا ،وكان هذا االنف�صال
غريباً ،غريبا ً جداً ،انف�صلنا ك�أ�صدقاء ،حتى �أين ذهبت �إىل �أحد حمالت املجوهرات
وا�شرتيت لها عدة �أطقم من الذهب ومن املالب�س ومن الهدايا لوالدتها ووالدها،
و�أو�صلتها �إىل املطار مودعا ً �إياها حزينا على الفراق .بقيت على هذا احلال عدة
�أ�شهر ال �أكلم �أحدا ً وال �أطيق �أحداً� ،أم�ضي وقتي يف العمل ،العمل وال �شيء �سوى
العمل ،حتى فل�سطني فلم �أكن ب�شوق لها بل مل �أكن �أبايل ب�أخبارها �أبداً� .أما �سبب
ذلك فهو دخول �سلطة الف�ساد والإف�ساد �سلطة �أو�سلو ،تلك ال�سلطة التي ت�ضم
22
جمموعة من الفا�سدين القذرين املرت�شني� ،أولئك الل�صو�ص الذين مل يكتفوا ب�أن
�رسقوا مال الثورة والثوار بل �رسقوا دماء �شهداء االنتفا�ضة الأوىل ،انتفا�ضة
احلجارة فباعوا دماء ال�شهداء من �أجل �أن يعودوا بف�سادهم �إىل فل�سطني،
يعودوا ليدن�سوها.
�صببت اهتمامي على �أعمايل وجتارتي التي بد�أت تكرب ف�أ�صبحت ال �أدخل بيتي
�إال من �أجل النوم ،فكل وقتي يف العمل طوال �أيام الأ�سبوع ال�سبع ،فلقد كنت حزينا ً
بل تائها ً نوعا ً ما؛ تائها لأنني ال �أعلم ماذا �أفعل مبو�ضوع الزواج ،ف�أنا كنت �أعي�ش
حياة �سعيدة جدا ً مع زوجتي ال�سابقة ،رغم عدم حبي لها .كنت �أرى من هم حويل
من �أخوال و�أعمام و�أ�صدقاء مل ال يعي�ش احد منهم مبثل تلك ال�سعادة التي ع�شتها
بل �إن كثريا ً منهم كانوا تع�ساء ،رغم �أن عندهم الكثري من الأوالد .كنت �أخ�شى �أن
�أتزوج ف�أ�صبح واحدا ً مثلهم� ،أخ�شى �أن ت�صبح زوجتي هي القيد الذي يقيدين،
ولذلك قررت �أن �أ�سافر �إىل �إ�سبانيا :بر�شلونة حتديدا ً حيث يعي�ش ابن خايل وهو
ٌ
ورفيق يل. ٌ
�صديق يحمل اجلن�سية الإ�سبانية وهو �أي�ضا ً
يف تلك الفرتة بد�أت ب�إعداد الأوراق الالزمة لل�سفر ،وبد�أت �أ�صغر �أعمايل يف
الأردن ،حتى جاءت العا�صفة بل حتى الت�سونامي الذي ال ميكن لأحد ال�صمود
بوجه ذلك الت�سونامي وتلك العا�صفة :انها �أمي� ،أمي الهادئة الطيبة احلنونة التي
تبكي �إذا ما �شاهدت م�شهدا ً حزينا ً على التلفاز� ،أمي �أ�صبحت عا�صفة هوجاء بكل ما
حتمل الكلمة من معنى.
فقد علمت عن طريق ال�صدفة من زوجة خايل �أين �أرتب لل�سفر عند ابنها يف �إ�سبانيا،
فجن جنونها ،فذهبت �إىل منزيل-الذي مل تكن قد دخلته منذ طالقي للكورية-
فوجدت �أن منزيل على حاله مل يتغري عليه �شي ٌء �أبداً ،ف�صور الكورية متلأ املنزل
ومالب�سها � -أو ما بقي من تلك املالب�س -متلأ اخلزائن ،وجدت كل �شيء على حاله،
وكنت بعملي فارا ً من تلك الذكريات ،وهنا قامت العا�صفة ،فبد�أت �أمي بجمع كل
ما ميت للكورية ب�صلة :ال�صور املالب�س وحتى الطعام الكوري ،البهارات الكورية
الكتب الكورية و�أ�رشطة الفيديو الكورية والأجنبية حتى �ألبوم �صور الزواج جمعت
كل ذلك بعدة �أكيا�س للقمامة و�ألقته� ،ألقته يف القمامة.
23
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
عدت بعد منت�صف الليل لأجد �أمي تنتظرين يف البيت ،البيت الذي مل �أعرفه
عندما دخلته فلقد حولته �إىل بيت فل�سطيني �أ�صيل ،متلأ اجلدران �صور القد�س
وخرائط فل�سطني اخل�شبية ،تلك اخلرائط اخل�شبية التي كنت �أ�صنعها قبل �أن
�أ�سافر �إىل كوريا ،فلقد كنت بعد عودتي من الدرا�سة والعمل� ،أدخل �إىل غرفتي
لأ�صنع جم�سمات جت�سد القد�س وجت�سد خارطة فل�سطني وكنت �أوزع تلك
املج�سمات على منازل �أخواتي و�أعمامي و�أ�صدقائي ،مل تكن جميلة ولكنها
كانت فل�سطينيَّة �أ�صيلة ت�صنع من خ�شب الزيتون وي�صنعها عا�شق لفل�سطني،
وحمب للقد�س.
نظرت حويل فلم �أجد املا�ضي القريب :مل �أجد كوريا ،بل وجدت املا�ضي البعيد
فل�سطني ،وجدتها معلقة على جدران منزيل ،لكني مل �أجد نف�سي ،مل �أجد عبد اهلل
اجلمل ،حتى بدلة اجلودو اخلا�صة بي فلقد ا�ستعملتها �أمي كمم�سحة وو�ضعتها
على الباب اخلارجي .وعندما �س�ألتها قالت يل� :أنها قدمية جداً ،ا�شرت غريها ،بل
ال ت�شرت غريها ،ا�سمع يا عبد اهلل� ،أق�سم باهلل العظيم �أين �سوف �أغ�ضب عليك ولن
�أر�ضى �أبدا ً ولي�شهد ربي علي �إن مل متتنع عن ال�سفر و�إن مل تتزوج فوراً .قل يل الآن
ما هي موا�صفات الزوجة التي تنا�سبك قل وال تخ�شى ،اذكر موا�صفاتها و�أنا �سوف
�أجدها لك ،كل ما عليك �أن تقول و�أن تن�سى الكورية ،ف�أنا �أي�ضا ً كنت �أحب الكورية
فلقد كانت مبثابة ابنة يل كانت طيبة وحنون لكن هذا كان قدرها ،قل يل يا ولدي ما
هي املوا�صفات وال توجع قلبي.
كنت �أعلم �أن قلب �أمي مري�ض ،بل مري�ض جداً ،فلقد �أجرت قبل فرتة عملية به،
�أمي التي تقول �أنها �سوف تغ�ضب علي �إن مل �أمتنع عن ال�سفر و�إن مل �أتزوج.
�آه يا �أمي� ،ألي�ست اجلنة حتت قدميكِ ،فكيف �سوف �أقبل �أن �أغ�ضبكِ.
�أماه ال تغ�ضبي مني� ،أماه ال تغ�ضبي علي ،ف�أنا املطيع فار�ضي علي ،وار�ضي
على ما قدمته يدي.
�صمت قليالً وقلت ح�سنا ً لن �أ�سافر ،فنظرت �إيلَّ وقالت :ماذا عن الزواج؟
قلت ن�ؤجله قليالً حتى ،..قالت :حتى ماذا ،حتى تن�سى يا ولدي؟ ال ينا�سبك �إال
الزواج .قلت ح�سنا ً لكن ح�سب �رشوطي.
24
�أوالً� :أريدها من هناك من فل�سطني ،ثانياً� :أريدها من عائلتنا برغوثيّة �أبا ً عن جد،
ثالثاً� :أريدها متعلمة (يف جمال تربية الأطفال) ف�أنا ال خربة يل وال جلد عندي على
الأطفال ،رابعاً :ال �أريدها �أن تعمل ،ف�أنا والأطفال �سنكون عملها و�شغلها ال�شاغل،
خام�ساً :وهو الأهم �أريد من �أبيها �أن يكون هو رجل املنزل ال �أمها ،ف�أنا ال �أريد زوجة
قوية حتول حياتي �إىل جحيم من امل�شاكل ؛ وال�سالم ختام.
نظرت يل �أمي وقالت� :شقراء وبي�ضاء ،طويلة وممتلئة ،جميلة �أال يوجد �شيء
من ذلك؟ ف�ضحكت وقلت :ال �أبدا ً �أبداً ،ف�أنا يا �أمي كنت حزينا ً يف بداية طالقي
للكورية على الكورية ،ولكن فيما بعد �أ�صبحت حزينا ً على نف�س الأ�شياء �أخاف �أن
ال �أجد فتاة مثلها.
وهذا هو �سبب رغبتي بال�سفر للخارج حتى �أتعرف على فتاة �أعرفها و�أفهمها ثم
�أتزوجها� ،أما هنا بعمان فهذا �صعب علي �أو بالأحرى �أنا ال �أريده ،فلم �أجد يف عمان
من تنا�سبني بعد الكورية.
تركتني والدتي وعادت �إىل املنزل .والدي مل يكن هناك بل كان يف فل�سطني .فلقد
قرر والدي منذ مدة �أن يزور فل�سطني لر�ؤية الأهل والأقارب ،ولكنه بعد ذلك قرر �أن
يطيل زياراته لفل�سطني لرعاية �أرا�ضيه التي ورثها عن جدي.
وال �أدري �أكان وجود والدي يف فل�سطني يف تلك الفرتة من �سوء حظي او من
ح�سنه ،فبمجرد �أن ات�صلت �أمي ب�أبي يف تلك الليلة حتى وجدت �أمي تقف على
ر�أ�سي يف ال�صباح الباكر ،لتوقظني وتقول يل �أنها وجدت يل العرو�س املنا�سبة،
باهلل يا �أمي خالل �أقل من خم�س �أو �ست �ساعات وجدت عرو�سا ً مبوا�صفاتي التي
كنت �أظن �أنها تعجيزية؟ فلقد تركت �أمي منزيل يف ال�ساعة الثانية ليالً وعادت �إليه
يف ال�ساعة ال�سابعة �صباحاً ،فمنزيل ومنزل والدي يف نف�س العمارة� ،أمي وجدت يل
عرو�ساً ،قلت ح�سناً .قالت �أعطني جواز �سفرك واذهب به لتح�صل على فيزا لكي
ت�سافر �إىل فل�سطني.
قلت وما زال النعا�س يطاردين� :أتريدين جواز ال�سفر �أم ماذا؟ قالت :ال �أريد
جواز ال�سفر� .أريد �أن تذهب الآن لتح�صل على فيزا وت�سافر لدى العرو�س ،هناك
يف فل�سطني.
25
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
باهلل �سوف �أذهب لفل�سطني التي مل �أعد �أحبها �أمل �أقل يف �إحدى الأيام عندما �س�ألت
عن حال فل�سطني بعد دخول ال�سلطة :
معتوهة جمنونة تلك البالد
ُظل ٌم قت ٌل وبيوت ا ِ
حلداد
عاثوا بها خرابا ً وا�ستبدادا ً
قتلوا الأم والطفل الوليد
هذه فل�سطني التي ال �أحب ،فل�سطني التي ال �أريد ،كيف �أذهب لفل�سطني التي ما
عدت �أحب ،لكي �أبحث عن فتاة �أحب� ..أعني يا اهلل.
ما هي �إال عدة �أيا ٍم حتى ح�صلت على ت�أ�شرية للزيارة ..ودعت �أمي وقلت لها �أين
ذاهب يف رحلة مع �أ�صدقائي ،وبعد عودتي �سوف �أذهب �إىل فل�سطني.
مل �أذهب برحل ٍة خارج فل�سطني ،بل ذهبت برحلة �إىل فل�سطني ،فلقد كان يل �صديق
مقد�سي ثري انتظرين هناك على املعرب� ،أو كما ي�سمونه على اجل�رس. ِّ وهو تاجر
عربت اجل�رس �إىل فل�سطني ،لكني مل �أ َر فل�سطني بل ر�أيت �أعالم ال�صهاينة متلأ �أرجاء
املكان .و�صلت مت�أخرا ً رغم �أين خرجت مبكرا ً فلقد ا�ستوقفني املحتلون ليخ�ضعوين
لال�ستجواب عن �أحوايل وعن ماذا كنت �أعمل ،وبخا�صة �أنها �أول زيارة يل لفل�سطني.
كانوا يتحدثون معي باللغة العربية املك�رسة نوعا ً ما ،فرف�ضت �أن �أجيب بالعربية
وبد�أت �أحتدث بالإجنليزية مما جعلهم يح�رضون مرتجما ً للغة الإجنليزية� ،أال
يكفي �أنهم احتلوا �أر�ضي وقد�سي ويريدون �أن يحتلوا لغتي؟ �سوف �أحدثكم
بلغة ذلك الوغد احلقري بلفور الذي م ّكنكم عرب وعده امل�ش�ؤوم من احل�صول على
�أر�ضنا املباركة ..لكن لن ميكنكم من احل�صول على لغتي ،حتى �أن املرتجم حاول
�أن يتحدث باللغة العربية �إال �أين مل �أنطق حرفا ً واحدا ً بتلك اللغة وقلت له� :إن كانت
اللغة االجنليزية �صعبة عليك ،ابحث عن مرتجم للغة الكورية .غ�ضب هو� ،أما �أنا
فلم �أغ�ضب بل كنت �سعيدا ً و�سعيدا ً جدا ً لأين �أغ�ضبته فلقد �شعر بالإهانة� .أم�ضيت
عدة �ساعات حتى جاء امل�ساء وعندها وبدون مقدمات �أعطوين جواز �سفري وقالوا
يل اعرب ،فعربت �إىل فل�سطني .مرحبا ً قال يل �صديقي لقد ت�أخرت ،ح�صل خري �شو
26
ر�أيك تروح على «فيلتنا» التي ب�أريحا فهي قريبة جدا ً خم�س دقائق من هنا ،مل �أتكلم
واكتفيت بهز ر�أ�سي باملوافقة.
فيال جميلة جداً ،وم�سبح كبري و�أ�شجار فاكهة رائعة ،هناك �أم�ضيت ليلتي
الأوىل يف �أريحا� ،أريحا و�أي �أريحا ر�أيت ،طلبت من �صديقي �أن ي�صطحبني بجولة
بداخل مدينة �أريحا� ،أريحا «غزة �أو�سلو» .ر�أيت بها قرية مهجورة حمرومة من
احلداثة ،قرية ال �أكرث فلم تكن �أريحا ً مدينة �أبداً ،ر�أيت بها قطيعا ً من ع�ساكر �سلطة
�أو�سلو :قطيعاً ،يقوده ذئب .بعد ذلك عدنا �إىل الفيال فطلب مني �صديقي �أن �أغري
مالب�سي ،و�أن �أرتدي �أجملها ،بل �أغالها ثمناً ،قبل �أن �أ�س�أله عن ال�سبب قال� :إياك
�أن ت�س�أل .باهلل عليك يا عبد اهلل �أن تفعل ما �أطلبه منك .فعالً ما هي �إال عدة دقائق
وكنت �أرتدي �إحدى بديل ،تلك البدل التي كنت �أف�صلها هناك يف كوريا عدم �أمتالكي
ثمن الطعام واملوا�صالت عندما و�صلت �إىل كوريا عندما م�شيت من املطار �إىل غابة
الأ�شجار� ،أ�صبحت ثريا ً اقوم بتف�صيل بدالتي وقم�صاين ،حتى �أين واهلل كنت
�أف�صل تلك الباليز التي ترتدي حتت القم�صان ،كنت �أُف�صل ربطات العنق من
احلرير ال�صيني الفاخر.
ارتديت �إحدى تلك البدل ،و�صعدت ب�سيارة �صديقي تلك ال�سيارة التي ال يقل
ثمنها عن ن�صف مليون� .صعدت و�صعد هو �أي�ضا ً فقاد ال�سيارة ،عدة دقائق و�صل
�إىل فندق فخم جدا ً جداً ،يف البداية مل �أ�صدق مثل وجود هذا الفندق يف مدينة �أريحا
�أق�صد يف قرية �أريحا ،لكن الفندق كان �ضخما ً وفخما ً ومبا �أين �أحمل جواز �سفر
�أجنبي ،ومبا �أن �صديقي ميلك هوية مقد�سية فلقد دخلنا هناك مثل دخول الفاحتني.
ما هي �إال عدة دقائق حتى علمت �أين يف كازينو �أريحا (يف ملهى ليلي ومرتع
للقمار والف�ساد) ،ر�أيت ذلك ب�أم عيني ،كازينو ب�أريحا قمة الف�ساد والإف�ساد يف �أول
مدينة ت�سيطر عليها ال�سلطة!!
قلت بنف�سي ح�سبي اهلل ،ح�سبي اهلل ونعم الوكيل ،قلت احلمد هلل �أن ذلك الكاتب
الفل�سطيني مريد الربغوثي الذي كتب كتاب ر�أيت رام اهلل مل يدخل �إىل هنا ،مل ي�شاهد
ما �شاهدته يف ذلك الوكر ،مل يكن القمار وال العاهرات� ،إمنا العاهرون رجال جهاز
الأمن الوقائي رجال جربيل الرجوب الذين يتولون حرا�سة الكازينو والإ�رشاف
27
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
الأمني عليه ،فلقد كلف بطل الأبطال جربيل الرجوب بت�شكيل جهاز حتت ا�سم
جهاز الأمن الوقائي ،ال اخت�صا�ص له �سوى حماية ال�صهاينة من املقاومة وحماية
الفا�سدين من الثائرين.
ظن �صديقي ب�أنيِّ لن �أطيل ال�سهر هناك ،ولكنه كان خمطئا ً فلقد �أطلت ال�سهر،
لي�س بلعب القمار ،وال مراق�صة العاهرات ،و�إمنا وا�صلت ال�سهر ،موجها ً ل�صديقي
ال�س�ؤال تلو ال�س�ؤال عن ما يدور هنا يف الكازينو وهناك يف رام اهلل وغزة.
قبل الفجر عدنا �إىل الفيال .و�ضعت حقائبي يف ال�سيارة وانطلقنا لن�صلي بالأق�صى
بالقد�س .انطلقنا من الكازينو وكر ف�ساد ال�سلطة �إىل القد�س املحتلة .ما �إن و�صلت
هناك حتى عادت يل روحي ،وعادت احلياة تدب بج�سدي من جديد �أ�صبحت حياً،
حيا ً �أرزق ،بالقد�س عادت يل ذاكرتي وحبي لفل�سطني ورغبتي يف القتال وعقاب
املحتل .هناك يا ابنتي احلبيبة هناك يا مالكي احلار�س� ،شعرت برغبة باحلياة.
لي�س للقد�س و�صف؛ رائحتها جميلة ،فلقد مررنا على خمبز ي�صنع الكعك املقد�سي
فا�شرتينا و�أكلنا ونحن نعرب �أزقة املقد�س .بعد �أن عربنا �أ�سوارها �أكلت الكعك فلقد
كنت جائعا ً فلم �آكل هناك بوكر الف�ساد بالكازينو ،ومل �أ�رشب حتى املاء ،رف�ضت �أن
�أدن�س ج�سدي بطعامهم ومائهم� .أما كعك القد�س فواهلل كان �أحلى و�أروع ما �أكلته
طوال عمري ،فرغم �أين كنت �أتناول الطعام يف �أفخم املطاعم يف كوريا وعمان ورغم
حبي لطعام �أمي لكني �أقول :ال �شيء يعلو على كعك القد�س ،يبقى قد�سا ً ال ي�ستطيع
�أحد �أن يدن�سه فهو الأق�صى املبارك به وحوله.
كان ذلك اليوم يا ابنتي هو �صباح يوم اجلمعة ،فطلبت من �صديقي �أن يرتكني
�أم�ضي يومي باملدينة ،وقلت له �أننا �سوف نعود �إىل منزله الثاين املوجود يف �أحد
�أحياء القد�س بعد ال�صالة� ،أحلحت عليه فوافق ،ودعته على �أمل �أن �ألقاه بعد ال�صالة
عند باب العامود ،فبد�أت �أجتول يف �ساحات القد�س ثم يف �أزقة القد�س ،تلك القد�س التي
�أحبها والتي طاملا حلمت ب�أن �أ�صلي بها ،ر�أيت امل�ستوطنني ،ر�أيت املحتلني ر�أيت الأم
الفل�سطينية ر�أيت القد�س ،رغم كل غ�ضبي على املحتلني �إال �أن غ�ضبي على ال�سلطة
والف�ساد والإف�ساد كان �أكرب و�أعظم.
بد�أت �أبيات ال�شعر يف تلك اجلولة املقد�سية حتوم حويل ك�أنها �رسب من ال�صقور
28
فقلت الأبيات التالية ،ال �أدري �أهي �شعر �أم �أي �شي ٍء �آخر.
�أظن �أن امل�شاعر �أ�صبحت كلمات ال �أكرث وال �أقل؛ ف�أنا يا ابنتي ل�ست �شاعرا ً وحتى
�أين ال �أخفي ِك �رسا ً �إن قلت لك �أين ال �أحب ال�شعر �أ�صالً.
قلت:
يف القد�س ماعاد لالنتظار مكان
يف القد�س ما عاد باملكان ان�سان
يف القد�س غر�ست انياب الطغيان
يف القد�س غر�س ال�صهاينة واال�ستيطان
يف القد�س ما عاد للحجارة ثمن
يف القد�س ما عاد ي�سمع �صوت االذان
يف القد�س غر�س املحتل احلزن
يف القد�س وغر�سه قاطعي الزيتون
يف القد�س ما عاد للقباب ملعان
يف القد�س ما عاد حي �سلوان
يف القد�س غر�س الظالم واجلنون
يف القد�س غر�س عط�ش الظم�آن
يف القد�س ما عاد زيت وزيتون
يف القد�س ما عاد امل�صلون ي�ؤمون
يف القد�س غر�س ظلم بال قانون
يف القد�س غر�س ق�ضاة ظاملون
يف القد�س ما عاد يطحن طحني
يف القد�س ما عاد عنب ورمان
يف القد�س غر�س الكره ال الغفران
يف القد�س غر�س اجلهل والطغيان
يف القد�س ما عاد هناك اديان
يف القد�س ما عاد هناك م�صلون
29
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
قلت تلك الأبيات يا ابنتي احلبيبة ويا مالكي احلار�س بعد �أن �صليت يف القد�س،
فقد �سمح يل بال�صالة يف الأق�صى لأين �أحمل جواز �سفر �أجنبي ومل ي�سمح
للفل�سطينيني ال�شباب بالدخول لل�صالة قلت تلك الكلمات بعد �أن ر�أيت �أول �شهيد
ي�صلى عليه� ،شهيدا ً ارتقى للعال على يد م�ستوطن حمتل قام بطعنه ب�أحد �شوارع
القد�س ،ف�صلوا عليه و�صليت ،وكربوا وهللوا فكربت وهللت ،قلت اهلل �أكرب اهلل �أكرب.
ولكن �أحدهم قال جملة �أ�صبحت هي حمور حياتي القادمة قال ذلك الفتى االنتقام
االنتقام يا كتائب الق�سام ،االنتقام االنتقام يا كتائب الق�سام ،فكررت من بعده وكرر
كل من كانوا هناك.
غ�ضبت وع�شقت و�صليت وذقت لأول مرة احلب ،فلقد �أحببت القد�س وقبة
ال�صخرة امل�رشفة من �أول نظرة ،بل ع�شقتها من �أول كعكة.
ت�أخرت على �صديقي لكنه بقي ينتظرين عند باب العامود �إحدى بوابات القد�س
30
ال�رشيف ،كان قلقا ً ب�سبب حادثة ا�ست�شهاد ال�شاب املقد�سي ،كان قلقا ً علي لكني كنت
قلقا ً على فل�سطني ،ذهبنا �إىل منزله الكائن ب�أحد �ضواحي القد�س ،فتناولنا الطعام
وبعد ذلك طلبت منه �أن يرتكني لكي �أنام ،ف�أنا مل �أكن قد منت منذ ليلة البارحة.
منت حتى امل�ساء ،ويف امل�ساء �أخذين لزيارة بيت حلم ،فتجولت بها وبكني�سة امليالد
و�أ�ض�أت �شمع ًة هناك على املذبح ،فامليالد مثل القد�س والقد�س مثل امليالد عندي،
بعد ذلك عدنا باجتاه اخلليل و�أم�ضينا ليلتنا هناك عند �أحد �أ�صدقائنا .بقيت طوال
فرتة ال�سهرة �أ�س�أل عن �أحوال فل�سطني و�أحوال اخلليل خليل الرحمن عن ق�صة ذلك
امل�ستوطن الذي قتل امل�صلني باحلرم الإبراهيمي ال�رشيف ،ق�صوا علي الق�صة.
�أهم ما قالوا مل يكن القاتل الذي قتل �شهداءنا يف تلك املجزرة الب�شعة ،وتلك
اجلرمية الدنيئة ،بل كان من ذلك املقاوم املهند�س يحيى عيا�ش ،ذلك املهند�س
الق�سامي الذي ث�أر وعاقب ال�صهاينة من خالل عملياته اال�ست�شهادية ،ومن خالل
مقاومته للمحتلني امل�ستوطنني .لقد �أحببت يحيى عيا�ش مثلما �أحببت القد�س متاماً،
فعيا�ش ذلك املهند�س الق�سامي �أعاد يل من خالل حديثهم عنه روح املقاومة وروح
الت�صدي للظلم والطغيان.
يف ال�صباح الباكر ذهبنا �إىل مدينة رام اهلل لكني وجدتها نائمة ،ظننت �أين �سوف
�أرى املظاهرات تخرج �ضد االحتالل ب�سبب ا�ست�شهاد ال�شاب املهند�س ،لكني مل �أرى
�سوى قطيع �أغنام الأجهزة الأمنية� ،أجهزة �أو�سلو التي متنع النا�س من اخلروج
للتظاهر �ضد االحتالل ون�رصة ال�شهيد..
قلت معاتبا ً مدينة رام اهلل وراثيا ً
وهنا يا ابنتي اجلميلة ويا مالكي احلار�سُ ،
حالها:
رام اهلل قومي ا�ستيقظي �أرجوكِ
و�أيقظي كل من �أحبوكِ
�أحزينة �أنتِ ف�أبك ــوكِ
على ال�شهداء الذين ودعوكِ
وحتالفوا مع املحتل فبالظهر طعنوكِ
رام اهلل قومي ا�ستيقظي �أرجوكِ
31
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
بعد �أن جتولت قليالً يف مدينة رام اهلل� ،ضاق �صدري مبواكب احلرا�سات
الفل�سطينية التي حتر�س كبار ال�شخ�صيات وهي جتول وت�صول يف املدينة امل�سلوبة
املنهوبة من قبلهم� ،أال يكفي �أن �سلبها املحتل ال�صهيوين� ،أال يكفينا ما حل بها� ،أم
هي بحاجة لأن يدخلها �أبطال �أو�سلو لكي ميار�سوا بطولتهم عليها ويزيدوا من
جراحها جراحا ً ؟
وهنا طلبت من �صديقي �أن ي�صطحبني بعيدا ً جدا ً �إىل البحر واىل املدن املحتله :
هناك اىل يافا وحيفا و�إىل اللد والنا�رصة .زرت تلك املدن التي رغم �أنها حمتلة ب�شكل
كامل �إال �أنها كانت خالية من قوات االحتالل ،فهي �أ�صبحت الآن من امل�سلمات بعد �أن
تنازل عنها املفاو�ض الفل�سطيني ،ذلك املفاو�ض الذي مل يفو�ضه �أحد لكي يبت ب�أمر
فل�سطني ،فاو�ض وباع وتنازل عن كل تلك الأرا�ضي التي احتلت قبل عام ،1948
ذلك املفاو�ض الذي ح�رص مطالبه يف ال�ضفة والقطاع وبع�ض ال�شوارع املجاورة
ملدينة القد�س.
ح�سبي اهلل ونعم الوكيل على كل من باع ذرة تراب من تراب فل�سطني ،فل�سطني
القد�س والأق�صى ،فل�سطني الفاحت عمر بن اخلطاب ،فل�سطني التحرير �صالح الدين،
باعوها وح�صلوا على «بطاقات ال�شخ�صية املهمة »VIPبدالً منها .ح�صلوا على
املواكب املرافقة ،وملأوا جيوبهم وح�ساباتهم البنكية؛ قب�ضوا ثمن كل قطرة دم
نزفت على تراب فل�سطني.
هناك يف النا�رصة زرت كني�سة الب�شارة و�أ�شعلت �شمعة فيها .ف�أنا يا ابنتي
تعودت �أن �أزور الأماكن التاريخية ،ولقد اكت�سبت هذه العادة من خالل درا�ستي
للأدب الكوري .فلقد زرت كل املعابد يف كوريا :معابد وكنائ�س وم�ساجد .ولذلك
�أ�صبحت �أرغب بالتعرف على الآخر ،على احل�ضارة وعلى العادات والتقاليد� .أما
على ال�شاطئ وعندما حل موعد الغداء فلقد �أكلت ال�سمك وما �إن اختلطت رائحة
ال�سمك امل�شوي مع رائحة مياه البحر ،حتى قلت كلمة ،بل جملة جعلت �صديقي يفر
من كر�سيه راجيا ً �إياي بال�سكوت.
لقد قلت �أق�سمت باهلل �أن �أحرر فل�سطني كل فل�سطني� ،أق�سم �أن �أجرد ال�صهاينة
منها ،و�أق�سم �أن �أجرد �أ�شباه رجال �أو�سلو منها ،وكررت ذلك خماطبا ً البحر.
32
كررت ما قلت وكان �صوتي يعلو ويعلو� ،أما �صديقي املقد�سي فكان يرجوين
ب�أن �أ�سكت ،مل �أ�سكت بل كررت ب�صوت �أعلى و�أعلى ،ولكني قلت تلك اجلمل بلغة ال
يفهمها �صديقي �أو من كانوا باملكان ،قلتها باللغة الكورية لغتي التي تعلمتها عندما
در�ست وعملت بكوريا ،فتحولت تلك اجلمل �إىل ما ي�شبه حلن ن�شيد جميل ،فل�سطني
كل فل�سطني ،وال �شيء �سوى كل الكل يف فل�سطني.
بعد �أن انق�ضى النهار وحل امل�ساء ،كانت �أول املدن ال�ساحلية الفل�سطينية تزداد
جماالً وت�ألقاً ،تناولت ع�شائي وطلبت من �صديقي �أن يو�صلني لقريتي� ،إىل بيت
رميا حيث منزل والدي حيث العرو�س تنتظرين.
يف الطريق �إىل القرية كنت �صامتا ً غارقا ً بالتفكري ،فلقد قررت �أنه مبجرد ر�ؤيتي
للعرو�س �أن �أقول ال و�ألف ال ،هذه العرو�س ال تنا�سبني �أبداً .هكذا قررت ،وعلى
هذا نويت.
و�صلنا القرية بعد منت�صف الليل ،كنت �أظن �أين �سوف �أجد �صعوبة
بالو�صول ملنزل والدي ،ولكني وجدت والدي ينتظرونني على مدخل القرية
ومعه عد ٌد من �أبناء عمي ،ينتظرين منذ �أيام ،فلقد �صادف �أن والدة �صديقي
املقد�سي زارت �أمي يف عمان ،و�أخربتها �أين هناك يف فل�سطني منذ عدة �أيام،
والدي كان يعتقد �أين قد اعتقلت من قبل قوات االحتالل على احلدود �أنا
و�صديقي املقد�سي الذي كان ينتظرين على اجلانب الآخر من احلدود لأننا
طوال تلك الأيام مل نت�صل ب�أحد عرب الهاتف �أو اجلوال ،فلقد �أطف�أت جهازي
وطلبت من �صديقي �أن يطفئ هو الآخر جهازه حتى ال يزعجنا �أحد خالل
رحلتنا يف ربوع فل�سطني الأ�سرية .والدي كان غا�ضبا ً ،بل غا�ضبا ً وم�رسور ا ً،
فلقد ر�آين �ساملا ً و هذا ما كان يهمه .فربغم �أين جتولت وزرت عدد ا ً كبري ا ً جد ا ً
من دول العامل �إال �أنها املرة الوحيدة طوال عمري التي يقلق بها والدي علي،
ف�أنا زرت معظم دول �آ�سيا مثل كوريا وهونغ كونغ وتايوان وال�صني واليابان
وحتى �أين زرت ماليزيا واندوني�سيا وتايالند� ،أما عربيا ً فزرت معظم دول
اخلليج العربي والعراق و�سوريا ،مل يقلق علي والدي �أبداً� ،أما هذه املرة فلقد
قلق جدا ً وغ�ضب جداً.
33
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
وعندما �س�ألته قال « :يف تلك الدول هناك قانون و�رشائع �أما هنا ف�رشيعة الغاب
هي التي حتكم� ،رشيعة ال�صهاينة خونة العهود وناكثي الوعود ،هنا �رشيعة �سلطة
قلقت عليك يا ولدي،
الف�ساد والإف�ساد التي تقوم على الر�شوة والعمالة للمحتل ،لذلك ُ
اعلم �أنك كبري وواع ٍ و�أنك قوي جبار يا ابني الغايل ،لكني �أعلم �أنهم كفرة فجرة ال
ذمة لهم وال دين ،دير بالك على حالك بكرة ان �شاء هلل �سوف ترى العرو�س وبعد
ذلك تعود �إىل عمان� ،أنت يا ولدي مثل ال�سيف ونحن ل�سنا بحاجة ل�سيف يف فل�سطني،
فال�سلطة باعت والعدو ا�شرتى ،وال مكان لل�سيوف هنا ،هنا مكان للمحاريث التي
حترث الأر�ض �أو ما بقي من الأر�ض ،حماريث حترث و�أنا�س يزرعون وال ميكن �أن
ي�صبح ال�سيف حمراثا ً �أبداً».
�آه منك يا والدي ويا معلمي الأول ،يا من تعلم وال اعلم ويا من ترى ما ال �أرى،
رغم �أنك مل تدر�س ورغم �أنك �إن�سان طيب ب�سيط جداً� ،إال �أنك عميق الفكر والتفكري.
�أم�ضيت تلك الليلة يف منزل والدي ،بل �أق�صد منزل جدي الذي ورثه عن
جد جد جده ،مل يكن منز الً بل كان عبارة عن �شيء �آخر ي�سمونه العاليل،
�أو القلعة �أو الق�رص ،كان �شيئا ً قدميا ً جدا ً تبلغ �سماكة جدرانه من مرتين يف
بع�ض الأماكن �إىل مرت ون�صف يف �أماكن �أخرى ،كبري وجميل لكنه بحاجة
ما�سة للإ�صالح والرتميم.
يف تلك الليلة مل �أ�سلم من البعو�ض الذي �أقلق منامي ،رغم �أن احلداثة قد
دخلت �إىل قريتنا منذ زمن طويل �إال �أن والدي بعد �أن عاد �إىل فل�سطني مل
يف�ضل �إدخال احلداثة �إىل تلك القلعة التي ورثها عن �أبيه وجدودهَّ ،
ف�ضل
�أن يعي�ش على م�صباح ي�ضاء بالكاز ،ومل يكن ميلك �أي �شيء ميت للحداثة
ب�صلة يف ذلك املنزل .رغم �أن منزله يف عمان �أ�شبه مبا يكون مبحل للأدوات
الكهربائية االلكرتونية والكهربائية فمثالً ،بعد �أن عدت من كوريا قمت
برتكيب �صحن القط هو ا لأكرب على م�ستوى ا لأردن ،فكان حجمه قائما ً
مكتمالً يتجاوز ا لأربعة �أمتار ون�صف ،وعندما كنت يف كوريا كنت �أر�سل
لأخوتي �أحدث ا لأجهزة الكهربائية والكمبيوترات ،ولكن هنا يف القلعة مل
يكن �سوى احلجارة والبعو�ض.
34
ا�ستيقظت مبكرا ً على �صوت امل�ؤذن ،فلقد كان امل�سجد القدمي يقع بجوار منزل
والدي� ،صلى والدي بامل�سجد و�صليت �أنا متيمما ً لأين مل �أجد املاء فلقد �أخذ والدي
امل�صباح معه لريى الطريق �إىل امل�سجد .بعد �أن عاد تو�ض�أت و�صليت .و�أعد يل والدي
الفطور؛ طعا ٌم �أق�سم �أن طعمه ما يزال يف فمي للآن ،رغم �أين مل �أترك �صنفا ً من
�أ�صناف الطعام �إال وتناولته خارج فل�سطني� ،إال �أن ما �أعده يل والدي كان له طع ٌم
خا�ص ورائحة قد�سية �أخرى.
عندما �أح�رض والدي �صينية الق�ش التي و�ضع عليها �أطباق الطعام وجدت مقالة
مليئة بزيت الزيتون وبها عدة بي�ضات مقلية ،كانت البي�ضات غارقات بالزيت.
وكانت على �صينيه الق�ش عدة حبات من البندورة و�صحن للزيت و�صحن مليء
باجلبنة البي�ضاء.
�أنا اكره الزيت و�أكره الدهون كثرياً ،فلقد تعودت على الأ�صناف امل�سلوقة يف
كوريا وامل�شوية� ،أما الزيت فال ،و�ألف ال ،هذا ما قلته لنف�سي ولكني جتاوبت مع
�إحلاح والدي فبد�أت بتناول الطعام ،ومل �أتوقف �إال بعد �أن م�سحت الأطباق فلقد
أحببت القلعة ،بل �إين �أ�صبحت جزءا ً من تلكُ �أحببت خبز الطابون والزيت والزعرت� .
القلعة وتاريخها.
�أم�ضيت يومي م�ستقبالً املهنئني بو�صويل �ساملا ً غامنا ً كما يقولون� .أهم املهنئني
كان بالل :بالل ابن عمي الذي فقد كليته قبل �أعوام طويلة عندما كنت يف كوريا،
وكان هو يلقي احلجارة يف طرقات فل�سطني .بالل ي�صغرين بعدة �أعوام ما زال
يدر�س باجلامعة علم االجتماع وعلم النف�س ،تلك اجلامعة ،جامعة املهند�س يحيى
عيا�ش جامعة بريزيت .مل نتمكن من احلديث طويالً فلقد كان املهنئون ُكرثاً ،م�ضيت
يومي الأول على هذه احلال وجزءا ً من اليوم الثاين ،وعندما حل م�ساء اليوم الثاين
توجهت مع والدي لر�ؤية العرو�س ح�سب موعد م�سبق.
يف ذلك اليوم ق ّدراهلل يل �أن �أرى �أجمل و�أحلى عيون بحياتي� ،أحببت عيونها بل
�سحرتني بعيونها اخلجولة ،فطلبت يدها على الفور.
بعد ذلك عدت �إىل عمان لأعد لأمور الزواج هناك وما هي �إال �أ�شهر قليلة حتى
جاءت لعمان ،وتزوجتها هناك ،كانت بف�ضل اهلل زوجة كاملة متكاملة ،هادئة
35
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
و�صامتة ،ذات فكر نا�ضج وعقل وا�سع ،وهنا �أقول ل ِك يا مالكي احلار�س �أين للمرة
الأوىل بحياتي قد وقعت باحلب وذقت طعمه..
رغم �أين عندما �سافرت �إىل فل�سطني �أردت �أن �أقول «ال» لذلك الزواج ومل �أ�سافر �إال
�إر�ضا ًء لوالدتي الكبرية املري�ضة� ،شفاها اهلل� ،إال �أين وقعت يف احلب من �أول نظرة ،هل
كان ذلك �سحر احلب� ،أم �سحر فل�سطني ؟ ل�ست �أدري ! وال �أريد �أن �أدري ! ما يهمني
هو �أين ع�شت وما زلت �أعي�ش رغم مرور �أعوام طويلة بحالة من احلب امل�ستمر ،حبَّا ً
عماده االحرتام والتفاهم ،حبَّا ً ال غالب فيه وال مغلوب .طوال تلك الأعوام مل حتدث
م�شكلة واحدة �أبداً ،ال عندما كنت ثريا ً وال عندما �أ�صبحت فقريا ً معدما ،ال عندما
كنت حرا ً طليقا ً �أجول معها بجوالت �سياحية يف �أجمل الفنادق ،وال عندما �أ�صبحت
�أنا وهي مطاردين بال م�أوى ،وال عندما �أ�رست ،فهدمت وفجرت القلعة.
ظل احلب هو عماد عالقتنا وما زال ،لكن هناك حبَّا ً �آخر بد�أ يكرب وينمو بداخلي،
حبَّا ً للجهاد واحلجر ،حبَّا ً للرتاب وال�شجر ،حبَّا ً لفل�سطني والقد�س ،وذلك ما �إن
حملت زوجتي حتى ودعتها بعد �أن �ضيقت �أعمايل التجارية يف عمان ،وعدت �إىل
هناك �إىل فل�سطني ال بل �إىل القد�س .هناك عملت يف �إحدى ال�رشكات املقد�سية التي
ميلكها �صديق يل وكانت تلك ال�رشكة تعمل يف جمال الفوالذ امل�صهور ،ومن هنا ابتد�أ
امل�شوار واحلكاية ،حكاية مهند�س على الطريق،وحكاية �أمري الظل ،حكاية �صاحب
�أعلى حكم بتاريخ الق�ضية الفل�سطينية ،حكاية املحكوم ب�سبع و�ستني م�ؤبداً،
وخم�سة �آالف ومائتي عام .حكاية �صاحب �أكرب ملف �أمني بتاريخ دولة االحتالل
ال�صهيوين ،حكاية عبد اهلل الربغوثي.
36
هديف ،فحولت �أملي وحلمي �إىل واقع ملمو�س كر�ست لأجله كل طاقاتي و�إمكانياتي.
بعد اهلل ا�ستعنت بالكتمان وال�صمت لعلي �أ�صل �إىل طريق احلرية والتحرر.
عندما اتخذت ذلك القرار كانت فل�سطني هادئة جداً ،وكانت املفاو�ضات ت�سري بال
انقطاع .كان التن�سيق الأمني بني قوات االحتالل ال�صهيوين وقوات الأمن الوقائي
واملخابرات الفل�سطينية ،على �أعلى م�ستوى .وكم فوجئت عندما علمت �أثناء زيارتي
الأوىل لفل�سطني �أن هناك اثنني من �أبناء قريتي وعائلتي معتقالن على نف�س الق�ضية
وهي االنتماء حلركة حما�س ،و�أن االثنني حمكومان بعدة �أعوام ،هذا غري مهم.
املهم �أن �أحدهما معتقل وحمكوم عند ال�صهاينة ،والآخر معتقل وحمكوم عند كالب
ال�صهاينة :عند ال�سلطة الفل�سطينية .قاوما معا ً ف�سجنا عند املحتل ،وكلب املحتل،
لذلك �أخذت من الكتمان والعي�ش بعيدا ً بالظل و�سيلة يل لعلي �أ�صل لغايتي.
قبل دخويل لفل�سطني يف زيارتي الثانية �أدخلت كل ما يلزمني من �أدوات و�أجهزة
خا�صة ت�ساعدين على مقاومة املحتل ،وعندما �أقول كل ما يلزمني �أعني ذلك بكل ما
حتمل الكلمة من معنى :الإ�شارات الال�سلكية و�أجهزة الكرتونيه و�أدوات كهربائيه
ومواد كيماوية ت�ستعمل لتنفجر والكثري الكثري ،دخلت دون �أن ينتبه �أحد ،خمب�أة
بداخل �أجهزة كهربائية عادية ،وذلك ب�سبب قوة ومتانة التن�سيق الأمني بني �أعدائي
و�أعدائي� .أدخلت ما �أريد �إدخاله من �أمام عيونهم فكل واحد منهم كان يفهم �أن الآخر
�سوف يقوم مبهمة التفتي�ش نيابة عن الآخر .اللهم �أ�رضب الظاملني بالظاملني.
وما �إن ا�ستقررت بعملي بالقد�س حتى ا�شرتيت عددا ً من �أجهزة احلا�سوب
الكمبيوترية ،لأدجمهما و�أوحد قوتها لكي �أمتكن من اقتحام �شبكة االنرتنت.
و�أ�صبحت كما كنت يف كوريا �أدخل املواقع التي �أريدها� ،أرى حمتواها و�آخذ منه ما
�أريد والأهم من ذلك هو الكتمان� ،أدخل بهدوء ،و�أخرج بهدوء .ومل يكن ق�صدي
التخريب بل كان ق�صدي وهديف �أن �أعرف الآخر� ،أعرف عدوي و�أعرف قدراته،
مل �أكتف بذلك بل وخالل مدة ق�صرية ا�ستطعت اقتحام �شبكة االت�صاالت اخللوية
ال�صهيونية �رشكة «�سلكم» و�رشكة «موتوروال» و�رشكة «�أوراجن» ،تلك ال�رشكات
العاملة يف جمال االت�صال يف الكيان ال�صهيوين املعادي� .أما عند �سلطة الف�ساد
والإف�ساد فكان هناك �رشكة واحدة هي �رشكة جوال ،فاقتحمتها هي الأخرى.
37
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
38
القد�س� ،أو رام اهلل ولكنها ر�سمت مالمح احلزن عندما قلت لها �أننا �سوف ن�سكن يف
بيت والدي يف القرية ،فهي ظنت �أن القلعة على حالها ،جمرد كومة من احلجارة كما
تركتها قبل �أن ت�سافر لعمان ،ولكن �رسعان ما تغريت مالمح احلزن ِلت�صبح مالمح
فرح و�رسور عندما وجدت البيت ب�أحلى حلة و�أف�ضل حال. ٍ
ويف يوم 1999/9/27تلقيت ات�صاالً من �أحد �أخوال ِك يبلغني فيه �أنه نقل والدت ِك
�إىل امل�شفى يف رام اهلل لتلدكِ ،فح�رضت م�رسعا ً من القد�س.
ابنتي تاال ،هذا هو اال�سم التي �أ�سميتك �إياه قبل �أن تولدي مل �أكن �أحظى ب�أي وقت
للفراق عندي �إال ل�شيء واحد وهو متابعة �أعدائي� ،أما بعد �أن ولدتِ و�أ�صبحتِ حقيقة
وواقعاً ،انقلبت حياتي ر�أ�سا ً على عقب .فلقد �أ�صبحت ومنذ اليوم الأول لوالدت ِك ال
�أذهب �إىل عملي يف القد�س �أو �إىل �شقتي هناك ملتابعة ما كنت �أقوم به.
�أ�صبحت �أُم�ضي معظم وقتي يف القرية برعايتي ل ِك ورعاية �أم ِك التي �أحب .تاال
هل تعلمني �أنك ارتديت مائة ف�ستانٍ و�أكرث يف �أول مائة يوم ل ِك يف هذه احلياة ،فلقد
كنت ال �أكف عن �رشاء املالب�س ل ِك وال الألعاب وال الهدايا وال كل ما �أراه منا�سبا ً ل ِك
�أو حتى غري منا�سب.
تاال� ،أنت ولدتِ بعد حرمان طويل ،حرمان مل �أكن �أ�شعر به و�أح�س ،ولكن عندما
�أم�سكت ب ِك بعد والدت ِك بثوانٍ من يد الطبيبة التي ولدتكِ ،حتى �شعرت مبدى ذلك
احلرمان من نعمة الأوالد والأطفال.
فكما قال رب العاملني «املال والبنون زينة احلياة الدنيا»� .صدق اهلل العظيم
املال كنت �أملك منه الكثري والكثري� ،أما البنون ف�أنتِ �أول البنني يا مالكي
احلار�س ،هل تعلمني �أن ا�سم الطبيبة التي كانت ت�رشف على حالة �أم ِك يف �شهرها
الذي �أم�ضته يف فل�سطني كانت فل�سطني؟ نعم فل�سطني ،هو ا�سم الطبيبة التي ر�أيتِ
على يدها النور.
قالت يل «فل�سطني»� :أنك �أول �أب �أراه بداخل فل�سطني طوال عملي كطبيبة يدخل
غرفة الوالدة ويحت�ضن طفلته قبل �أن حت�ضنها �أمها ،وقبل �أن جنري لها الفحو�ص
الالزمة .فقلت :ما دامت فل�سطني هي من ولّدت زوجتي على �أر�ض فل�سطني فال
�شيء غريب �أو عجيب.
39
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
افتتحت
ُ هنا يا ابنتي �شعرت �أن القرية بحاجة �إىل بع�ض امل�شاريع التجارية ولذلك
حمالًَ �آخر لل�سوبر ماركت ،و�أ�صبحت �أمار�س التجارة حمالًَ للأدوات الكهربائية و ًّ
ًّ
مرة �أخرى ،بالإ�ضافة �إىل عملي يف القد�س بل �أنني و�سعت هذه التجارة ف�أ�صبحت
�أ�ستورد ال�سيارات امل�ستعملة من كوريا عن طريق عمان و�أتاجر بها.
�أ�صبحت �أتاجر بالعقارات ،فلقد �أعدتني حلياتي ال�سابقة من جتارة ومناف�سة
بال�سوق ،و�أبعدتني عن هديف الذي كنت �أ�سعى �إليه .بقيت طوال عا ٍم تقريبا ً على هذا
احلال ،وقبل موعد ميالدكِ الأول جاء موعد قطف الزيتون ،ولذلك عملت على �أن
ت�سري �أعمايل التجارية عن طريق من يعملون معي وتفرغت لق�ضاء عدة �أ�سابيع يف
قطف الزيتون ،وكنت �أ�صطحب ِك مع جدكِ و�أم ِك �إىل كروم الزيتون اخلا�صة بجدك
لنتعاون على قطف الزيتون.
هناك تعلمت امل�شي و�رستِ �أول خطوات ِك يف جبال بيت رميا .يف تلك الأيام �أعدت
أدركت �أنني ما عدت عبد اهلل �أمري الظل بل �أ�صبحت جمرد ُ تن�سيق فكري مرة �أخرى و�
تاجر مهند�س يهمه جمع املال ،املال الذي مل �أكن بحاجة �إليه �أ�صالً.
مل �أعد مهند�سا ً على الطريق بل جمرد مهند�س ي�سخره عمله لإجناح م�شاريعه،
لكن ذلك مل يدم فما �أن �أكملت عام ِك الأول �أي بتاريخ 2000/9/27حتى قام ذلك
القذر �شارون بتدني�س امل�سجد الأق�صى ،واندلعت االنتفا�ضة الثانية ،وكنت �أنا هناك
يف جبال بيت رميا �أقطف الزيتون و�أراقب بهدوء ،حتى �أقرر ماذا �سوف �أفعل.
كنت حمتارا ً ف�أنا وحدي ال �أ�ستطيع مقاومة االحتالل ،فبد�أت �أفكر دون جدوى،
دون �أن �أ�صل �إىل طريق �أو �إىل نقطة بداية �أبد�أ من عندها ،ف�أنا تكاد تكون عالقتي مع
حميطي مقطوعة� ،أو �شبه مقطوعة ،فلم �أكن طوال وجودي بفل�سطني �أبني و�أقيم
العالقات مع �أي �أحد وال حتى مع بالل ،بالل ابن عمي و�صديقي فلقد كان هو بعامله
اخلا�ص و�أنا كنت بعاملي اخلا�ص.
مبر�ض
ٍ بعد �أيام قليلة على اندالع االنتفا�ضة ،ق ّدر اهلل �أن ت�صابي يا ابنتي
عجز عن عالجه �أطباء القرية ،ومل يكن من ال�سهل نقل ِك �إىل رام اهلل؛ لأن قوات
االحتالل حا�رصت قريتنا ،وو�ضعت حواجز ترابية على الطرقات منعت تنقل
ال�سيارات اخلا�صة.
40
فانطلقت �إىل �إحدى القرى املجاورة ب�سيارتي ومن هناك ركبت مع والدت ِك ومع ِك
ب�أحد البا�صات لكي ن�صل �إىل رام اهلل .ق ّدر اهلل ل ِك �أن متر�ضي ولكنه قدر يل �أن �أرى
بداية الطريق ،طريق اجلهاد طريق عز الدين الق�سام ،طريق يحيى عيا�ش.
يف منت�صف الطريق وقبل �أن ي�صل البا�ص ملدينة بريزيت توقف ،وتوقفت �أمامه
الكثري من البا�صات و�أغلقت الطريق ،فنزلت لكي �أرى ما امل�شكلة و�أعرف �سبب
اغالق الطريق ،هناك وجدت با�صني يرف�ض �أحدهما ال�سماح للآخر باملرور قبله،
ووجدت �شخ�صني فاجرين هما ال�سائقني فلقد كانا يكيالن ال�سباب وال�شتائم للذات
الإلهية .كانا يكفران ب�أ�شنع الألفاظ ،بل كانا يتقنان لفظ كفرهما.
عند ذلك املوقف ابت�سمت ،نعم يا ابنتي ابت�سمت؛ ف�رش البلية ما ي�ضحك ،ابت�سمت
وعدت �إىل البا�ص الذي كنت �أ�ستقله مع ِك �أنتِ و�أم ِك لكني مل �أعد لأ�صعد يف البا�ص؛
بل عدت لأنتزع ربطة عنقي وجاكيتي و�ساعتي ،فنزعتهما و�شمرت عن ذراعي
وانطلقت عائدا ً �إىل ال�سائقني الفاجرين .التقطت الأول من عنقه وقلت له :كيف ت�سب
ربي يا �أيها الكافر الفاجر� ،أال تعلم �أن الذي ت�سبه هو ربي �أنا :رب عبد اهلل الربغوثي
؟ قبل �أن يجيب انهلت عليه باللكمات وال�رضبات حتى �أدميته بني ذراعي و�ألقيت به
�إىل وا ٍد بجوار با�صه ،وتوجهت فورا ً �إىل ال�سائق الآخر الذي ما �إن تلقى اللكمة الأوىل
حتى وىل هاربا ً �إىل الوادي الآخر� ،صعدت ببا�صه وقدته بعد �أن �أنزلت ركابه لي�سقط
يف الوادي ،وفعلت ذات ال�شيء بالبا�ص الآخر.
مل يتجر�أ �أي من الركاب على �س�ؤايل عما فعلت ،فلقد كانت قوتي مفرطة ونظرات
عيوين قاتلة ،عندها �صحت قائالً� :أنا عبد اهلل الربغوثي من كان له حق عندي فلي�أتِ
�إىل قريتي �إىل بيت رميا لي�أخذ حقه ،ولكني �أق�سم باهلل العلي العظيم �أن ال �أجعله يخرج
حيا ً من بني يدي ،فمن ي�سب الذات الإلهية ال مكان له عندي �سوى القرب.
تركتهم بذهولهم بعد �أن عادت حركة البا�صات �إىل جمراها الطبيعي ،ولكن هناك
يد �أم�سكت بيدي وقال �صاحبها :ما �شاء اهلل حديد ،حديد اهلل يقويك يا ابني ،كان من
ري يف ال�سن ظل مم�سكا ً بيدي ويكرر :حديد ما �شاء اهلل حديد، ٌ
�شيخ كب ٌ �أم�سك بيدي
�صعدت �إىل احلافلة و�إذا به ي�صعد معي فلقد كان هو الآخر من ركاب نف�س احلافلة،
بل كان من �أبناء عائلة الربغوثي ،عائلتي الذين ي�سكنون بتلك القرية املجاورة.
41
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
قبل �أن ن�صل �إىل احلافلة كان اخلرب قد و�صل ،فلقد ق�ص �سائق احلافلة ،الق�صة
دون �أن ينتبه �أنها ق�صة �أحد الركاب الذين يركبون معه بنف�س احلافلة فما �إن و�صلت
مع ال�شيخ حتى قال :هذا هو ،ومل يكمل� ،أما زوجتي فقالت � :أمل يكفك ما فعلته يف
عمان؟ بعمان هناك بعد �أن تزوجت بعدة �أ�سابيع ،ذهبت ملقابلة �أحد مدراء ال�رشكات
التي �أتعامل معها .وكان ي�سب �أحد املوظفني عنده ،ولكن ما �أثارين هو جتر�ؤه على
الذات الإلهية فطلبت منه �أن يكف عما يقول� ،إال �أنه حول تلك ال�شتائم يل �أنا وربي
وديني �أنا ،فما كان مني �إالَّ �أن انهلت عليه �رضبا ً مربحاً ،فك�رست له فكه وواحدة من
عظام �صدره ويده ،مما جعله يرقد بامل�شفى ملا يقارب ال�شهرين ،وجعلني مطاردا ً
من قبل قوات الأمن الأردين� .أعلم �أين كنت قا�سيا ً �أو حتى كما قال �سائق احلافلة
فلقد قال �أنه ر�أى وح�شا ً غا�ضبا ً ينهال بال�رضب على ال�سائقني� ،أعلم �أين ٍ
قا�س؛
ولكن �أعلم �أي�ضا ً �أن تربيتي الدينية بدولة الكويت تركت بداخلي �أثرا ً كبريا ً جدا ً من
ناحية رف�ضي مثل هذه الت�رصفات التي �أ�صنفها كفرا ً ال �أكرث وال �أقل ،فمن ي�شتم اهلل
ور�سوله هو كافر مرتد.
بعد �أن �أ�صبحت مطلوبا ً ومطاردا ً من قبل قوات �أجهزة الأمن الأردنية ،حاول
عدد من �أقاربي و�أ�صدقائي التو�سط يل مع ذلك املدير الذي كان ما زال يرقد يف
امل�شفى� ،إال �أنه رف�ض وتوعد ،بل �أنه عاود �شتم الذات الإلهية راف�ضا ً �أي و�ساطة
متوعدا ً مهدداً ،لكن ذلك مل يطل كثريا ً ففي �إحدى الليايل وقبل طلوع الفجر �أيقظته
من نومه يف امل�شفى� ،أيقظته و�أنا �أ�ضع يف فمه فوهة م�سد�س وقلت له :اعلم �أين مل
�أ�رضبك �إال ن�رصة هلل ع َّز وج َّل واعلم �أين �سوف �أقتلك �إن مل تتنازل عن الق�ضية ف�أنا
ال �أتوعد وال �أهدد �أنا جئت لأخربك فقط ما الذي �سوف �أفعله �إن مل تفعل ما �أمرتك
به� .سحبت فوهة امل�سد�س من فمه وابت�سمت له وتركته يكمل نومه ،هذا �إن نام ،وما
�إن طلع ال�صبح حتى كان قد توجه �إىل �أحد مراكز ال�رشطة لي�سحب البالغ �ضدي
وي�سحب �شكواه.
وما هي �إال �أيام معدودة حتى و�صلت عن طريق �أحد �أقاربي لقا�ض ٍ �أ�سقط عني
املطاردة واحلق العام ،ف�أنا �أ�ؤمن �إميانا ً قاطعا ً �أن من يوجه عمله هلل فال غالب له.
ما �إن انطلقت احلافلة حتى انطلقت �أ�سئلة ذلك ال�شيخ الربغوثي ال�س�ؤال تلو
42
ال�س�ؤال ،كان ي�س�أل بحما�س وقوة وخا�صة عندما علم �أين مهند�س .بعد ذلك �سارت
احلافلة نحو رام اهلل ،و�أنزلتنا عند �أحد احلواجز الرتابية وما هي �إال عدة خطوات
حتى علقت بحذائي �سل�سلة ذهب كبرية معلقا ً بها قطعة ذهب جميلة.
رفعت ال�سل�سلة وزوجتي تراقب يدي اللتني ارتقتا �إىل ال�سماء ،فلقد رفعت يدي
خماطبا ً ربي �شاكرا ً �إياه على هذه العطية وهذه اللفتة اجلميلة ،ف�أنا من عادتي �أن
�أخاطب اهلل ع َّز وج َّل دون تكليف ودون حواجز ،ف�أنا عبده وهو ربي ومل �أخلق �إال
لأعبده ،بهذه الب�ساطة �أتعامل مع اهلل عز وجل .و�ضعت �إعالنا ً عن ال�سل�سة الذهبية
يف مدينة رام اهلل ،لكن مل يطلبها �أحد فبقيت معلقة يف رقبة زوجتي ولكنها حتولت
من ذهب �إىل ر�صا�ص بقدرة قادر ،و�أ�صبحت جزءا ً من وقود املعركة التي ملَّا تبد�أ
بعد .وبعد هذه احلادثة ا�ست�شهد �أحد �أقاربي يف القرية املجاورة فذهبت �إىل هناك مع
والدي لن�شارك يف جنازة ال�شهيد.
�صلينا الظهر وانطلقنا للمقربة ونحن نكرب ونهلل ونهتف ونتوعد باالنتقام .بعد
�أن ووري جثمان ال�شهيد الطاهر الرثى ،بد�أ �أبطال ال�سيا�سة ب�إلقاء اخلطب الع�صماء،
فرتكتهم وتوجهت ل�سيارتي هناك كان موعدي مع �أبي لكني مل �أجده؛ يبدو �أنه
ف�ضل �سماع ال�سيا�سيني وكالمهم الذي ال يروي عط�شان ،فهو مثل ماء البحر املالح:
ال يزيد �شاربه �إال عط�شاً.
عند ال�سيارة وجدت ال�شيخ الذي �سبق �أن ر�أيته يوم مر�ض ابنتي تاال ،قال يل :ما
ر�أيك ب�أن تذهب معي لنتناول طعام الغداء معاً؟ قلت له� :أين م�ستعجل .قال :ما رح
�أ�ؤخرك �أكرث ،بدي �أغديك و�أعطيك �أمانة تو�صلها ل�صاحبها.
ما �إن و�صلت لبيته حتى طلعت يل زوجته احلاجة ،كانت ب�شو�شة فرحة بقدومي.
أنت تذكرين بولدي، �سلمت علي وقبلت ر�أ�سي ،ر�أ�سي �أنا قبلته تلك احلاجة ،قالت يلَ � :
هو هناك بعيدا ً يف املعتقل ،فهو معتقل منذ �أعوام طويلة منذ االنتفا�ضة الأوىل.
و�ضعت احلاجة الطعام ف�أكلت و�أنا م�شغول بالإجابة عن �أ�سئلة ال�شيخ� ،أ�سئلة
كثرية فلقد قال يل مثالً� :إذا دخل علينا جندي �صهيوين ماذا �سوف تفعل؟ قلت� :آكله
حيا ً فال داعي للطعام الذي �أعدته احلجة ،قال :باهلل عليك ،قلت :واهلل هذا ما �سوف
�أفعله� .أ�سئلة من هذا النوع ومن نوع �آخر .نوع مل �أجب عليه لكني اعتقد �أن اهلل جعل
43
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
44
كان يتحدث والدموع جتري من عينيه ..حملتها وقبلت ر�أ�سه مودعا ً هائما ً يف
ملكوت اهلل ،عندما و�صلت �إىل �سيارتي مل �أجد والدي فلقد ت�أخرت عليه كثرياً ،فذهب
مع �أحد �أقاربنا عائدا ً للبيت� .أما �أنا فقدت ال�سيارة وو�ضعت احلقيبة يف �أحد حمايل
التجارية الفارغة التي كنت �أملكها يف القرية.
مل �أجتر�أ على فتحها ور�ؤية ما بها .كنت �أخ�شى من تلك الكلمة «الأمانة»� ،أمل
يحمل الإن�سان الأمانة وكان جهوالً بعد �أن رف�ضتها اجلبال؟
�أ�أحمل حمالً فوق طاقتي :حمل ال�شهيد و�أمانته؟ بقيت احلقيبة «االمانة» هناك
�أ�سابيع و�أ�شهر قبل �أن �أح�سم �أمري و�أفتحها .خالل تلك الفرتة بد�أت �أعيد توطيد
عالقتي مع بالل ابن عمي ،وكانت �أ�سئلتي كلها عن عيا�ش وكان هو يحب �أن يتحدث
عن عيا�ش كثرياً ،فعيا�ش كان طالبا ً يف جامعة بريزيت ،وهي جامعة بالل يف تلك الفرتة.
كان بالل نا�شطا ً باحلركة الطالبية الإ�سالمية التابعة حلركة حما�س ،ي�شارك بكل
الفعاليات ،وكان �أي�ضا ً بعامه الأخري ومل يتبقَ على تخرجه �سوى عدة �أ�شهر فقط.
كل هذه الأحداث جرت قبل �أن تكمل االنتفا�ضة �شهرها الأول ،يف تلك الأثناء كنت
�أردد كلمات مت�شابكة جت�سد حالتي التي و�صلت �إليها يف حرية من يبحث عن النور
يف �آخر النفق؛ ذلك النور الذي �سوف �أ�ستدل به على طريقي وبداية امل�شوار.
فقلت الكلمات املت�شابكة التي تعبت من تردادها على نف�سي ب�صمت ،قلتها هذه
املرة ب�صوت عالٍ و�أنا �أقف على �إحدى التالل املطلة على قريتي.
قلت:
غالب حمامة ب�رسب حمام ال تكن يا ابن ٍ
فهذا هو الذل واخلزي واال�ست�سالم
وكن �صقرا ً يحلق كالق�سام
ب�سماء العزة و�أر�ض الإ�سالم
كن فار�سا ً جوادا ً مقاوما ً
وعزيزا ً ذا نخوة كاملعت�صم
�أ�رضب عدوك بقوة وداهم
كل وك ٍر من �أوكار الظالم
45
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
46
عقدت العزم على �أن �أبد�أ املقاومة و�أن �أ�رس حامالً لواء املهند�س .نزلت عن التلة
وتوجهت �إىل منزل عمي لأقابل بالالً ولكي �أبد�أ م�شواري.
عندما و�صلت �إىل منزل عمي و�س�ألت عن بالل قيل يل �أنه مل ي�أتِ �إىل البيت منذ �أيام
طويلة و�أنه مي�ضي وقته بني اجلامعة مبدينة بريزيت ومدينة رام اهلل القريبة منها،
وال ي�أتي للقرية لأن الطرق مقطوعة من قبل قوات االحتالل ،واملوا�صالت �صعبة
جداً.
كان �إيجاد بالل يف تلك الفرتة م�شكلة بحد ذاتها؛ فهو ال ميلك جهاز ات�صال نقال،
وال مكان ثابت ي�سكن فيه ،ولأن بالال ً كان يح�رص عالقاته يف اجلامعة مع �أبناء
القرية ب�شكل عام .لكني ولأين قد ح�سمت �أمري بقتال ال�صهاينة كان واجبا ً علي �أن
�أجده للأ�سباب التالية:
�أولها� :أن بالال ً ينتمي لكتلة حما�س الطالبية يف اجلامعة وهو �شخ�ص هادئ
و�صامت ،و�صادق ،ثانيها :لأين �أثق به من الناحية الأمنية والأخالقية ،فبالل مل
يكن له �أي اهتمامات �سوى الدرا�سة والعمل التنظيمي ،وثالثها :وهو الأهم والأقوى
هو �أين ا�ستطعت �أن �أم�سك بالال ً متلب�سا ً وهو يقوم ب�إحد �أعمال املقاومة.
ففي �أول �أيام االنتفا�ضة قام بالل مع جمموعة من �أن�صار حركة حما�س بكتابة
�شعارات على جدار القرية و�أ�سوارها .ولكن ما مل يكن يف ح�سابهم هو �أنه رغم
قيامهم بهذه الفعلة يف جوف الليل� ،إال �أن �إحدى كامريات املراقبة املثبتة ب�شكل غري
ظاهر على �أحد املحال التجارية التابعة يل قد �صورتهم ،ورغم �أنهم ملثمون �إال
�أنهم كانوا يتحدثون ويذكرون �أ�سماء بع�ضهم البع�ض .ول�سوء حظ بالل �أنه كان
امل�س�ؤول عن تلك املجموعة ،وكان ذا ج�سد �ضخم ب�شكل وا�ضح مما جعلني �أتعرف
عليه �صور ًة و�صوتا ً وا�سماً.
ولذلك كنت �أريد بالال ً و�أريد ما ميلكه� ،أما ما ميلكه فلم �أكن �أملكه �أنا ومل �أ�ستطع
امتالكه حتى بعد �سنوات من قتايل للعدو ال�صهيوين.
وهنا عدت �إىل منزيل ،قلعة �أبي :جدكِ ،ال�ستبدال �سيارتي ب�سيارة �أخرى قادرة
على امل�شي يف طرق جبلية وعرة وطرق ترابية لأمتكن من الو�صول �إىل رام اهلل.
ما ال تعلمينه يا ابنتي احلبيبة ويا مالكي احلار�س هو �أين كنت �أملك يف تلك الفرتة عددا ً
47
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
من ال�سيارات املتنوعة ،فال�سيارات كانت �إحدى هواياتي �سواء ب�إ�صالحها وحتديثها
�أو قيادتها ،وعندما �أقول قيادتها �أعني ال�رسعة واال�ستعرا�ض ،فلأين كنت �أعمل
ميكانيكيا ً يف طفولتي ،ولأين كنت �أمتلك كراجا ً ل�صيانة ال�سيارات بعد �إنهائي للدرا�سة
الثانوية امليكانيكية ،فقد كنت �أم�ضي �أوقات فراغي من العمل الذي كان قليالً جدا ًيف تلك
الفرتة ،كنت �أم�ضيه مبمار�سة هواية �سباق ال�سيارات املعروفة با�سم (،)Speed Test
وال �أذكر �أنه مر �شه ٌر واحد علي دون �أن �أتعر�ض للمخالفات املرورية ب�سبب ال�رسعة
الزائدة �أو ب�سبب قيادتي ب�شكل متهور كما كانوا ي�سجلون علي املخالفات.
�أما الأهم يف مو�ضوع قيادة ال�سيارات فهو �أين �أ�صالً مل �أكن يف تلك الفرتة �أملك
رخ�صة لقيادة ال�سيارة ،فلقد كان عمري ما بني اخلام�سة ع�رش والثامنة ع�رش،
ولكني وب�سبب حبي للقيادة قمت بتزوير �أول بطاقة يف حياتي وهي بطاقة رخ�صة
القيادة ،مل يكن تزويرا ً �صعبا ً ولكنه مل يكن �سهالً �أي�ضاً ،ولكني ما �إن بلغت عامي
الثامن ع�رش حتى ا�ستخرجت بطاقة لرخ�صة القيادة املحلية والدولية �أي�ضاً ،ومع
ذلك كنت يف بع�ض الأحيان �أ�ضطر ال�ستعمال �إحدى الرخ�ص املزورة ،عندما يتم
حجز رخ�صتي القانونية ب�سبب طريقة قيادتي.
ففي بداية عام 2000قمت ب�رشاء �سيارة حديثة �صنعت يف نف�س العام ولكني
بدل �أن �أقودها �أبقيتها ملا يزيد عن �شهر ون�صف يف �أحد حمايل التجارية وهو
حمل ي�شبه الكراج كنت �أقوم به ب�صيانة �سياراتي .وبعد م�ضي ال�شهر والن�صف
كنت �أنهيت تعديالتي على حمرك تلك ال�سيارة وحولته �إىل طاقة ح�صانية �أعلى
و�أقوى ،وا�ستبدلت عددا ً من قطع تلك ال�سيارة اجلديدة التي مل ت�رس على ال�شارع
بعد ،بقطع �أخرى حتولها من �سيارة عادية �إىل �سيارة ريا�ضية قوية جداً ،لكنها
خفيفة الوزن �أي�ضاً ،فلقد �أزلت منها عددا ً من القطع التي اعتربتها ثانوية وثقيلة
وت�ضعف املحرك .مثل مكيف ال�سيارة وكامل جتهيزات التدفئة .ول ِك �أن تتخيلي
كيف �أ�صبحت ال�سيارة.
هنا يا ابنتي العزيزة �أجد نف�سي �أقفز من ذكريات قدمية �إىل ذكريات �أقدم.
فمو�ضوع ال�سيارات وقيادتها كان هو ال�سبب والدافع وراء تعلمي و�إتقاين للتزوير.
يف البداية كان تزوير رخ�صة القيادة ولكني بعد ذلك وعندما �سافرت �إىل كوريا
48
�أدركت �أن جواز �سفري الأردين غري مرحب به يف العديد من الدول ولكي ال �أبقيه
عائقا ً �أمام رغبتي يف النجاح يف املجال التجاري فلقد دخلت عامل تزوير الأوراق
والبطاقات واجلوازات .ولأين كنت ال �أثق ب�أحد فلقد �أخذت على عاتقي القيام بذلك
لوحدي ومب�ساعدة �أف�ضل الأجهزة االلكرتونية اخلا�صة بذلك املجال.
قمت باالجتار بتلك الأوراق والهوايات ف�أقول ل ِك ال و�ألف ال، �أما �إن �س�ألتني هل ُ
فكل ما كنت �أ�سعى �إليه من خالل تلك الأوراق املزورة هو �سهولة احلركة والتنقل،
وما �ساعد ذلك هو �إجادتي لأربع لغات �إجادة �أبعدت عني ال�شكوك ،و�سهلت علي
انتحال تلك ال�شخ�صيات ذات اجلن�سيات واللغات املختلفة واملتنوعة.
�أعود بك يا مالكي احلار�س من تلك الذكريات البعيدة جدا ً �إىل البحث عن ذكريات
�أقرب وهي البحث عن بالل .ا�ستبدلت �سيارتي ب�أخرى وانطلقت ب�أخذ الطرق
اجلانبية الرتابية الوعرة باجتاه مدينة رام اهلل .و�صلت ليالً فما كان مني �سوى
التوجه ملدينة القد�س �إىل �شقتي هناك التي كنت ما �أزال �أحتفظ بها حتى تلك اللحظة.
رغم الدمار واخلراب الذي �شاهدته بطرق و�شوارع مدينة رام اهلل �إال �أن مدينة القد�س
مل يكن بها من ذلك اخلراب �شي ٌء.
�أم�ضيت ليلتي �ساهرا ً ومبحرا ً يف ال�شبكة العنكبوتية منطلقا ً ومتلم�سا ً متاهاتها
ومكت�شفا ً مواقع العدو ال�صهيوين من خالل تلك ال�شبكة ومن خالل اقتحام مواقع
�رشكات االت�صال.
منت عدة �ساعات وتو�ض�أت متجها ً �إىل الأق�صى لأ�صلي �صالة الفجر .و�صلت
ولكني مل �أ�صل ،و�صلت للبوابة تلو البوابة لكني منعت من الدخول لل�صالة رغم
جوازي الأجنبي .قالوا :ال �صالة للم�سلمني اليوم� ،أغرب عن وجهنا .حاولت
وجادلت و�أ�رصرت ولكنهم رف�ضوا وب�أعقاب البنادق على ج�سدي انهالوا ،ورغم
قوتي اجل�سدية �إال �أن بنادقهم املوجهة نحوي مهدد ًة �إياي ،و�أعقاب بنادق �أخرى
تخط �آثارها على ج�سدي ،فما كان من ذلك اجل�سد �إال �أن �سقط �أر�ضا ً من �شدة الأمل
�:سقط م�رضجا ً بالدماء.
حملني بع�ض من كانوا يف املكان ممن مل ي�سمح لهم بالدخول لل�صالة ،حملوين
لبيت قريب ف�ضمدوا جراحي ،وتوقفت دمائي عن النزف.
49
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
بعد �ساعات قليلة ودعتهم رغم �أمل اجل�سد ،لعلي �أمتكن من عقاب املحتل
ال�صهيوين على �أمل النف�س والروح� ،أمل الكرامة �أمل �إن �أ�رضب و�أمنع من �أداء
�صالتي لربي.
وهنا يا ابنتي احلبيبة �سوف �أ�ضيف �إىل قامو�س كلماتي وقامو�سي كلمات
املقاومة ،كلمة خا�صة بي �أنا وهي الكلمة التي اعتربها الو�صف الكامل املتكامل ملا
قمت به بل هي الدافع املجهول بالواجب اجلهادي.
تلك الكلمة قد متر عند البع�ض مرور الكرام ،فهي تعترب �ضعيفة وال تعترب من
الكلمات الرنانة التي ترددها �أل�سنة الثوار واملواطنني مثل كلمة االنتقام ،وكلمة الث�أر
وكلمة الإبادة وال�سحق ،كلمة كانت �أب�سط من ذلك بكثري و�أعمق من ذلك بكثري.
العقاب
ت�صف ما �أريد القيام به جتاه عدوي .ال �أريد �أن �أث�أر ُ العقاب هو تلك الكلمة التي
لنف�سي وال للجرحى وال�شهداء ،وال �أريد �أن �أنتقم فاالنتقام �أعمى ويعمي �صاحبه.
والث�أر �أعني ما هو �إال رد فعل �رسيع متهور.
وهنا �أقول �أن كل الثورات متر بعدة مراحل:
�أولها :البداية ،ويطلق البداية عادة �إما �شخ�ص جمنون متهور �أرعن و�إما �شخ�ص
عبقري حكيم.
ثانيها :الوقود ،فوقود الثورة �إما �أن يكون من �أ�شخا�ص �شجعان ذوي ر�ؤية
واقعية بالثورة واملقاومة ،و�إما �أن يكون من �أنا�س ب�سطاء م�شوا مع املوج دون �أن
يدروا و�إذا بهم وقود للثورة وهذا هو حال الأغلبية.
ثالثها :اخلامتة ،وتختتم الثورة عاد ًة من قبل نوع واحد فقط ال غري .نوع ال ثاين
�أو ثالث له .وهو النوع االنتهازي املت�سلط النوع الذي كان يرق�ص على دماء ال�شهداء
من خالل ت�رصيحاته النارية �صباحاً ،و�سكرا ً وعربد ًة ليالً.
ولذلك قررت �أن �أ�سلك طريق العقاب .رحت �أدمج بني املرحلة الأوىل والثانية ،و�أن
�أدعو اهلل �أن �أ�ست�شهد قبل �أن �أ�صل �إىل املرحلة الثالثة وهي نهاية الثورة واملقاومة.
عدت �إىل �شقتي بالقد�س ،ومكثت فيها عدة �أيام حتى الت�أمت جراحي نوعا ً ما .طوال
50
تلك الأيام كنت �أجل�س على �رشفة ال�شقة �صامتا ً هائما ً يف ملكوت اهلل� ،أفكر ب�أي نوع
من العقاب لأنزله بذلك العدو املحتل .مل �أقرتب من جهاز احلا�سوب ،وال من �أي
جهاز �آخر .كل ما فعلته هو �أين اقرتبت من نف�سي �أكرث ف�أكرث فعرفت مكامن قوتي
ومكامن �ضعفي ،ف�أدركت �أن املال والعلم والقوة اجل�سدية ال تكفي وحدها لبدء
املقاومة ولبدء ال�سري على طريق املهند�س.
عدت �إىل رام اهلل باحثا ً عن بالل ،علمت �أنه هناك مبنطقة ا�سمها “البالوع “ ب�أحد
طرق رام اهلل ،هناك كان يلقي احلجارة هو وعدد من �أ�صدقائه يف اجلامعة .هناك
مبنطقة البالوع كان مئات ال�شبان وال�شابات والأطفال يلقون احلجارة.
�أوقفت �سيارتي على �إحدى التالل املطلة على ذلك املوقع ف�شاهدت كم نحن
الفل�سطينيون طيبون م�ساكني ،بل كم نحن طيّبون لدرجة البالهة وال�سذاجة .يف ذلك
جال�س يف داخلها
ٌ اليوم وب�سبب ما �شاهدته قررت ور�سمت من داخل �سيارتي و�أنا
ج�سديا ً وخارجها روحياً ،قررت �أ�صول املعركة.
يف ذلك اليوم كان ملقوا احلجارة عدة مئات يلقون ويلقون �أما اجلنود فكانوا عددا ً
قليالً جدا ً ال يتجاوز االثنى ع�رش جنديا ً فقط ،يحيطون بالتالل بجيبات ع�سكرية.
مل يكن احلجر قادرا ً على الو�صول لأولئك اجلنود رغم قوته وقوة من يقذف به،
فامل�سافة بينهم كانت بعيدة جداً� .أما ر�صا�ص قنا�صة االحتالل فكانت ت�صل،
في�سقط الع�رشات جرحى وقتلى ،دون �أن ي�صاب جندي واحد .ومن خالل جهاز
املنظار الذي كان بحوزتي �أق�سم �أين كنت �أ�شاهد اجلنود ي�ضحكون وميرحون
و�شباب احلجارة يت�أملون ويقتلون.
ومرهق،
ٍ حلّت �ساعات امل�ساء فتفرق ال�شباب بني �شهيد وجريح وبني ٍ
تعب
وعادوا �إىل بيوتهم بعد �أن �أق�سموا على الرجوع يف اليوم التايل.
مل �أر بالال ًلكني ر�أيت قريبا ً يل مي�شي مع عد ٍد من �أ�صدقائه؛ ف�س�ألته عن بالل فقال
يل �أنه مل ي�أت اليوم كعادته؛ بل عاد �إىل القرية لي�ستجمع قواه فلقد تعب من املواجهة
عر�ضت عليه �أن �أو�صله للقرية فقال يل �أنه يريد البقاء
ُ امل�ستمرة منذ عدة �أ�سابيع.
مبدينة رام اهلل فودعته وانطلقت عرب طريق فرعي ترابي وعر عائدا ً وحدي �إىل قريتي
بيت رميا ،متوجها ً �إىل منزل عمي .هناك وجدته جال�سا ً لوحده هائما ً مبلكوت اهلل.
51
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
جل�ست بجواره وبدون مقدمات ،قلت له� :أمل تتعب من �إلقاء احلجارة طوال
االنتفا�ضة الأوىل عندما كنت طفالً وعندما �أ�صبت وفقدت �إحدى كليتيك؟ �أو �أنك
تريد موا�صلة �إلقاء احلجارة بهذه االنتفا�ضة �أي�ضاً؟ �أال تريد �أن تعاقب من �سلب
منك �أر�ضك؟ �صمت قليالً ،وقال� :أنت يا عبد اهلل م�سكني ،جئت من خارج فل�سطني
وال تدرك كم نعاين من نق�ص يف كل �شيء بل حتى �أننا ال منلك �شيئا ً من �أجل مقاومة
االحتالل �سوى احلجارة .احلجارة فقط هي ما منلكها وال �شيء �سواها .قلت :قل
يل ماذا تق�صد ب�سواها؟ �صمت وقال :كل �شيء كل �شيء .قال هل تعلم �أنه رغم �أين
بعامي الرابع والأخري من درا�ستي يف اجلامعة ال �أملك ثمن �أجرة البا�ص للو�صول
�إىل جامعتي و�إىل رام اهلل لألقي احلجارة؟ كيف تعلم و�أنت متلك بدل ال�سيارة ثالثا ً
بل �أربعاً!
�صمت قليالً و�أكمل :نريد قائدا ً يعد اخلطط وير�سمها ويقود املقاومني �إىل دروب
اجلهاد واملقاومة� .صمت طويالً جداً ،فقلت له :ح�سنا ً ماذا متلك �أنت؟ فكرر :قلت لك
ال �شيء ال �شي َء �أبدا ً �أبداً.
قلت له� :أال متلك الرجال؟ الرجال القادرين على مواجهة املحتل ب�صدور عارية،
�أمل تكن قبل �أ�سابيع تقود �أولئك ال�شبان لتملأوا جدران القرية بال�شعارات ليالً؟
�صمت ،فقلت له :لقد ر�أيتك �أنت من قادهم ومن ملأ جدران القرية ب�أقوى ال�شعارات
التي تنادي باملقاومة امل�سلحة� ،أمل تكتب �أن بركان الق�سام قادم؟
و َّدعته بعد �أن طال بنا النقا�ش ،وبعد �أن �أدركت �أن بالل الربغوثي هو الرجل
املنا�سب لكي �أ�ضع يدي بيده ولكي يبد�أ امل�شوار .مل �أعد لبيتي يف تلك الليلة ومل �أعد
طوال عدة ليالٍ �أخرى �أم�ضيتها و�أنا �أعمل ليالً نهارا ً ب�أحد حمايل التجارية بعد �أن
�أغلقت بابه علي ومكثت بداخله لأبد�أ امل�شوار ،م�شوار املهند�س عبد اهلل الربغوثي،
لأبد�أ من تلك النقطة التي ا�ست�شهد منها �سيد مهند�سي فل�سطني ،يحيى عيا�ش.
يحيى عيا�ش ،رحمة اهلل عليه ،ا�ست�شهد عندما فجر جهاز ال�شاباك ال�صهيوين
هاتف نقال كان يتحدث به عيا�ش ،فجر هذا الهاتف بعد �أن �سمع �صوت عيا�ش وهو
يتكلم ،فجر عن بعد ،وكان هذا الهاتف قد و�صل للمهند�س عيا�ش عن طريق �صديق
ح�صل عليه عن طريق �شخ�ص �آخر كان عميالً جلهاز ال�شاباك.
52
تلك التفا�صيل مل تكن تهمني ،ما يهمني هو جهاز الهاتف النقال .كان جهازا ً
كبريا ً �ضخما ً ثقيل الوزن وكان هذا هو حال تلك الأجهزة بتلك الفرتة الزمنية ،لذلك
ح�صلت على �أ�صغر جهاز متداول من الهواتف النقالة ،عرب �إح�ضاره من دبي لكي
�أحاول تفخيخه وجعله يتفجر عندما �أ�سمع �صوت من يتحدث به ،لكني مل �أجنح بل
�إين زدتها تعطالً قبل �أن �أمتكن من �إخ�ضاع ِه لأوامري .وكلمة �إخ�ضاع هي الكلمة
املنا�سبة لهذه احلالة ،وكما هي العادة مل �أك َّل ومل �أم َّل بل قمت ب�رشاء عد ٍد �آخر من
نف�س نوع اجلهاز وب�رشاء �أجهزة من نوع خا�ص ي�ستعمل من قبل ال�رشكات امل�صنعة
لذلك اجلهاز من �أجل الفح�ص وال�صيانة.
ما هي �إال �أيام حتى متكنت من �إخ�ضاع جهاز الهاتف النقال لأوامري وطلباتي،
متنوع من العبوات النا�سفة والألغام املتفجرة والقنابل ٍ وبعد ذلك قمت ب�صناعة عد ٍد
اليدوية وعد ٍد من العبوات النا�سفة امل�ستعملة يف عمليات االغتيال.
وهكذا حولت ما قد كتبت على ورق من معلومات ،وما كان بداخل عقلي من
خربة �سابقة وحولت تلك الأدوات التي �أدخلتها معي �إىل داخل فل�سطني قبل قرابة
العامني عندما و�صلت ،حولت كل ذلك �إىل واقع ملمو�س.
طوال تلك الفرتة من العزلة بداخل امل�ستودع الذي مل �أكن �أتركه �إال من �أجل
�رشاء �أدوات �أو معدات وطعام و�رشاب .كانت عيناي ت�رسقان النظر من بعيد �إىل
حقيبة املهند�س يحيى عيا�ش التي كانت مو�ضوعة على �أحد الرفوف العالية يف
امل�ستودع ،ودون مقدمات وجدت نف�سي �أنزلها من هناك و�أفتحها ،بعد �أن �سميت
با�سم اهلل الرحمن الرحيم ،فتحتها كان بداخلها عبوتان نا�سفتان م�صنوعتان من
احلديد ال�صلب وكانتا معلَّقتني يف جوانب مبادة اال�سمنت الأ�سود ،وكان يخرج من
�أحد �أطرافها �سلك زوجي �أبي�ض م�صنوع من النحا�س الذي قد ت�آكل وتلف ،ب�سبب
الرطوبة وطول مدة التخزين ،وكان هناك ورقة تدل على طريقة اال�ستعمال� ،أما
الأهم فهو القر�آن الكرمي ،كان هناك كتاب قر�آن كرمي ،قد كتب على �صفحته الأوىل
كن مع اهلل وال تبال ِ.
قمت بتفكيك العبوات النا�سفة بحذر بعد �أن عملت على جتميدها بوا�سطة
ثالجة لتجميد اللحوم ،كانت موجودة لدي بامل�ستودع ،وبعد ذلك فككت العبوتني
53
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
النا�سفتني ،فوجدت بداخل كل واحدة منها ما يلي :جمموعة من امل�سامري بكل طرف
من الأطراف ،ويف املنت�صف وجدت كي�سا ً بال�ستيكيا ً مملوءا ً مبادة تعرف با�سم �أم
العبد ،عرفت ا�سمها فيما بعد.
يف �أحد الأيام التي ق�ضيتها يف امل�ستودع �صليت الفجر مب�سجد القرية ،وعندما
كنت عائدا ً وجدت حمارا ً �أبي�ض اللون ،حمارا ً �سبق �أن �أحرقه �أحد ال�صبية قبل �أ�شهر
عندما �أ�شعل النار بذنبه ف�أ�صبح بال ذنب ،وما �إن اندلعت االنتفا�ضة حتى كتب �أحد
الفتيان كلمة املوت ل�شارون على كال جانبيه ف�أ�صبح ا�سم ذلك احلمار منذ ذلك اليوم
حمار �شارون.
ملعت بر�أ�سي فكرة ف�أم�سكت بها و�أم�سكت بحمار �شارون ،وذهبت مع احلمار
�إىل امل�ستودع ومن هناك �أخذت �أحد الهواتف النقالة املفخخة وذهبت راكبا ً احلمار
�إىل �إحدى قطع الأر�ض التي ميتلكها والدي وهي �أر�ض على �أطراف القرية املزروعة
ب�شجر الزيتون واللوز ،الكثري الكثري من اللوز ،هناك و�ضعت الهاتف على ر�أ�س
�شارون احلمار وثبتّه جيدا ً ومن هاتف �آخر ات�صلت به ففتح اخلط ب�شكل تلقائي،
وبعد �أن ابتعدت عن �شارون احلمار� ،أق�صد حمار �شارون ا�ستمعت ل�صوت �أنفا�سه
عرب اجلهاز الآخر الذي كان معي وهنا �أ�صدرت الأمر من جهازي ليتفجر اجلهاز
الآخر وينفجر معه ر�أ�س �شارون احلمار.
ولقد كانت تلك �أول جتربة حية �أجربها يف فل�سطني وهكذا �أ�صبح �شارون بال
ر�أ�س فرغم �صغر جهاز الهاتف �إال �أن املادة التي زرعتها بداخله كانت قوية جدا ً بل
كانت قوية �أكرث من الالزم.
جمعت �أ�شالء احلمار وكومت كومة كبرية من احلطب حوله ،كان والدي قد طلب
مني �إح�ضارها من هناك قبل �أيام طويلة لكني مل �أفعل الن�شغايل ،وقمت ب�إ�شعال
النار وهكذا اختفت �آثار هذه التجربة.
بعد ذلك عدت �إىل القرية ما�شيا ً على قدمي .عدت �إىل منزل ابن عمي بالل لأجده
نائما ً يحلم باملقاومة ،ف�أيقظته لأحول حلمه �إىل واقع حقيقة ملمو�سة ،فبالل
الربغوثي كان م�سحورا ً مفتونا ً بال�شهيد عيا�ش مثل العديد من �أبناء حركة حما�س.
كانوا يحلمون مبهند�س يعيد للمقاومة عزها وجمدها ،ففي تلك املرحلة �أي قبل
54
االنتفا�ضة الثانية ،انتفا�ضة الأق�صى ،كانت �أجهزة �أمن ال�سلطة الفل�سطينية تت�سابق
بل كانت تتباهى باعتقال كل من ميت حلركة املقاومة الإ�سالمية حما�س ب�صلة،
وهكذا كانت احلركة واقعة بني مطرقة املحتل و�سندان عمالء ذلك املحتل :ما بني
الوقائي واملخابرات من جه ٍة ،وما بني ال�شاباك ال�صهيوين من جهة �أخرى.
�أيقظت بالالً لأحول حلمه وحلمي �إىل واقع ملمو�س ،توجهنا �إىل م�ستودعي وهناك
و�ضعت عدة حقائب بداخل �سيارتي التي كانت هي الأخرى بداخل امل�ستودع ،ركبت
وركب هو ،قلت له :ال تتكلم وال ت�س�أل انظر و�شاهد فقط ال غري.
و�صلنا �إىل قطعة �أر�ض �أخرى تعود لوالدي وكانت تلك القطعة تقع باجلانب
الآخر من القرية� ،أوقفت ال�سيارة وحملت احلقائب و�رسنا على الأقدام حتى
و�صلنا �إليها ،فلم تكن ال�سيارة قادرة على خو�ض الطريق الوعر امل�ؤدي �إليها ،وما
�إن و�صلنا حتى بد�أت �أخرج العبوات النا�سفة الواحدة تلو الأخرى ،بالل كان �صامتا ً
و�أظن �أنه ما زال يحلم فلم يكن يقول �سوى اهلل �أكرب �أهذا حلم �أم حقيقة؟ �أهذا حلم
�أم حقيقة! فلقد فجرت �إحدى العبوات بجوار �سور �صخري ف�أ�صبح ال�سور �أثرا ً
بعد عني .وفجرت عبوة موقوتة مببنى كان ي�ستعمله والدي لتخزين احلاجيات
ف�أ�صبح مكان املبنى حفرة كبرية فجرت وفجرت ،وهو يكرب تار ًة ويفرك عينيه
تار ًة �أخرى ،بعد ذلك �أ�رشت له لالنتقال ملكان �آخر بعد �أن جمعت ما يفي من �أدوات
الكرتونية بعد االنفجارات.
وهكذا اقلّتنا ال�سيارة ولكننا مل نعد ،بل توجهنا �إىل �سيارة قدمية قد �ألقيت ب�أحد
الطرقات اجلانبية من القرية هناك و�ضعت عبوة يف �أ�سفلها وعن طريق جهاز التحكم
عن بعد قمت بتفجريها ،فانفجرت وا�ستيقظ بالل على �صوتي و�أنا �أقول له:
وق�ص�صت عليه
ُ ا�سمع يا بالل ملا �سوف �أقوله لك بعد �أن ر�أيت ما ر�أيته قبل قليل.
ق�صتي بالكامل من �أولها لآخرها .وهكذا قررنا �أن نتعاون معا ً لنكون نواة خلاليا
كتائب عز الدين الق�سام بجامعة بريزيت برام اهلل وبكل مكان ن�ستطيع الو�صول له.
رغم �أن بالالً كان يقاوم املحتل منذ �أعوام و�أعوام �إال �أنه مل يكن قد �أم�سك بال�سالح
�أبداً ،وهذا �شيء �أذهلني جدا ً ف�أخذته بنف�سي ذلك اليوم �إىل املكان الذي فقد فيه
�شارون ر�أ�سه و�أعطيته قطعة �سالح بعد �أن دربته وعلمته على طريقة ا�ستعمالها.
55
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
وهناك على حمار �شارون الذي كان الدخان ما زال يت�صاعد منه رغم مرور �ساعات
على �إحراقه ،بد�أ بالل يطلق النار لأول مرة يف حياته من �سالح ناري.
وعلى الفور اتفقت مع بالل على �أن ينتقي عددا ً من الأ�شخا�ص من �أبناء الكتلة
الإ�سالمية بجامعة بريزيت وغريها للبدء بت�شكيل خاليا م�سلحة لكتائب عز
الدين الق�سام.
وهنا بد�أت �أدرب بالالً على قيادة ال�سيارات وعلى ا�ستعمال �أجهزة الهاتف
النقال .وزودته بعد ٍد منها ،وباملال الالزم لنبد أ� امل�شوار� .أما �أنا فلقد كنت م�شغوالً
ب�أمور �أخرى مثل احل�صول على الأجهزة الالزمة من �أجل عمل بطاقات هوية
مزورة ،ومثل �أ�ستئجار عدد من ال�شقق مبدينة رام اهلل وغريها من املدن ،وكنت
�أقوم بتجهيز كل �شقة من تلك ال�شقق بكل ما يلزم من �أجهزة كهربائية و�أثاث� ،أما
الأهم فهو �أين كنت �أحول كل �شقة من تلك ال�شقق �إىل مركز قيادة متنقل ب�شكل
كامل بحيث �أين كنت �أخ�ص�ص غرفة لتكون مكانا ً ل�صناعة العبوات النا�سفة
والأدوات الالزمة لذلك ،وغرفة �أخرى لتكون مكانا ً لأمور التقنية و�أهم ما يف ذلك
�أن كل تلك ال�شقق كانت على �أ�سماء �أ�شخا�ص وهميني من جهة وحقيقيني من
جهة �أخرى؛ فعرب اقتحامي لل�شبكة العنكبوتية ا�ستطعت احل�صول على معلومات
عن عدد كبري من بطاقات الهوية امل�سجلة يف دائرة اجلوازات الفل�سطينية التابعة
لوزارة الداخلية .وهكذا كنت �أ�صدر بطاقات ذات معلومات حقيقية مائة باملائة
�إال �أنها مل تكن حتمل �صور �أ�صحابها بل �صور عبد اهلل الربغوثي� ،صوري �أنا،
ف�أنا الذي كان يتوجه لأ�صحاب ال�شقق من �أجل ا�ستئجارها واحل�صول على عقد
�شخ�ص �آخر.
ٍ الإيجار الذي ي�سجل با�سم
مل �أكن �أختار �أنا�سا ً ب�شكل ع�شوائي بل كنت �أنتقي �أ�صحاب املهن البعيدة عن
ال�شبهات مثل مهنة الطبيب امل�سيحي مثالً �أو ال�صيدالين ابن طائفة ال�سمرة بنابل�س،
و�أكرث ما كنت �أ�ستعمل كانت مهنة املحامني ومعلمي املدار�س.
�أما ما يخ�ص الهويات التي كنت �أ�ستعملها للتنقل بني املدن فلقد كنت �أ�ستعمل
هويات من نوع �آخر ،هويات مقد�سية �أو هويات لأبناء الطائفة الدرزية ،وبخا�صة
لأولئك املنخرطني يف �صفوف جي�ش االحتالل ال�صهيوين.
56
ولكي �أ�سهل تنقلي فلقد ا�شرتيت عددا ً من ال�سيارات ذات اللوحة الإ�رسائيلية
ال�صفراء ،وبذلك كنت �أتنقل ب�سهولة جدا ً بني املدن الفل�سطينية يف ال�ضفة الغربية
وبني القد�س واملدن املحتلة بداخل فل�سطني مثل تل الربيع (تل �أبيب) وغريها.
وهنا يا ابنتي احلبيبة ويا مالكي احلار�س �أ�صبحت �أكر�س كل وقتي لإعداد البنية
التحتية للمقاومة ،مما جعلني �أبتعد عن ِك وعن والدت ِك كثرياً ،بل �إن جدكِ بد�أ ي�شك
وبد�أت تلوح بعينه �أ�سئلة كثرية جدا ً وخا�صة �أنه يف �أحد الأيام عندما كنت يف مدينة
نابل�س دخل على �أحد امل�ستودعات التجارية ليتفقده ب�سبب انقطاع التيار الكهربائي
فوجد الأطعمة املحفوظة يف الثالجات قد تلفت ،ف�أخرجها و�ألقاها يف حاوية القمامة
�أما الأهم فهو �أنه �ألقى مواد متفجرة كانت حمفوظة يف علب مغلقة بتلك الثالجات
ولوال �سرت اهلل ع َّز وج َّل حلدث ما ال يحمد عقباه.
ووجد جدكِ يف ذلك امل�ستودع عددا ً من قطع ال�سالح خمب�أة بحقيبة على
�أحد الرفوف مما جعل ناقو�س اخلطر يدق عند جدكِ ،وكما �سبق �أنه انتظرين
عند مدخل القرية قبل �أعوام خوفا ً علي من �أن �أكون قد اعتقلت عندما دخلت
فل�سطني انتظرين هذه املرة بعد �أن �أدرك �أين قد �رست على درب طاملا حلمت
ب�أن �أ�سري عليه .وما �إن عدت حتى قال يل� :أهالً بال�سيف �أهالً و�سهالً بال�سيف!
�أمل �أقل لك �أن ال�سيف ال ميكن �أن ي�صبح حمراثا ً �أبد�أً؟ علمت منه ما قد ح�صل
فتوجهت م�رسعا ً حلاوية القمامة لأ�ستعيد املواد املتفجرة التي وبحمد اهلل ع َّز
وج َّل وجدتها على حالها.
قلت له :ا�سمع يا والدي ،لقد �آن الأوان لأخو�ض املعركة التي طاملا حلمت بها
أدع يل بالتوفيق والنجاح ف�أنا يا والدي قد قررت �أن �أترك هذه الدنيا الفانيةومتنيتهاُ � ،
لأقاتل لعلٍّي �أ�سقط �شهيدا ً �أو لعلي �أنت�رص ،املهم يا والدي هو �أين واثق ب�إذن اهلل �أين
قبل �أن �أ�صل لإحدى احل�سنيني� ،سوف �أ�سقط الع�رشات والع�رشات من قتلى العدو.
يا والدي �أنت كنت تنوي ال�سفر �إىل عمان بعد مو�سم الزيتون واملو�سم قد انتهى،
ف�سافر يرعاك اهلل وال تن�ساين من الدعاء.
ودعني والدي و�سافر �إىل عمان� ،أما �أنا فلقد قلت عدة جمل قلتها بهجاء الدنيا؛
دنيا الفناء:
57
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
58
ما �إن و�صل والدي لعمان ،حتى قمت ببيع املحال التجارية التي كنت �أملكها
�سحبت كل ما كنت �أملكه من مال ُ وبت�صفية كافة �أعمايل التجارية ،ومل � ِ
أكتف بذلك بل
يف البنوك وفتحت ح�سابا ً م�رصفيا ً خا�صا ً لزوجتي وو�ضعت به بع�ض املال الذي
يكفي لها و ل ِك يا ابنتي لكي تعي�شي عي�شة كرمية �إذا ما ا�ست�شهدت.
يف تلك الأثناء كان بالل قد انتهى من انتقاء عد ٍد من العنا�رص املنا�سبة لنبد�أ
م�شوارنا بدرب اجلهاد واملقاومة ،درب عيا�ش واليا�سني درب عز الدين الق�سام ،من
خالل كتائب عز الدين الق�سام.
وهنا �أقول ل ِك يا ابنتي يا مالكي احلار�س �أين لن �أخو�ض بتفا�صيل هذه الفرتة
لأ�سباب عديدة منها �أين يا ابنتي �أم�ضيت �ستة �أ�شهر كاملة يف زنازين التحقيق دون
�أن �أك�شف عن �أي �شيء عن تلك الفرتة التي امتدت لأعوام ،ولكني وقبل �أن �أعتقل
كنت قد ح�صلت على ما ي�سمى لوائح االتهام التي قدمت بحق من عملوا معي ،ف�أنا يا
مالكي احلار�س قد ر�أيت املوت وكلمته و�صارعته يف جل�سات التحقيق التي ك�رست
خاللها عظامي ولكن مل تك�رس بها بوابة الدخول لأ�رساري.
تلك الأ�رسار التي �أقبع لأين ما زلت �أحتفظ بها مدفونة بعقلي يف زنزانة العزل
االنفرادي اجلائر منذ �أن اعتقلت ،ومنذ �أن توقف التحقيق معي لكنه مل ينت ِه منذ
قرابة �أعوام ع�رش ف�أنا يا ابنتي متهم من قبل قوات االحتالل ب�أين قمت بتنفيذ مائة
وثماين ع�رشة عملية �ضد العدو ال�صهيوين خالل م�شواري اجلهادي.
بل �إين خالل الأعوام املا�ضية مت اقتيادي للتحقيق �أربع مرات على عدد من
الق�ضايا الأمنية اجلهادية التي حدثت بعد �أ�رسي ب�إدعاء �أن يل يدا ً بها.
رغم وجودي بالعزل االنفرادي اخلا�ص �إال �أين ما زلت حاله خا�صة جدا ً بنظر
ذلك العدو ال�صهيوين ،حالة م�ستمرة باملقاومة رغم الأ�رس رغم �أنف ال�سجان
ورغم �أ�سوار ال�سجن ،فهناك يا ابنتي عددا ً من امللفات الأمنية التي مل تقفل بعد
ومل يتمكن عدوي وعدو فل�سطني من حلها بعد وك�شف �أ�رسارها ،وب�إذن اهلل لن
يتمكن� ،أما ما �سوف �أتطرق �إليه خالل كتابتي ل ِك فهو يخ�ص بع�ض �أهم املراحل
املف�صلية التي م ّرت بها كتائب الق�سام بال�ضفة الغربية والقد�س ال�رشيف ،تلك
املراحل التي متكنت خاللها الكتائب من متريغ �أنف العدو بالوحل ،وهي �أي�ضا ً من
59
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
رفعت ا�سم وم�صداقية حركة حما�س عاليا ً يف ال�سماء ،و�أعادت لها جمدها وجمد
العيا�ش يحيى.
وهنا �سوف تختلف طريقة كتابتي عن ال�سابق بحيث ال ت�صبح �رسدا ً للأحداث،
بل �إ�ضاءات على واقع ومراحل قد مرت معي ،وهنا �سوف �أ�سمي كل مرحلة با�سم
من �أ�ضاءها� ،سواء �أكان �شهيدا ً �أم �أ�سرياً� ،أم حمررا ً �أ �أم كان بال ا�سم ظل حرا ً ومل
يعتقل ومل ي�ست�شهد و�سوف تكون �أول تلك املراحل هي التايل:
60
ال�شهيد الق�سامي البطل «عز الدين امل�صري»
وهنا قبل �أن ن�صل لل�شهيد عز الدين امل�رصي يجب �أن ن�سلط
طريق وع ٍر نوعا ً ما؛ فبعد �أن نفذنا عدة عمليات
ٍ ال�ضوء على
خاطفة وخا�صة �ضد العدو عرب اخلاليا التي عملنا على ت�شكيلها
�أنا وبالل الربغوثي ،طلبت من بالل �أن يو�صلني مل�س�ؤويل
الق�سام مبختلف مدن ال�ضفة الغربية والقد�س املحتلة ،فكان من
وذكي بل عبقري ا�سمه �أمين حالوة ،وكان هذا املهند�سٌ مهند�س ف ٌذ
ٌ �أولئك امل�س�ؤولني
قد حترر من الأ�رس منذ مدة ق�صرية جداً ،ومل يكن قد �شارك بالعمليات امل�سلحة� ،إال
�أنه ومع اندالع االنتفا�ضة بد أ� العمل مع عدد من �أ�صدقائه الأ�رسى املحررين �أمثال
املجاهد البطل العنيد « �سليم حجي» وكذلك املجاهد «علي عالن» ابن مدينة بيت حلم،
فذهبت ملدينة نابل�س لألتقي «ب�سليم حجي» الذي �صحبني للقاء �أمين حالوة .كنت
�أرغب من خالل ذلك اللقاء �أن �أنقل اخلربة املوجودة لدي للأخوة يف خمتلف املناطق.
وهكذا اجتمعت مع �أمين حالوة وا�ستعر�ض �أمامي �إمكانيات احلركة يف تلك الفرتة
مبدينة نابل�س ،فكانت �صدمتي كبرية جداً .فرغم �أين كنت �أمام مهند�س عبقري بكل
ما حتمل الكلمة من معنى مهند�س فذ ذي موهبة وا�ضحة جداً� ،إال �أنه ب�سبب مكوثه
ملدة طويلة جدا ً يف الأ�رس ال�صهيوين ،كان قد ابتعد عن الأمور التقنية احلديثة وظل
ي�ستعمل نف�س املواد والأدوات التي ا�ستعملها يحيى عيا�ش قبل ا�ست�شهاده.
و�رسعان ما متكن �أمين حالوة من جماراتي ،بل والتفوق علي مبا �صنعته
وابتكرته .فلقد كان �رسيع التعلم و�رسيع البديهة فما �إن كنت �أريه خمططا ً �إلكرتونيا ً
حتى يقوم بفك رموزه وجمع خيوطه .وهكذا متكنت بف�ضل ذكاء املهند�س «�أمين
حالوة» من نقل كل خربتي يف جمال ال�صناعات الع�سكرية لعدد كبري من �أبناء املناطق
املحيطة مبدينة نابل�س.
61
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
�أما �أمين حالوة فلقد قال يل بعد �أول لقاء :ا�ستحلفك باهلل يا عبد اهلل ،هل �أنت تنتمي
لهذا العامل �أم لعامل امل�ستقبل؟ قل يل باهلل عليك هل �أتيت �إىل نابل�س عرب �آلة الزمن؟ فما
كان مني �سوى �أن �أبت�سمت وقلت له� :أنا ابن هذا الزمن ولكني ل�ست ابن هذا املكان.
فقال :كيف؟ قلت� :أنا مل �أولد هنا ومل �أتعلم هنا فقد ولدت يف اخلارج ودر�ست الهند�سة
وا�ستقيت علومي من بحر مراكز البحوث العلمية ومن �شبكة االنرتنت� .أما ُ يف كوريا
�أنت يا �صديقي فلقد منعتك قيود الأ�رس وق�ضبان ال�سجن من �أن تكمل ما بد�أته يف
جامعتك ،وهذا هو الفرق بيني وبينك ،ولكنك خالل �أيام معدودة ا�ستطعت اللحاق
بي بل ا�ستطعت جتاوزي ف�أنت مهند�س جمتهد� ،أما �أنا فمهند�س ك�سول ال �أجتهد
�إال �إذا واجهت م�شكلة وعند ذلك �أجتهد لأجد لها حالً ،حتى �أين ال �أنام �أياما ً طويل ًة
حتى �أجد احلل ،فقلت له� :أعطيك مثاالً ما هي �أكرب م�شكلة تواجهها �أنت وتعتقد �أن
حلها �صعب بل �أن حلها م�ستحيل؟ قال :حاليا ً ومع ما زودتني به ال �أظن �أن هناك �أي
م�شكلة من هذا النوع� ،أما �إن �س�ألت عن م�شكلة �أبحث لها عن حل فهناك واحدة �أبحث
لها عن حل منذ �أعوام و�أعوام ،و�أ�شار �إىل �أحدى الأوراق �أمامه ،قال هذه الورقة هي
امل�شكلة .و�أكمل :كيف �أ�ستطيع �إر�سال هذه الورقة التي كتب عليها �أحد البيانات التي
قمنا بها يف عملية الأم�س ،دون �أن يك�شف �أمرنا ،حيث يوجد بجوار كل وكالة للأنباء
�ألف عميل وعميل ،و�ألف رجل �أمن من رجال جهاز الأمن الوقائي واملخابرات ،قل
يل هل ت�ستطيع جعل من يو�صل هذا البيان خفيا ً ال يرى؟ هل متلك طاقية متكننا
من �أن ي�صبح �شبحاً؟ �ضحكت وقلت :طبعا ً �أملك �أال تعلم� ،ضحك هو ولكنه �رسعان
ما �أدرك �أين مل �أكن �أمزح فقال :كيف؟ وعن �أي طاقية تتحدث؟ قلت� :أعود لك بعد
�أ�سبوع �أو اثنني و�أح�رض لك احلل والطاقية.
ودعته ولكنه ا�ستوقفني على الباب وقال :باهلل عليك عندك احلل؟ قلت� :أدعو اهلل ع َّز
وج َّل �أن �أجد احلل .دلني على حمل يبيع القهوة لأين �أظن �أين �سوف �أحتاجها لتعينني
على �سهر الليايل القادمة� .صافحته وتوجهت من مدينة نابل�س جبل النار �إىل مدينة
رام اهلل ،رام اهلل التي �أ�صبحت وكرا ً ل�سلطة الف�ساد والإف�ساد ،وكرا ً للأجهزة الأمنية.
يف تلك الفرتة مل �أكن مطاردا ً �أو مطلوبا ً ولذلك كانت حركتي �سهلة جدا ً ولأين
معروف على �أين �أقوم بالتجارة فلم يكن تنقلي يثري ال�شبهة من قبل تلك الأجهزة
62
الأمنية ،حتى بعد �أن �صفيت �أعمايل فلم يرث ذلك �شكوكهم نحوي.
طوال الطريق كنت من�شغالً بالتفكري لإيجاد حل لتلك امل�شكلة التي مل �أجد وقتا ً
�ض بر�أ�سي �أثناء حديث �أمينطويالً لإيجاد �سيناريو حلها ،بل �أن �سيناريو حلها و َم َ
عنها وهو جهاز الفاك�س.
ولكن كيف �أحول جهاز الفاك�س من جهاز معلوم مكان �إ�شارة الإر�سال منه �إىل
جهاز جمهول مكان الإر�سال وجمهول الهوية؟ عدت بعد �أقل من �أ�سبوعني لأقابل
�أمين يف نابل�س ،هناك على الطاولة �أخرجت حقيبة كانت على كتفي :جهاز فاك�س
�صغري احلجم وو�ضعته �أمام �أمين حالوة ،ابت�سم بعد �أن قلّب الفاك�س بني يديه
وقال :اهلل ي�ساحمك �أال تعلم �أنه مبجرد �أن نر�سل ر�سالة واحدة من هذا الفاك�س �سوف
يتم مداهمة املكان الذي �أر�سلت منه من خالل معرفتهم رقم الهاتف عرب �أجهزتهم
االلكرتونية التي ي�ستعملها جهاز ال�شاباك؟ قلت له :هذا الفاك�س ال يحتاج خلط هاتف
كي ير�سل الر�سائل بل ال يحتاج لأن يو�صل بالكهرباء املنزلية ليعمل �أ�صال ،كل ما
عليك عمله هو و�ضع �أي ورقة بداخله وهو �سوف ير�سلها ب�شكل �آيل فوري �إىل اثني
ع�رش وكالة �أنباء دون �أن يتمكن �أحد من تعقب مكان وجوده ،ومكان وجود املر�سل،
بل �إنك �إن �أردت �أن يعمل الفاك�س ب�شكل متنقل فكل ما عليك عمله هو و�ضع الر�سالة
بداخله وتركه يعمل لوحده يف الوقت الذي نحن نعمل على برجمته به.
قال يل :باهلل عليك �أمل ت�أتِ �إىل نابل�س ب�آلة الزمن؟ �أمل ت�أتي هنا منذ عام � 2050أو
،2100فقلت :ال بل �أتيت من تل الربيع هناك وجدت جهاز فاك�س يعمل بالطريقة
التي ميكنني التعديل عليها ،فهو ال يحتاج لكم كبري من التيار الكهربائي ولذلك
قمت بجعله يعمل عن طريق البطاريات ولكن لي�س هذا هو املهم ،املهم هو �أين وعرب
جهاز �آخر ا�ستطعت و�صله بجهاز الفاك�س ،وحولت �إ�شارة بطاقة الهاتف اجلوال �إىل
�إ�شارة ت�ستعمل يف نظام الهاتف الأر�ضي؛ ولذلك ف�إن كل ما يلزمنا لت�شغيل جهاز
الفاك�س بطارية وهي موجودة بداخله وبطاقة هاتف جوال تو�ضع بداخله وهكذا
تكون ح�صلت على طاقية الإخفاء ،املهم �أن تكون بطاقة الهاتف اجلوال جمهولة
امل�صدر وهذا �سهل� ،أما الأهم هو �أن ت�ستبدل تلك البطاقة بعد كل ا�ستعمال ،لكي ال
يتم تعقبها� ،أي مرة واحدة فقط ،و�أن نر�سل الفاك�س من مكان عام بحيث تربجمه
63
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
وت�ضعه بحقيبة �شخ�ص متحرك يف �أي من ال�شوارع املزدحمة؛ وبذلك تبقى بعيدا ً
عن ر�صد �أجهزة العدو ،وكما يقال احلاجة �أم االخرتاع ،فاحلاجة جلهاز الفاك�س
كانت الدافع ل�صناعته واخرتاعه وكان ذلك قد حدث يف نهاية عام .2000
�أما ما حدث قبل ذلك ف�أعتقد �أنه �أكرث �أهمية ،ففي عام � 1990أي قبل ع�رشة �أعوام
من مو�ضوع الفاك�س وقبل اثنني وع�رشين عاما ً من عام 2012عامنا هذا الذي �أكتب
به هذه الوم�ضات ،فلقد كان عمري يف عام � 1990سبع َة ع�رش عاماً ،ومل �أكن قد �أكملت
عامي الثامن ع�رش ،كنت قد �أردت �أن �أفتح ور�شة ل�صيانة ال�سيارات وت�صليحها،
ولكني مل �أكن �أملك املال الالزم لكي �أ�ست�أجر الور�شة رغم �أين ا�ستدنت بع�ض املال
�إال �أنه مل يكف ِ ،فلقد كانت الور�شة تقع يف جممع جتاري و�صناعي جديد وكان
�صاحب املجمع من ذلك النوع البخيل االنتهازي فما كان �أمامي من حل �سوى �أن
قمت ب�صناعة جهاز للت�صنت وال�سرتاق ال�سمع ،و�ضعت هذا اجلهاز �صغري احلجم
بداخل كربيته و�أل�صقتها ب�أ�سفل مكتب �صاحب املجمع وبهذه الطريقة ا�ستطعت �أن
�أح�صل على املعلومة التي مكنتني من ا�ستئجار الور�شة بال�سعر املنا�سب ،ال�سعر
الذي ت�ستحقه ال �أكرث وال �أقل.
احلاجة �أ ّم االخرتاع� ،أما احلاجات التي �أ�صبحت بحاجة �إىل حلول فلقد كرثت جداً،
وجعلتني ال �أجد وقتا ً حتى للنوم؛ فلقد كنت وطوال عدة �أعوام ال �أنام �سوى خم�س
�أو �ست �ساعات .وطوال تلك الفرتة كان طعامي يقت�رص تقريبا ً على ال�سندوت�شات
اجلاهزة� .أما ما كان يزعجني يف تلك الفرتة :فرتة تلبية احلاجات ،فهو �أداء ال�صالة،
نعم �أداء ال�صالة فلقد كان عقلي م�شغوالً جدا ً مما كان ي�ؤدي بي �إىل ن�سيان عدد
الركع التي �صليتها �أو ن�سيان ماذا قر�أت من القر�آن الكرمي ،وكنت دائما ً ما �أعيد
ال�صالة مرة �أو اثنني حتى �أت�أكد من �أين �أديتها ب�شكل �صحيح.
لقد كربت يف تلك الفرتة امل�س�ؤوليات التي �ألقيت على عاتقي فلقد كنت دائم البحث
عن م�صادر ل�رشاء ال�سالح والعتاد مبختلف �أنواعه ،وكنت دائم البحث عن �شقق
وخمازن جتارية ال�ستعمالها لل�سكن ولتخزين املواد النا�سفة وال�سالح والذخرية.
�أما ال�شيء الذي كان مبثابة ريا�ضة اال�سرتخاء يل فلقد كانت امل�شاركة على ر�أ�س �أي
من اخلاليا الق�سامية املقاتلة ملهاجمة موقع �صهيوين �أو ملهاجمة رتل من عرباته
64
امل�صفحة بالعبوات النا�سفة ،فلقد كنت �أ�شعر عند م�شاركتي مبثل هذه الكمائن براحة
نف�سية عظيمة جداً ،كانت هي الدافع لكي �أعاود ن�شاطي للقيام بالأعمال الأخرى.
يف تلك الفرتة كنت قد قررت �أن نكثف توجيه ال�رضبات العقابية للعدو مبنطقة
�سلفيت ومبنطقة حوارة جنوب نابل�س ،حيث كان امل�ستوطنون ال يخرجون من تلك
امل�ستوطنة �أبدا ً �أبداً� ،إال ب�صحبة حرا�سات م�شددة وبا�ستعمال حافالت م�صفحة،
فلم يعودوا ي�ستعملون �سياراتهم اخلا�صة خوفا ً من الكمائن والعبوات النا�سفة.
بعد عدة �أ�شهر قدر اهلل �أن ي�صاب �أمين حالوة بحرق يف وجهه ورقبته جراء
ا�شتعال مادة ت�ستعمل يف ال�صناعات الع�سكرية ،مما جعل �أمين وب�سبب �إ�صابته
يلقي على عاتقي عبء ت�شغيل عد ٍد من مقاتلي الق�سام هناك يف نابل�س ،ولأين ما
زلت غري مطارد فلقد كنت �أق�ضي ن�صف �أ�سبوع مبدينة رام اهلل مع بالل واخلاليا
التي �شكلها ،والن�صف الآخر مبدينة نابل�س مبتابعة بع�ض رجال �أمين حالوة،
وهنا حدث ما ال حتمد عقباه �أبدا ً فلقد زاد طغيان العدو ال�صهيوين وبغيه وغدره.
ولأنه مل ي�ستطيع الو�صول لقادة الق�سام وال لعنا�رص الق�سام املقاتلة ،فلقد قام
هذا العدو الباغي بق�صف مقر خم�ص�ص لل�صحافة والأخبار يف مدينة نابل�س مما
�أدى �إىل ا�ست�شهاد عدد من ال�شهداء كان على ر�أ�سهم ال�شهيد جمال �سليم وال�شهيد
جمال من�صور ،وهما �أهم قياديني �سيا�سيني بحركة حما�س بنابل�س بل مبنطقة
ال�ضفة الغربية بذلك الوقت ،وبذلك الوقت �أي�ضا ً حدثت �إحدى �أهم االنعطافات
مب�سريتي اجلهادية؛ فلقد تعالت �أ�صوات احلناجر امل�شيعة جلثامني ال�شهداء بالث�أر
واالنتقام من العدو وكانت تلك احلناجر تطالب كتائب عز الدين الق�سام بالعمليات
اال�ست�شهادية ،العمليات اال�ست�شهادية التي �أنا �شخ�صيا -عبد اهلل الربغوثي -مل �أكن
�أف�ضلها ،فلقد كنت �أف�ضل املواجهة امل�سلحة والكمائن والعبوات النا�سفة والألغام،
�أما العمليات اال�ست�شهادية فلقد كنت �أرف�ض جمرد التفكري بها� .أما �أمين الذي كان
يعاين من جرحه فلقد كان يف�ضل هذا النوع من العلميات ،فطلب مني و�ألح علي بل
رجاين وحلفني باهلل العلي العظيم �أن �أعمل على التخطيط لإحدى تلك العمليات .وهنا
وبعد تفكري مل يطل كثريا ً قررت �أن �ألبي النداء ،وطلبت من «�أمين حالوة» �أن ير�سل
يل �أحد الأ�شخا�ص الذين يريدون تفجري �أنف�سهم ف�س�ألني :هل هناك نوع معني من
65
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
الأ�شخا�ص؟ هل تريده مثالً �أن يكون يجيد اللغة العربية لي�سهل تنقله وو�صوله �إىل
املكان امل�ستهدف؟ قلت له� :أر�سل يل �شخ�صا ً يرى ما ال �أراه� ،أر�سله بعد �أ�سبوعني �إىل
�أحد م�ساجد رام اهلل و�أنا من هناك �سوف �أتوىل باقي الأمور.
ودعت «�أمين حالوة» واجتهت �إىل رام اهلل واجتمعت ببالل الربغوثي وقلت له:
�أننا نريد تغيري مهمة �إحدى اخلاليا الق�سامية التي تعمل معنا فبد َل �أن تقوم تلك
اخللية بنقل العبوات النا�سفة من مكان لآخر ومن مدينة �إىل قرية �أريد من تلك اخللية
نقل ا�ست�شهادي وعندها قال بالل :احلمد هلل �أنك قررت خو�ض هذا املجال ،فقلت
له :باهلل عليك ال تناق�شني يف هذا املو�ضوع حتى ال �أبدل ر�أيي .قال :ح�سنا ً ح�سناً،
املهم �أنك قد قررت خو�ض هذا املجال ،هكذا تكون مهند�س ق�سامي مائة باملائة ،فبعد
الكمائن واال�شتباكات امل�سلحة ي�أتي دور العمليات اال�ست�شهادية.
بعد طول تفكري وقع االختيار على خلية «حممد دغل�س» لكي تنفذ هذه العملية،
وال�سبب الرئي�س هو �أن «حممد دغل�س» كان ميلك عن�رصا ً مهما ً جدا ً جداً ،وهو
الأخت املجاهدة «�أحالم التميمي» التي مل �أكن �أعلم عنها �شيئاً .وهنا �أق�صد مل �أكن
�أعلم ا�سمها �أو �إن كانت �شابا ً �أم �شابة ،لكني كنت �أعلم �أنه مت اختيارها ح�سب �أعلى
املوا�صفات من حيث التكتم التام واحل�س الأمني العايل والإميان ال�صادق بدرب
كتائب عز الدين الق�سام.
بعد عدة �أيام وبعد �أن ر�صدت �أحالم �أحد الأماكن يف مدينة القد�س �أردت �أن �أجرب
الإجراءات الأمنية املتبعة لذلك �أر�سلت عبوة نا�سفة �صغرية احلجم لأحالم التميمي
من خالل حممد دغل�س ثم بالل الربغوثي ،بالل الربغوثي الذي جن جنونه عندما
قلت له اذهب من قرية بيت رميا �إىل مدينة رام اهلل ل�رشاء �ست علب برية ودجاجة
م�ستوية وبع�ض املك�رسات و�أح�رضها يل يف القرية قلت له ذلك بعد �صالة الفجر
مب�سجد القرية فجن جنونه لكن ب�صمت دون �أن ينطق بكلمة واحدة ،لكن عيونه
كانت تقول ما مل يقله ل�سانه.
انطلق بالل من القرية �إىل رام اهلل مبا�رشة بعد ال�صالة ولأن احلواجز ال�صهيونية
كانت كثرية جدا ً وكانت تغلق كل الطرق الرئي�سية فلقد ا�ستغرق قطع امل�سافة التي
كانت بالعادة ال تزيد عن ن�صف �ساعة ،ن�صف يوم ،فا�شرتى العلب ال�ست من
66
البرية والدجاجة واملك�رسات وعاد �إىل القرية يف نف�س اليوم� ،أي �أنه �أم�ضى يوما ً
كامالً ذهابا ً و�إياباً� .أعطاين ما �أح�رض يل ف�شكرته بعد �أن �أعطيته الدجاجة امل�ستوية،
واحتفظت باملك�رسات وعلب البرية �أم�ضيت عدة �ساعات و�أنا �آكل املك�رسات و�أج ّهز
العبوة النا�سفة التي �صنعتها و�أخفيتها بقلب �إحدى تلك العلب .وو�ضعت تلك العلبة
املفخخة بني العلب اخلم�سة ال�سليمة بداخل ال�صندوق املخ�ص�ص لها .وعند �صالة
الفجر قابلت بالالً و�أعطيته كي�ساً ،ما �إن حمله حتى قال هذه علبة البرية ،هذه علب
البرية ملاذا �أح�رضتها يل فقلت له �أنها من النوع الرديء و�أين �أريد من يعيدها �إىل
رام اهلل� .صمت بالل بغ�ضب وقبل �أن ينفجر غ�ضبه ،وهو الهادئ امللتزم ،قلت له:
�أن �أحد تلك العلب مفخخ و�أن املطلوب �إي�صال تلك العلب «ملحمد دغل�س» ومنه �إىل
«�أحالم التميمي» لكي تزرعها باملوقع الذي قامت هي با�ستطالعه ،فحمل العلب
مبت�سما ً مهلالً لأنه �أدرك �أن موعد تنفيذ العملية اال�ست�شهادية قد اقرتب .كانت عملية
علبة البرية �أ�شبه ما يكون باختبار لأع�صاب من �سوف يقومون بتنفيذ العملية
اال�ست�شهادية ،فلقد �أردت �أن �أرى مدى االن�ضباط والقدرة على العمل حتت ظروف
خمتلفة عن تلك الظروف ال�سابقة ،فعمليات �إطالق النار ون�صب الكمائن امل�سلحة
وزراعة العبوات النا�سفة على جوانب الطرق حتتاج �إىل نوع �آخر من املقاتلني� ،أما
العمليات اال�ست�شهادية فتحتاج �إىل نوع ذي �أع�صاب حديدية وقدرة على التحكم
بامل�شاعر ب�شكل مطلق وكامل ،و�سوف �أحتدث عن هذه النقطة بوم�ضة �أخرى
�شاهدت خاللها �أ�شد مقاتلي الق�سام و�أقواهم عزما ً يبكون وال يكفون عن البكاء �أثناء
الإعداد والتجهيز لإحدى العمليات اال�ست�شهادية.
حمل «بالل الربغوثي» �صندوق علب البرية املو�ضوع بداخل كي�س بال�ستيكي
وانطلق �إىل مدينة رام اهلل و�سلمه ملحمد دغل�س الذي �سلمه بدوره للأخت املجاهدة
�أحالم التميمي� ،أحالم التي قامت با�ستطالع املكان �أوالً قبل �أيام معدودة ثم بزراعة
العبوة بعد �أن مرت بها عرب حواجز االحتالل من رام اهلل �إىل مدينة القد�س؛ مدينة
القد�س التي �سوف ت�صبح فيما بعد مركز عملياتي الرئي�س ،هناك ب�أحد الأ�سواق
التجارية زرعت �أحالم العبوة النا�سفة وبعد �أن �شغلتها انفجرت العبوة بالوقت
املحدد .مل يكن املق�صود �إيقاع قتلى �أو حتى جرحى يف تلك العملية �أبدا ً كما قلت.
67
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
جنحت العبوة بزرع اخلوف يف قلوب ال�صهاينة ب�أماكن ال�سوق ،لكن الأهم هو
جناح كامل لعنا�رص اخللية ب�أن يحملوا علبة برية ،برية وهي �شيء تهابه يد امل�سلم
امل�ؤمن ،لكن ان�ضباطهم و�شفافيتهم جعلتني �أبد�أ باخلطوة الثانية من تلك العملية،
وهنا توجهت �إىل رام اهلل لإحدى ال�شقق التي كنت �أمتلكها هناك للجلو�س بعيدا ً عن
�صخب االنتفا�ضة وبعيدا ً عن �إزعاج ولدي �أ�سامة الذي ولد بتاريخ 2000/5/24ولد
و�أنا من�شغل متاما ً عنه ،حتى �أين ال �أذكر �أين حملته بني ذراعي منذ �أن ولد وبعدة
�أ�شهر ،بل حتى �أين ال �أذكر حتديدا ً �سبب ت�سميتي له ب�أ�سامة ولكني �أعتقد �أين �أ�سميته
�أ�سامة لأن يل �أربعة �أ�صدقاء ا�سمهم �أ�سامة ،و�أعتقد �أن ذلك هو ال�سبب الأرجح �أما عدم
حملي �إياه وحتى عدم ح�ضوري يوم عملية تطهريه فلأين كنت دائم ال�سفر من مدينة
�إىل �أخرى ومن قرية لأخرى ،فلم يكن يل دقيقة لبيتي ولزوجتي ولتاال و�أ�سامة.
يف تلك ال�شقة �أم�ضيت يومني وليلتني ،وطلبت من بالل �أن يذهب لق�ضاء يومه يف
�شخ�ص �آخر.
ٍ كنت قد ا�ست�أجرتها على ا�سم املدينة وليلته ب�شقة �أخرى ُ
يف �صباح اليوم التايل ح�رض بالل مبكرا ً دون �أن يعلم �أن اليوم هو موعد و�صول
اال�ست�شهادي «ع ّز الدين امل�رصي» من نابل�س �إىل رام اهلل لأحد امل�ساجد لي�صلي هناك
وينتظر �شخ�صا ً �سوف ي�أتي لي�صطحبه لتنفيذ العملية.
طلبت من بالل �أن يذهب �إىل امل�سجد مع «حممد دغل�س» للقاء عز الدين ولكي يقوما
ب�رشاء مالب�س تتنا�سب مع املوقع الذي مت ر�صده وهو �أحد املواقع التي ا�ستطلعتها
«�أحالم التميمي» يف القد�س ال�رشيف.
بعد �أن �أعطيت بالال ًكلمة ال�رس وكلمة التعارف انطلق ف�أح�رض «عز الدين امل�رصي»
وجهز له املالب�س اخلا�صة وو�ضعها وتركها �أمانة عند «حممد دغل�س» يف �إحدى ال�شقق
التي ا�ست�ؤجرت ،لتكون بيتا ً �أمناً� ،أي بيتا ً ال يوجد يف داخله �أي �شيء �أبدا ً �سوى الأثاث
والطعام� ،أي بيتا ً عاديا ً جدا ً دون �سالح ودون خمترب للمواد النا�سفة.
وعاد بالل اىل �شقتي ف�أخربين مبا فعله فقلت له :ح�سناً ،وطلبت منه �أن يذهب
�إىل �أحد املحال التجارية لبيع الآالت املو�سيقية ،لي�شرتي يل قيثارة ،حددت له مكان
املحل ومكان القيثارة ولونها وطلبت منه �أن ي�شرتي لها بيتا ً من اجللد� ،س�ألني ملاذا
قيثارة ماذا تريد �أن تفعل بها؟ قلت� :أريد �أن �أعزف عليها ف�أنا �أ�شعر بامللل.
68
بالل رغم �أنه عن�رص ق�سامي من�ضبط �إال �أنه كان يجن من �أجوبتي عليه ،فهي
�أجوبة غري مفهومة بالن�سبة له �أبداً ،تريد قيثارة لتعزف عليها وهناك ا�ست�شهادي
ينتظرنا بالبيت الآخر على �أحر من اجلمر؟ ذلك ما �أراد بالل قوله لكن ح�سن خلقه
وان�ضباطه جعاله يقول :ح�سنا ً �سوف �أح�رضها على الفور .وفعالً خالل ن�صف
�ساعة عاد بالل ومعه القيثارة ف�أم�ضيت طوال فرتة الع�رص واملغرب وحتى حلول
�ساعات الليل املت�أخرة �أعزف على القيثارة وكان بالل ي�شاهدين ب�صمت وب�صرب ومل
ي�س�أل �أي �س�ؤال ومل يزعجني رغم �إزعاجي له ب�أحلاين املزعجة.
تعب بالل وغلبه النعا�س فقلت له :اذهب لكي تنام عند «حممد دغل�س» وعند «عز
الدين امل�رصي» ،و ُعد يوم غ ٍد باكراً� .أم�ضى بالل ليلته مع �أخويه بقراءة القر�آن
وال�صالة� ،أما �أنا فلقد توقفت عن العزف وذهبت لكي �أنام ،فالنوم �سلطان كما يقال.
ا�ستيقظت على �صوت الباب الذي كان يطرقه بالل ،ففتحت له و�أجل�سته يف غرفة
ال�ضيوف حيث كنت �أعزف ليلة البارحة .ا�ستلقيت على �أحد املقاعد متعبا ًنع�سا ًوطلبت
من بالل �أن يح�رض القيثارة من الغرفة املجاورة ،وقبل �أن �أنهي جملتي �شعرت �أن
بالال ً �سوف يقوم بك�رس القيثارة �ألف قطعة ،فلقد قال يل �أنه مل ينم و�أم�ضى الليلة
رتب من اهلل لعله ي�سهل هذه العملية ،ولذلك وقبل �أن بطولها مع �أخويه بالعبادة ،لنق َّ
ي�صل بالل باب الغرفة التي كنا جنل�س فيها قلت له احذر �أن مت�س القيثارة ب�سوء
وارفعها بحذر �شديد جدا ً جداً ،فالقيثارة مفخخة مبواد نا�سفة تكفي لتن�سف املبنى
كامالً .احذر باهلل عليك و�سم با�سم اهلل قبل �أن ترفعها .عاد بالل وو�ضع القيثارة
على الطاولة ،وقال :ملن القيثارة؟ هل هناك عملية �أخرى غري عملية اال�ست�شهادي
فقلت له :ال� ،أبدا ً اليوم ال عملية �سوى عملية «عز الدين امل�رصي» .فرد� :أين احلزام
النا�سف؟ فقلت :الأحزمة النا�سفة كان لها زمنها �أما الآن فزمن الأحلان النا�سفة.
طلبت منه بعد ذلك �أن يطلب من «حممد دغل�س» �أن ي�ستدعي «�أحالم التميمي»
للح�ضور ملدينة رام اهلل�« ،أحالم» يف تلك الفرتة مل تكن تعلم �أي �شيء مطلقاً ..وفعالً
ذهب بالل لإبالغ حممد مبا طلبته منه وعاد ليجدين نائماً ،غارقا ً يف النوم ،ف�أنا يف الليلة
ال�سابقة مل �أمن �سوى ع�رش �أو خم�س ع�رشة دقيقة فقط ثم قمت لكي �أ�ستحم و�أبد�أ
ب�إعداد القيثارة وتفخيخها ولقد ا�ستغرق ذلك طوال الليل وما �إن انتهيت وو�ضعت
69
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
ر�أ�سي على الو�سادة لكي �أنام حتى ا�ستيقظت على �صوت طرق الباب يف ال�صباح الباكر
ُ
ا�ستيقظ على طرقه مرة �أخرى ،ليخربين �أن �أحالم قد و�صلت لرام اهلل و�أن وها �أنا
�ساعة امل�ساء قد حانت ،تلك ال�ساعة التي �أردتها �أن تكون يف منت�صف النهار� ،أي عند
الظهر بنف�س التوقيت الذي ق�صفت به طائرات االحتالل املكتب ال�صحفي الذي كان
بداخله ال�شهيدين «جمال من�صور» و«جمال �سليم» �أردت �أن ي�شهد العامل كله العقاب
الذي �سوف يتلقاه �أولئك ال�صهاينة املحتلني جزاء جرائمهم بحق �أبناء فل�سطني.
�أعطيت بالال ً القيثارة وتوجه بها �إىل مكان وجود حممد دغل�س واال�ست�شهادي
عز الدين امل�رصي .هناك بداخل تلك ال�شقة قام بالل وحممد وعز الدين بق�ضاء عدة
�ساعات حرجة من االنتظار والرتقب ،االنتظار لل�ضوء الأخ�رض النطالق تنفيذ
العملية ،فلقد كلفت جمموعة مكلفة بعدة مهام ،منها.
�أوالً :مراقبة امل�سجد الذي كان من املفرت�ض �أن ي�صل �إليه اال�ست�شهادي ولقد
بد�أت تلك املهمة من املراقبة منذ �ساعات الفجر الأوىل وا�ستمرت حتى �ساعات ما
بعد �صالة الع�رص من ذلك اليوم ،وكان تقرير املراقبة يقول �أن الأمور طبيعية مائة
باملائة و�أن اال�ست�شهادي و�صل باملوعد املحدد �أي قبل �صالة الع�رص و�صلى ثم
انتظر بالركن املحدد له مب�سجد جمال عبد النا�رص مبدينة رام اهلل ،وبعد ذلك دخل
�أح ٌد الأخوة لي�صطحبه من هناك وطول تلك املدة كانت الأمور هادئة ومل يكن �أحدا ً
يتابع �أو يراقب �أ ّيا ً من اال�ست�شهادي �أو الأخ الذي ا�صطحبه معه ،ولقد بقينا بداخل
امل�سجد وحوله قبل وبعد الو�صول واملغادرة ومل نالحظ �أي �شيء.
ثانياً :لقد كانت املهمة الثانية حتتوي على جز�أين �أولهما متابعة عز الدين وبالل
منذ خروجهم من امل�سجد ومرورهم بالبيوت ل�رشاء املالب�س ،ثم مراقبة املنزل
الآمن الذي مكث به كل من بالل وحممد واال�ست�شهادي عز الدين امل�رصي .ولقد
جاء بتقرير املراقبة الذي و�صلني �صباحا ً �أن الأمور قد �سارت على �أكمل وجه ،ومل
يكن هناك �سوى نقطة واحدة ا�ستثنائية جاءت بذلك التقرير �سوى �أن �أ�ضواء �شقة
البيت الآمن كانت م�ضاءة طوال الليل ،ولقد �أرجعت ذلك لأن الثالثة كانوا قد م�ضوا
تلك الليلة م�ستيقظني لأداء ال�صالة وقراءة القر�آن الكرمي ،لكنني قررت �أنه فيما بعد
يجب �أن ال يتمكن �أي �أحد خارج �أي بيت �آمن من م�شاهدة �أ�ضواء الإ�شارة نهائياً،
70
ولذلك عملت على تزويد كل ال�شقق ب�ستائر من النوع الثقيل الذي ال ي�رسب ال�ضوء.
ثالثاً :وهي املهمة الأ�صعب فلقد كانت تركز على ر�صد ومتابعة حركة ال�سري
من مدينة رام اهلل و�صوالً �إىل مدينة القد�س املحتلة ،ومتابعة احلواجز الع�سكرية
املوجودة على امتداد ذلك الطريق �سواء �أكانت حواجز ثابتة �أم حواجز ا�ستثنائية
وفجائية ،ولقد جاء بذلك التقرير الذي كان حم�صلة عدة �أيام من املراقبة ب�أن ن�ؤجل
العملية ،حتى تهد�أ الأو�ضاع ،لكنني وجدت عك�س ذلك متاما ً لأنه رغم �أن حالة
الإ�ستنفار والتفتي�ش كانت دقيقة �إال �أنه كان ثابتا ً ومل يتغري على مدى تلك الأيام� .أي
�أنه �أ�صبح روتينيَّا والهدف منه الت�ضييق والتخويف لي�س �إال ،وهنا بعد �أن �صليت
ركعتي �صالة ا�ستخارة قررت �أنه قد حان موعد االنطالق.
و�أر�سلت �إ�شارة لبالل الربغوثي لكي ير�سل اال�ست�شهادي «عز الدين امل�رصي»
مع «حممد دغل�س» لكي يو�صله للأخت «�أحالم التميمي» وبعد ذلك وبو�ضح النهار
وخالل �أقل من �ساعة ون�صف على �إ�شارات البدء ،كانت «�أحالم التميمي» قد �سلمت
اال�ست�شهادي و�أو�صلته للقد�س بعد �أن مرت عرب احلواجز دون �أن تفت�ش ودون �أن
تتعطل فلقد كانت حتمل بطاقة �صحفية ت�س ِّهل لها التنقل بني املدن ولأنها فتاة فلم
تلفت االنتباه.
وهنا �أقول �أن تعمدي الختيار �أخت تعمل باملجال ال�صحفي كان مرده �أن تكون
ر�سالة الق�سام وا�ضحة و�ضوح ال�شم�س� ،أي �أنتم �أيها ال�صهاينة قمتم بق�صف مكتب
�إعالمي و�صحفي وال يوجد به �أي م�سلح وال يوجد به �أي ن�شاط ع�سكري ،و�أنا �أرد
عليكم ب�أن تكون ال�صحافة هي من تو�صل اال�ست�شهادي �إىل موقع العملية ،و�أن
تكون ال�صحافة هي من ت�صور وتبثّ وقائع تلك العملية.
وهكذا كانت «�أحالم التميمي» تلك املجاهدة البطلة الق�سامية ثابتة الأع�صاب
و�شديدة العزم والإميان ،هي ال�صحفية الفل�سطينية الق�سامية الأوىل التي تو�صل
ا�ست�شهاديا ً ،وتعلن عن نب�أ العملية عرب �شا�شة التلفاز الذي كانت تعمل به؛ لأنه
كان يجب �أن يدرك العدو ال�صهيوين �أنه اذا ما جتاوز خطا ً �أحمر ،ف�سوف نتجاوز
نحن �أي�ضا ً ذلك اخلط .وهكذا كانت مع تقدم �أيام االنتفا�ضة املباركة كانت اخلطوط
تق�صف الواحدة تلو الأخرى.
71
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
و�صل ال�شهيد «عز الدين امل�رصي» �إىل �أحد مطاعم القد�س القريبة �إىل مطعم ر�صد
بعناية فائقة وهو مطعم للبيتزا ا�سمه مطعم ا�سبارو ،واجتاز ال�شارع لي�صل �إىل املطعم
حامالً القيثارة� ،أما �سبب اختيار القيثارة فيعود لأمر واحد ال غري هو �أنّ حمل الآالت
املو�سيقية والدخول بها لذلك املطعم بالتحديد كان �أمرا ً روتينيا ً جدا ً جداً ،فعندما قدم
تقرير املراقبة قبل العملية جاء بذلك التقرير و�صف للمكان وللأماكن التي كانت
حوله ،ولأين �أثناء �إقامتي بالقد�س �أعرف املكان جيداً ،فلقد قررت �أن تكون القيثارة
هي الو�سيلة ال احلزام النا�سف ،لأنه كان هناك مقابل مطعم ا�سبارو معهد لتعليم
املو�سيقى ،وحمل لبيع الأدوات املو�سيقية ،وكان عدد من مرتادي املعهد يتجولون
ب�آالتهم املو�سيقية يف ذلك ال�شارع عند تنقلهم ،وكان بع�ضهم يدخل لتناول البيتزا بذلك
املطعم حامالً الآلة املو�سيقيه دون �أن يتعر�ض للتفتي�ش من قبل احلار�س املوجود على
بوابة املطعم ،وهكذا و�صل «عز الدين» دون �أي عائق من �أي نوع كان ؛ فلقد كان منظره
طبيعيا ً جدا ً من ناحية املالب�س التي اخرتتها له لكي يرتديها �أو التي كان يحملها.
فجر اال�ست�شهادي «عز الدين» الق�سام نف�سه ّ
لريقى لل�سماء ،م�سددا ً بذلك �رضبة من
�رضبات العقاب لل�صهاينة املحتلني ،وهنا
يجب �أن �أقول ان �أهم ما حدث يف تلك العملية،
�أهم من كل تلك الإجراءات واال�ستعدادات التي
قمت بها وقام بها كل من �شارك يف تلك العملية.
�إن �أهم ما حدث هو ذلك الذي ر�آه اال�ست�شهادي «عز الدين امل�رصي» ومل نره نحن
الب�رش ،نعم نحن الب�رش �أي �أن «عز الدين امل�رصي» مل يكن من الب�رش �أبدا ً �أبداً.
عندما طلبت من «�أمين حالوة» �أن يزودين مبقاتل ق�سامي يريد �أن ينفذ عملية
ا�ست�شهادية قلت «لأمين» جملة واحدة عندما �س�ألني عن موا�صفات اال�ست�شهادي
قلت له� :أريد من اال�ست�شهادي «�أن يرى ما ال �أراه».
هذا فعالً ما حدث رغم �أن «عز الدين امل�رصي» مل يكن يعلم �سوى �أنه �سوف ينفذ
عملية ا�ست�شهادية �إال �أنه قال يف تلك الليلة التي �أم�ضاها م�ستعينا ً باهلل مع بالل وحممد،
قال لهما� :سوف �أقتل اليوم �إن �شاء اهلل ما بني خم�سة ع�رش و�ستة ع�رش �صهيونيا،
72
و�سوف �أ�صيب ب�إذن اهلل ع َّز وج َّل ما بني مائة وخم�سة وع�رشين ومائة وثالثني بجراح،
كثريا ً منهم �سوف يبقون معاقني� ،أي �أحياء لكنهم �أموات ب�سبب �إ�صابتهم اخلطرية.
«عز الدين امل�رصي» ر�أى ما مل نره ،وعاهد اهلل ع َّز وج َّل على ذلك فلقد �صدق،
�صدق برب الكعبة وا�ستطاع �أن يقتل خم�سة ع�رشة �صهيونيا ً و�أن يجرح مائة و�ستة
وع�رشين �أغلبهم �أ�صيبوا بعاهات و�إعاقات دائمة.
�صدقت يا «عز الدين امل�رصي» ،ور�أيت ما مل نر ُه ،جنحت وتفوقت علينا نحن
الب�رش رغم كل ما قدمناه �إال �أنه ال ي�ساوي نقطة واحدة ببحر ما قدمته �أنت و�أجنزته،
�إىل جنات اخللد يرعاك اهلل.
وهنا �أقول ل ِك و ل ِك يا ابنتي احلبيبة ويا مالكي احلار�س �أين �أنا عبد اهلل الربغوثي
الوحيد ،الوحيد الذي مل ير ال�شهيد «عز الدين امل�رصي» وال مرة واحدة وال حتى
بنظرة واحدة طوال مراحل تنفيذ العملية ،مل �أكلمه ومل �أو�صه ومل �أودعه ،مل �أعانقه
فلقد كنت من�شغالً ب�أن ترى عيوين وت�سمع �آذاين كل ما يدور حول العملية من
�إجراءات �أمنية وتقنية لكي تنجح العملية ولكي ترى النور.
ومنذ تلك العملية حر�صت على �أن مي�ضي اال�ست�شهاديون القادمون يومهم
وليلتهم الأخرية عندي ب�صحبتي لكي ن�صلي ونتعبد هلل؛ فبال عون اهلل وتوفيقه لن
ن�صل �إىل �أي هدف وغاية.
ف�إما حيا ٌة كرمي ٌة ح ّرة
و�إما �شهاد ٌة يف �سبيل اهلل
عاد كل العنا�رص يف خاليا كتائب عز الدين الق�سام �ساملني و�صعدت روح ال�شهيد
«عز الدين امل�رصي» �إىل ربها ،لكني مل �أعد �ساملاً ،نعم مل �أعد �ساملا ً بعد تلك العملية،
فرغم �أين اهتممت بكل �شيء �إال �أين �أبقى �إن�سانا ً ب�رشاً ،ويبقى من معي من مقاومني
ب�رشا ً �أي�ضاً؛ فقد وقع خطا ٌ ما ،فوقعت �أنا وبالل يف الأ�رس للمرة الأوىل.
مل يدم �أ�رسنا طويالً ولكن خ�سارتي كانت كبرية جدا ً جداً ،وفقدت الكثري الكثري
جراء وقوعي يف الأ�رس املرة امللعونة ،فلقد خرجت من جتربة الأ�رس حراً ،ولكن من
نوع �آخر ،نوع جعلني �أ�صبح منذ ذلك اليوم �أمريا ً للظل� ،أمريا ً يعي�ش يف الظل رغم
�أنف من �أ�شعلوا م�صابيحهم ليبحثوا عني ويجدوين.
73
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
االعتقال الأول
بعد �أن عاد كل العنا�رص ملمار�سة حياتهم ب�شكل طبيعي بعد �إي�صال ال�شهيد عز
الدين امل�رصي للقد�س ،وقبل �أن ينفذ عز الدين العملية بنحو ن�صف �ساعة تقريباً،
كنت �أنا يف طريقي ال�ستالم �شحنة من الأ�سلحة والذخائر خمب�أة بطقم للكرا�سي
مت و�ضع ال�سالح والذخرية ال�ضخمة والفخمة ،بقلب تلك الكرا�سي والأرائك َّ
و�إخفائها ب�شكل حمرتف من قبل �أحد �إخواننا الذي كان يعمل مبجال تنجيد الأثاث
املنزيل ب�إحدى املدن الفل�سطينية� .سلمته ال�سالح والذخرية هناك ،وطلبت منه �أن
يخفيه ب�أحد الأطقم التي كنت قد ا�شرتيتها من تلك املدينة ،ف�أخفى الأمانة بداخله
و�أر�سله يل مع �سائق نقل عام و�أعطى ال�سائق ا�سما ً وهمياً ،كنت قد �أبلغته لذلك الأخ
املنجد .قبل و�صول ال�سائق للمكان املحدد ،و�صل بالل بعد �أن �أو�صل هو الآخر عز
الدين امل�رصي للأخوة ليو�صله لهدفه.
قابلت بالالً وانتظرت �أنا وهو و�صول ال�سائق مع الأمانة التي مل يكن يعلم
بوجودها بداخل طقم الكرا�سي والأرائك ،والأهم من ذلك هو �أن بالال ً �أي�ضا ً مل يكن
يعلم ماذا كنت �أفعل هناك �أ�صالً ،فكل ما كنت قد طلبته من بالل هو �أن يو�صل عز
الدين ويالقيني يف هذا املكان.
ما هي �إال دقائق بعد و�صول بالل حتى انق�ض عدة �أ�شخا�ص م�سلحني وملثمني
على بالل الربغوثي ليعتقلوه وعلي �أنا الآخر� ،أولئك امل�سلحون كانوا عنا�رص جهاز
الف�ساد والإف�ساد الفل�سطيني عنا�رص جهاز الأمن الوقائي كالب جربيل الرجوب
كلب بني �صهيون� ،أعتقل بالل واعتقلت معه ومل �أكن �أنا ال�شخ�ص املطلوب بل بالل،
لأنه قد مت ر�صد حركته من قبل جهاز الأمن الوقائي ب�سبب ن�شاطه وحركته الكبرية
خالل الأ�شهر املا�ضية ،فخالل ما يقارب الع�رشة �أ�شهر كان بالل الربغوثي قد نفذ
و�أدار وقاد عددا ً كبريا ً من العمليات عرب اخلاليا التي قمنا بت�شكيلها ،فاعتقل هو وما
زاد الطني بلَّه هو ما كان بالل يجيب به املحققني؛ فبعد التحقيق معه لعدة �ساعات ظل
�صامتا ً ال يتكلم فاقتادوه للزنزانة يف �أحد مقرات جهاز الأمن الوقائي مبدينة رام اهلل
وهناك باملقر الثاين فت�شوه وجدوا ب�أحد جيوبه ما يلي.
�أوالً :عقد �إيجار �شقته التي برام اهلل وهو عقد با�سم �شخ�ص �آخر ،ووجود عقد
74
�إيجار �شقة �أخرى كانت م�ستودع لل�سالح والذخرية واملال ،واملواد املتفجرة.
ثانياً :وهو الأهم بل ما قد ق�صم ظهر البعري وظهري �أنا �أي�ضاً ،هو �أنهم وجدوا
الورقة التي كانت حتمل و�صية اال�ست�شهادي «عز الدين امل�رصي « ،الذي كان قد
فجر نف�سه قبل عدة �ساعات فقط� ،أي بعد اعتقال بالل وبعد انتهاء التحقيق الأويل
معه مبركز جهاز الوقائي الفرعي.
هنا جن جنون جربيل الرجوب عندما علم �أن بالال ً الربغوثي له �صلة
بعملية مطعم ا�سبارو الذي حدث فجر اليوم يف القد�س ،ولقد ربط حمققوه
وجود عبد اهلل الربغوثي املهند�س بالق�ضية من هذا الباب ،وما زاد الطني بل ًة
هو �أنهم وجدوا م�سد�سا ً مع بالل �أثناء اعتقاله عندما كنا ننتظر ال�سائق الذي
كان يحمل الأمانة.
وهنا داهمت قوات جهاز الف�ساد والإف�ساد الفل�سطينية جهاز الأمن الوقائي
بقيادة كلب بني �صهيون جربيل الرجوب البيوت التي كانت عناوينها مكتوبة على
عقود الإيجار تلك العقود التي حملها بالل معه حت�سبا ً من وجود ثغرة �أمنية �أثناء
عملية مطعم ا�سبارو ولذلك ف�ضل �أن يحمل كل الأوراق التي متت له ولنا ب�صلة
ويحتفظ بها.
ما �إن و�صلوا لتلك ال�شقق حتى وجدوا عدة مئات من كيلو غرامات من املواد
النا�سفة وعدة مئات من اللرتات من املواد احلارقة التي ت�ستعمل ب�إنتاج املتفجرات،
ووجدوا عددا ً كبريا ً من ال�سالح وعددا ً �أكرب من الذخرية وحوا�سيب ومناظري ليلية،
والكثري الكثري من التجهيزات االلكرتونية ،كل ذلك مل يكن يهم �أبداً ،فكله ي�شرتى
باملال ،املال هو ما وجدوه ،لقد وجدوا مايل الذي كنت قد �سحبته من البنوك وجدوا
مايل الذي قب�ضته ثمنا ً للمحالت التجارية التي بعتها لل�سوبر ماركت وملحل الأدوات
الكهربائية ،كل املال وجدوه وا�ستولوا عليه بل نهبوه.
وما زاد الطني بلَّة هو ذلك الفا�سد الآخر توفيق الطرياوي الذي كان ير�أ�س جهاز
املخابرات الفل�سطينية ،فل�سطينية باال�سم �صهيونية بالعمل والوالء.
داهم توفيق الطرياوي وقواته منزيل بقرية بيت رميا داهموا قلعة والدي ،وداهموا
عددا ً من املخازن التجارية التي كانت �أمام النا�س فارغة وغري م�ستعملة ،وهي يف
75
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
احلقيقة كانت مليئة باملواد النا�سفة ،وهكذا ا�ستوىل جهاز املخابرات على ما تبقى من
مواد نا�سفة ومن مال ما زال بقرية بيت رميا ،وهكذا �أ�صبحت معتقالً �أ�سريا ً لدى
�أجهزة العمالة الفل�سطينية ،اعتقلت «�أحالم التميمي» لدى ال�صهاينة واعتقل «حممد
دغل�س» �أوالً لدى ال�صهاينة الذين اعتقلوه بناء على �صلته ببالل الربغوثي بعد �أن
نقلت تلك املعلومات من جهاز الأمن الوقائي جلهاز ال�شاباك ال�صهيوين.
بقينا �أنا وبالل معتقلني عدة �أ�سابيع وخاللها �أعلنا �إ�رضابا ً عن الطعام ،فبد�أت
الأخبار ت�صل خارج �أ�سوار املعتقل وهكذا خرجت مظاهرات طالبية �ضخمة من جامعة
بريزيت ومن عدد من اجلامعات الفل�سطينية باجتاه املعتقل مطالبة ب�إطالق �رساحي،
�رساح مهند�س كتائب الق�سام ذلك اال�سم الذي �أطلق علي منذ تلك الأيام ومطالب
ب�إطالق �رساح القائد الق�سامي بالل الربغوثي ،يدي اليمنى وكتفي الذي �أ�ستند عليه.
قدر اهلل �أن تكون للم�شوار تتمة ،فلقد كانت عملية مطعم ا�سبارو عملية مهمة جدا ً
من ناحية التوقيت ،فلقد كان ال�شارع متعط�شا ً لها ،راغبا ً مبعاقبة االحتالل والث�أر
منه ،مما دفع ال�شارع للغليان مطالبا ً بالإفراج عن منفذي العملية ،وقدر اهلل �أن
ترتكب �إ�رسائيل جرمية �أخرى بحق �أ�رشف رجال فل�سطني و�أطهرها ،وهو ال�شهيد
«�أبو علي م�صطفى» الأمني العام للجبهة ال�شعبية ،حيث ق�صفت قوات االحتالل
م�سكنه القاطن مبدينة رام اهلل ف�صعدت روحه لبارئها ،و�صعدت معها املظاهرات
مطالبة بالإفراج عن �رساح املعتقلني الفل�سطينيني من داخل املعتقالت الفل�سطينية
وعلى ر�أ�سهم �رساح قادة الق�سام.
وهكذا وبنف�س يوم ا�ست�شهاد «�أبو علي م�صطفى» وبعد �إحدى امل�سريات والتظاهرات
التي توجهت �إىل معتقل جهاز الوقائي مت �إطالق �رساحي و�رساح «بالل الربغوثي».
�شيع جثمان ال�شهيد «�أبو علي م�صطفى» يف ذلك اليوم لكننا مل ن�شارك بذلك الت�شييع،
ومل نحمل جثمانه؛ فلقد كنا نحتاج ملن يحملنا وي�ساعدنا� .أما «�أحالم التميمي» فقد كانت
تخ�ضع للتحقيق �أي�ضا ً ب�سجن امل�سكوبية يف القد�س حيث كان «حممد دغل�س» يخ�ضع
للتحقيق هو �أي�ضا ً وهنا �أقول �أن ما جرى يل عند التحقيق كان �أهون بكثري مما جرى
لأختي �أحالم و�أخي حممد ،ف�أنا مل �أعذب عند جهاز الأمن الوقائي �أما �أخوتي فذاقوا املر
والعلقم هناك عند ال�صهاينة .مل نحمل اجلثمان لكنا حملنا بعيداً.
76
املطارد
نعم �أ�صبحت مطاردا ً بعد عام على العمل الع�سكري ال�رسي منذ بدء االنتفا�ضة،
�أ�صبحت مطارداً ،و�أي مطارد ،وقد كنت منهكا ً من الإ�رضاب عن الطعام الذي خ�ضته
و�أنا معتقل لدى �أجهزة الأمن الوقائي ،وبالل كان يعاين كثريا ً ب�سبب الإ�رضاب لأنه
كان ميلك كلية واحدة فلقد فقد كليته الأوىل يف االنتفا�ضة الأوىل ،وكاد يفقد الثانية
نتيجة الإ�رضاب ،لوال �سرت اهلل ولطفه به.
كنا بدون �شقق� ،أو بدون مكان �آمن نلج�أ �إليه ،بدون �سالح وعتاد ،وبال مواد
نا�سفة وبال بنية حتتية من حوا�سيب و�أجهزة الكرتونية� ،أما الأهم هو �أين مطارد
فقري ،فقري معدم ال �أملك قر�شا ً واحداً .لأن املحن ت�أتي جمتمعة ولأن االبتالء قد كتب
علي يف تلك الفرتة الزمنية ال�صعبة.
تلك الفرتة التي كنت �أ�شعر فيها بالعجز وال�ضعف ،بعد �أن كنت قد بد�أت �أجيد
فنون املقاومة ،وهنا يا ابنتي اجلميلة ويا مالكي احلار�س جاء الدور علي ِك لأن متدي
يل يد العون وامل�ساعدة ،ولتعيني كتائب عز الق�سام على النهو�ض مرة �أخرى رغم
�أن عمركِ مل يكن قد جتاوز العامني ،ورغم �أن ِك وطول العام املا�ضي الذي كنت �أعمل
فيه ب�شكل �رسي مل �أركِ �سوى �أيام معدودة رغم كل ذلك كنتِ �أنتِ �أول من قدم يل
وللق�سام يد العون.
عندما ولدت قبل عامني كنت �أنا ثر ّياً ،فاح�ش الرثاء ولذلك كنت دائم �إح�ضار
الهدايا لك وبالأخ�ص الهدايا الذهبية ،وهكذا �أ�صبح لدي ِك الكثري من تلك القطع
الذهبية التي كنت �أو�صي �صديق يل ميلك حمالً للمجوهرات لكي ي�صنعها ل ِك
خ�صي�صا ً ولكي تنا�سب �صغر يدي ِك وخفة وزنكِ ،ولأين عندما كنت �أذهب لإح�ضار
تلك القطع الذهبية من عند �صديقي ال�صانع فلقد كنت ا�شرتي من عنده �أي�ضا ً قطعا ً
ذهبية لوالدت ِك لزوجتي احلبيبة� .أما قطع الذهب اخلا�صة بوالدتكِ ،فلقد كانت كبرية
وثقيلة جداً ،حتى �أن والدتك كانت دائما ً تقوم با�ستبدال تلك القطع بقطع �أ�صغر
لتتنا�سب مع ذوقها هي ،فلقد كان ذوقها �أرقى بكثري من ذوقي.
وهكذا فلقد كان �أول ما فعلته عند خروجي من معتقل الوقائي هو بيع كل ذهب ِك
با�ستثناء خرزة زرقاء وكل ذهب والدت ِك با�ستثناء دبلة خفيفة �أبقيتها كرمز للزواج،
77
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
�أنتِ مل تعار�ضي �أبدا ً �أما �أم ِك فهي من اقرتح علي تلك الفكرة �أ�صالً بل �إن والدتك
قامت ب�سحب كل املال الذي كنت قد �أودعته بح�سابها قبل عام عندما قررت �أن �أ�سري
يف درب املقاومة واملال الذي �سبق �أن جمعته من هدايا ونقوط خالل زواجنا.
وثاين ما قمت به هو الو�صول لل�صديق الذي �أودعت عنده الأمانة تلك الأمانة:
طقم الكرا�سي املليء بال�سالح والذخرية ،فهو �صديق ويف �أر�سلت له �أثناء اعتقايل
عند الوقائي ر�سالة فقام بانتحال اال�سم الذي ذكرته له وح�صل على الأمانة واحتفظ
بها عنده .وعندما ظننت �أن الأمور قد بد�أت ت�سري ب�سالم ،وخا�صة عندما ا�ست�أجرت
�شقة و�أعدت �رشاء احلوا�سيب و�أ�صبحت �أملك عدة هويات مزورة ،قدر اهلل �أن �أفقد
من حويل الرجال ،الواحد تلو الآخر .فاعتقل بالل الربغوثي مع ثالثة من املجاهدين
عند جهاز الأمن الوقائي وبعد ذلك بفرتة ق�صرية فقدت �أهم عقول حما�س الهند�سية
فجرت �إ�رسائيل ال�سيارة التي كان يقودها مبدينة املهند�س �أمين حالوة ،حيث ّ
نابل�س ،نابل�س جبل النار.
وبعد ذلك فقدت حما�س بل فقدت فل�سطني وكتائب الق�سام� ،سيد الق�ساميني
ال�شهيد حممود �أبو هنود ،حيث ا�ست�شهد الأ�سد اجل�سور الذي �أذاق ال�صهاينة املر،
ومرغ �أنوفهم بالرتاب منذ �سنوات طويلة من االنتفا�ضة الأوىل و�صوالً لالنتفا�ضة
الثانية ،وهكذا �أ�صبحت مثل الطفل ال�صغري بال �أخوة وبال �آباء ،نعم بال �أخوة وبال
�آباء؛ ف�أمين حالوة كان �أبا ً للق�سام وحممود �أبو هنود كان �أبا ً وقائدا ً عظيما ً للق�سام.
�أما الأخوة فهم كرث ،فلقد اعتقل يف تلك الفرتة �أي�ضا ً �سليم حجه وهو �أهم حلقة الو�صل
بني نابل�س ورام اهلل ،بني جناحي ال�ضفة الغربية .ولأن يحيى عيا�ش قد خطها على
القر�آن الكرمي «كن مع اهلل وال تبالِ» فلقد �أعز اهلل فل�سطني والق�سام ،بقائد ق�سامي مل
�أكن قد �سمعت عنه من قبل ،قائد كان معتقالً منذ �سنوات لدى �أجهزة الأمن� ،سلطة
الف�ساد والإف�ساد ،معتقل منذ اغتيال يحيى عيا�ش.
اعتقلته الأجهزة الأمنية طوال تلك الأعوام ب�سبب عالقته مع عيا�ش .قدر اهلل له
�أن يخرج من �أ�رس ال�سلطة وقدر اهلل يل �أن �ألتقي به .مل يكن من حملة ال�سالح وال من
قاذيف العبوات النا�سفة ،ومل يكن طويالً عري�ضاً ،لكنه كان عقالً ،عقالً مفكرا ً بارعا ً يف
�إيجاد كل ما حتتاجه املقاومة ،كان �صوت العقل واحلكمة� :شجاعا ً �صبوراً� ،صامتا
78
و�أعني بال�صمت كل ما حتمله الكلمة من معنى� ،أي �أن طوال عامني كاملني من العمل
امل�شرتك ومن املطاردة �سويا ً وطوال �أيام طويلة وليالٍ طوال ،ظ َّل �صامتاً� .أق�سم
�أن حديثنا معا ً مل يتجاوز خالل العامني �سوى �ساعتني �أو ثالثة كحد �أق�صى ،كان
يفهم علي دون �أن �أحتدث ،وكنت �أعلم ما يريد دون �أن يقول ،وكما يقال :اللبيب من
الإ�شارة يفهم ،لكني �أقول �إنه ما كان بيننا هبة ربانية وهبة لكلينا حتى نتمكن من
خو�ض املعركة ب�صمت وقوة.
وللآن ما زال ملف التحقيق معه مفتوحاً� ،أمام الق�ضاء ال�صهيوين ف�سوف �أكتفي
ب�أن �أ�سميه با�سم ال�سلوادي ،وهكذا بد�أت �أنا وال�سلوادي من جديد هو خارج املعتقل
و�أنا كذلك هو رافق املهند�س عيا�ش و�أنا املهند�س �أبحث عن من يرافقني ويعينني
على دربي ودرب رجال الق�سام.
«كلمات مت�شابكة»
وهنا بعد �أن بد�أت �أمللم �أفكاري و�أعيد �صف �صفويف التي بعرثها جهازي الأمن
الوقائي واملخابرات ،وجدت نف�سي �أقول تلك الكلمات ،الكلمات املت�شابكة..
�أل�ست على دين �صالح الدين
وابن اخلطاب عمر �أمري املجاهدين
�أل�ست من املوحدين امل�سلمني
�أمل ننطق ال�شهادة لرب العاملني
�أمل ترى كيف نذبح بفل�سطني
وكيف يحا�رص �أهل غزة امل�ساكني
�سحقا ً لك �أيها اجلبان
�أنت ما عدت اليوم �إن�سان
بل �أ�صبحت عميالً للطغيان
تبا ً لك يا ابن الغربان
ما دمت تقبل بالظلم والهوان
لأهلك �أهل القد�س والأق�صى وفل�سطني
79
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
ح�سبي اهلل ونعم الوكيل بكل من باع وهادن وقبل الذل والهوان ،ح�سبي اهلل بتلك
الأجهزة الأمنية التي �أ�صبحت عبئا ً على املقاومة والثائرين�،أ�صبحت �إماراتٍ وممالك
لقادتها الذين يتكالبون على املقاومة �إر�ضا ًء لأ�سيادهم ال�صهاينة.
وهنا قبل �أن �أعاود �رضب العدو من جديد قررت �أن �أ�رضب تلك الأجهزة الأمنية
لكن لي�س من خالل �إراقة قطرة دم واحدة بل من خالل اخرتاقها ب�شتى الو�سائل
والطرق؛ باملال والتكنولوجيا ،والأهم من خالل بع�ض العنا�رص ،عنا�رص تلك
الأجهزة القائمني عليها وعلى قيادتها.
80
قاوموها بعد �أن عرفوا حقيقتها ،وعرفوا �أنها �أدوات ب�أيدي قادتهم لتحقيق �أوامر
املحتل ،ولأنها بيت من ورق� ،رسعان ما متكنت من معرفة كل ما يدور بداخل دوائر
تلك الأجهزة الأمنية .و�أق�سم باهلل العلي العظيم �أنني �أ�صبحت �أعرف �أدق التفا�صيل
التي تدور فيها �أحاديثهم ،وكنت �أعلم املهام املكلفني فيها قبل �أن يعلم بها العنا�رص
التنفيذية� ،أي كنت �أعلمها من امل�صدر ،حتى �أين �أ�صبحت �أعلم متى �سوف تقتحم
قوات االحتالل و�أين �سوف تقتحم .كان ذلك يتم بالتتبع مع قادة تلك الأجهزة
العملية بقيادة جربيل الرجوب وتوفيق الطرياوي.
81
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
الأماكن التي كانت ميكن ا�ستهدافها ،والتي كنت قد زرتها �أنا عندما كنت �أقيم مبدينة
القد�س قبل االنتفا�ضة ويف بدايتها ،قبل �أن �أ�صبح مطلوبا ً لقوات العدو.
وخالل جولتني من اال�ستطالع وقع االختيار على �أحد ال�شوارع املليء باملالهي
ملهى ليليّا ً بعينه و�إمنا ال�صهاينةً الليلية ،وهنا �أقول �شارع �أي �أننا مل ن�ستهدف
املتجمهرين �أمام تلك املالهي الليلية وهم غالبا ً من �شبان جنود االحتالل الذين
مي�ضون ليلهم بال�سهر وال�سكر ونهارهم بارتكاب اجلرائم �ضد �أبناء فل�سطني املحتلة.
طلبت منهم �رشاء �سيارة لي�ستعمالها بتنفيذ العملية ،على �أن ال يتم �رشا�ؤها من
رام اهلل �أو من القد�س ،جتنبا ً لِلفت الأنظار لهما ،وبعد ذلك حددنا موعدا ً لتنفيذ العملية،
كنت قد �أعددتها لتكون خمتربا ً للعبوات النا�سفة، فح�رضا �إىل �إحدى ال�شقق التي ُ
وهناك زودت �إحدهما بحزام نا�سف لأنه كان ي�ستطيع ب�سهولة -ب�سبب �أن الف�صل
كان �شتا ًء � -إخفاءه بوا�سطة جاكيت �شتوي� .أما الثاين ف�أعطيته جهاز كمبيوتر
مفخخ ولقد �أم�ضيا تلك الليلة الرم�ضانية بعد تناولهما طعام الإفطار بت�صوير عد ٍد
من �أ�رشطة الفيديو لهما � :رشائط للإعالم وللعائلة من �أجل توديع �أهلهم.
�أم�ضينا طوال تلك الليلة وهما يقر�آن القر�آن وي�صليان وعندما جاء موعد ال�سحور
وودعتهما لينطلقا �إىل القد�س ليبقيا بها حتى حلول منت�صف الليلة وبعد ذلك بتفجري
نف�سيهما بالأماكن املحددة م�سبقاً.
هنا عندما قلت �أن العقاب �سيكون ثالثياً ،ف�أنا �أعني
ذلك حرفياً ،فلقد كان ثالثيا ً قوياً.
عندما مت ر�صد مكان تنفيذ العملية كان مكانا ً
ينا�سب ثالث عمليات ال �أكرث وال �أقل ،فلقد طلبت من
اال�ست�شهادي الأول �أن يفجر نف�سه بو�سط اجلنود
ال�صهاينة املتواجدين عند بوابة �أحد املالهي الليلية عرب جهاز الكمبيوتر الذي
كان يحمله معه وكان ذلك �شيئا ً عاديا ً �أن يحمل �أي �شخ�ص جهاز حا�سوب� ،أما
اال�ست�شهادي الثاين فلقد طلبت منه �أن يفجر نف�سه من خالل احلزام النا�سف الذي
كان يرتديه على ج�سده الطاهر بو�سط جمموعة �أخرى من اجلنود الذين يرتادون
�شارع �آخر.
ٍ ناديا ً ليليا ً �آخر يقع يف
82
وفعالً ومبجرد �سماع دوي انفجار جهاز
احلا�سوب من اال�ست�شهادي نبيل حلبية قام
اال�ست�شهادي �أمين بحر وح�سب التعليمات
وح�سب الوقت املعلوم م�سبقا ً قام بتفجري
نف�سه .وهكذا �أوقع كال اال�ست�شهاديني عددا ً
كبريا ً من قتلى وجرحى العدو ال�صهيوين.
بعد ذلك امتلأت ال�شوارع ب�سيارات الإ�سعاف وبقوات االحتالل وباملحطات
الف�ضائية التي كانت تنقل البث املبا�رش ملا يحدث هناك ،ولقد كان من عادة قوات
االحتالل �أن تقفل بداية ال�شارع الذي حدثت به العملية ونهاية ال�شارع ،وهذا ما
حدث فعالً وهذا ما �شاهدته على التلفاز و�أنا �أتابع البث املبا�رش وعندما ر�أيتها تقف
�شاخم ًة وك�أنها تريد �أن حتلق بال�سماء -يق�صد ال�سيّارة -قلت لها :مع ال�سالمة.
مع ال�سالمة بعد �أن ات�صلت من خالل الهاتف اجلوال الذي كان بحوزتي وهاتف
�آخر كان بحوزتها ،فودعتني وانفجرت .فلقد قمت بتفخيخ ال�سيارة �أثناء الليل عندما
كان كال اال�ست�شهاديني ي�صليان ويقر�آن القر�آن الكرمي وبعد �أن فخختها ،و�ضعت
عليها �إ�شارة ب�أعلى ال�سقف لكي �أ�ستطيع م�شاهدتها عرب التلفاز.
قبل �أن ينطلق اال�ست�شهاديان و�أثناء و�ضعنا للخطة قررنا �أن يقوما ب�إي�صال
نف�سيهما ملوقع العملية و�أن يقوما بركن ال�سيارة على الطرف الآخر من ال�شارع؛
الطرف الذي كان بعيدا ً عن موقع العمليتني ،والذي كان وح�سب معرفتنا باملنطقة
�سوف يكون هو الطرف الذي تقوم قوات االحتالل ب�إغالق ال�شارع من عنده ،وهذا
ما حدث بحمد اهلل ولقد �صورت هذه العملية بال�صوت وال�صورة عرب البث املبا�رش،
فكانت بحمد من اهلل وتوفيق منه �صفعة وعقابا ً قويا ً يتلقاه العدو ال�صهيوين جراء
جرائمه بحق �أبناء �شعب فل�سطني املحتلة.
وهكذا مت الرد ومت توجيه العقاب املنا�سب ردا ً على ا�ست�شهاد ك ٍل من :املهند�س
«�أمين حالوة» وقائد كتائب الق�سام «حممود �أبو هنود» ،رحمة اهلل عليهما ،وكتب اهلل
لهما ،ولل�شهيدين «نبيل حلبية» و«�أ�سامة بحر» اخللود بجنات اخللد والنعيم ،هذه
العملية �أفقدت العدو توازنه ب�شكل كبري جدا ً مما جعله يكثف بحثه عني من خالل
83
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
طغى وجترب
هناك بعيدا ً عن رام اهلل والقد�س حا�رصت دبابات «املركافا» قريتي بيت رميا
فو�صلني اخلرب ،فعرفت على الفور �أن املق�صود من ذلك احل�صار هو الو�صول
�إيل ،بل الو�صول لقلعتي واعتقال زوجتي هناك .فتوجهت مع �إحدى املجموعات
الق�سامية املقاتلة عرب الطرق االلتفافية الرتابية ملحاولة دخول القرية وخو�ض
املعركة هناك ،ولقد تزودنا بكل ما يلزم من عبوات نا�سفة وقنابل يدوية و�أ�سلحة
نارية ومناظري ليلية وبع�ض بنادق القن�ص ،لكننا مل نتمكن من دخول القرية لأننا
كنا مبوقع مك�شوف قررنا الرتوي حتى يحل الظالم؛ فالليل حام ٍ و�ساتر بعد اهلل
ع َّز وج َّل.
وما �إن حل الظالم حتى �سبقتنا دبابات املركافا واملجنزرة التي تعمل بدون
احلاجة لوجود جندي عندها ،فهي تعمل عرب �أوامر من داخل املجنزرة �أو الدبابة.
فبد�أت تلك الدبابات ب�إطالق نريانها على كل �أرجاء القرية فلم ترتك منزالً يقع �ضمن
مرماها حتى قامت بر�شه بوابل من الر�صا�ص والقذائف.
فغ�صت القرية بال�شهداء َّ ا�ستمر القتال طوال الليل وحتى طلوع الفجر،
وامل�صابني ،واعتقل املئات من �أبناء القرية وفرغت املنازل من كل الرجال من كل من
كان عمره �أكرب من خم�سة �أو �ستة ع�رش عاماً ،هناك اقتيد عد ٌد من �أعمامي و�أبنائهم
84
و�أخذ جزء منهم لكي يتعرفوا على جثتي من بني ال�شهداء الذين كانت جثثهم �أ�شالء
ممزقة بفعل قذائف الدبابات ،فلم ي�ستطع �أحد �أعمامي التعرف على جثتي املفرت�ضة.
يف ذلك اليوم ا�ست�شهد نحو ثمانية �شهداء �أما اجلرحى فكانوا بالع�رشات ال بل
باملئات ،لكني مل �أكن ال �أنا وال �أخوتي مقاتلي الق�سام من بني ال�شهداء �أو اجلرحى،
فنحن كنا م�سلحني وجمهزين مما ا�ضطر قوات العدو ب�أن حت�رض عددا ً من طائرات
الأبات�شي لتم�شط املنطقة التي كنا فيها ،ولكن قدر اهلل لنا �أن نخو�ض ا�شتباكا ً طويالً
دون �أن نفقد قطرة دم واحدة ،وفر�ض حظر التجوال لعدة �أيام على القرية ،بقينا
خالله نناو�ش العدو من التالل املجاورة مما جعل القوات املحتلة تغادر القرية
وتالحقنا يف تلك التالل واجلبال ،وبف�ضل اهلل ع َّز وج َّل ومب�ساعدة العبوات النا�سفة
وبنادق القن�ص ا�ستطعنا �أن نوقع عددا ً من جنود العدو بني قتي ٍل وجريح.
زوجتي مل تكن بالقلعة عند مهاجمتها و�إمطارها بوابل من القنابل مما �أدى �إىل
احرتاق جز ٍء منها ودمار جز ٍء �آخر� ،أما زوجتي احلبيبة ومالكي احلار�س و�أ�سامة
ابني ال�صغري ،فلقد حماهم اهلل من تلك القنابل ومن االعتقال �أي�ضاً.
وما �إن ان�سحبت قوات العدو حتى بان الدمار �أكرث و�أكرث ،فلقد �سحقت �سيارتني
كنت �أملكهما وكانتا تقفان �أمام منزيل فحولتا �إىل كومة من احلديد ،ومت تفجري ثالثة
كانت تقف يف داخل �أحد املخازن التجارية التابعة يل� .أما ال�سيارة الرابعة فلقد وجد
ن�صفها فقط �أما الن�صف الآخر فوجد مهرو�سا ً يف �أحد �أطراف القرية .ويبدو �أنه كان
قد علق ب�أ�سفل �أحد الدبابات �أثناء تلك املجزرة ،جمزرة بحق الب�رش وال�شهداء وبحق
املنازل وال�سيارات وبحق �أ�شجار الزيتون ،فلم يبقَ �شيئ قد �سلم من تلك الآلة� ،آلة
الظلم والطغيان �آلة الدمار� .،أما �أنا فلم يت�أخر ردي عرب عد ٍد من العمليات املكثفة
نفذت على الطرق االلتفافية و�ضد نقاط التفتي�ش واحلواجز ال�صهيونية.
بناء ما مت تدمريه
عندما عدت �إىل رام اهلل بعد �أن �شاهدت حجم الدمار الذي حل على قريتي ،قرية بيت
رميا ،قررت �أن �أتخذ عدة �إجراءات لعلي �أ�ساعد ولو قليالً على التغلب على هذا الدمار.
فكلفت �أحد الأقارب لكي يقوم ب�إعادة بناء منزل والدي الذي تهدم جزء منه
85
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
واحرتق جزء �آخر و�أعطيته املال املنا�سب لذلك ثم قمت مب�ساعدة كافة الأ�شخا�ص
الذين كانوا مديونني يل مبال من �أهل القرية ،ذلك املال الذي كانوا مديونني به جراء
�رشائهم ال�سلع اال�ستهالكية من املحالت التجارية التي كنت �أملكها حتى بداية
وبعت تلك املحالت بقيت �أحتفظ ب�سجل الديون .ومل ُ االنتفا�ضة ،لأين عندما �صفيت
أكتف بهذا ،فالدمار كان قد طال الكثري والكثري من البيوت والأ�رس ،ف�أر�سلت جزءا ً � ِ
من املال لعلي �أ�ساهم ب�صمود �أهايل القرية على املحتل ولعلي �أمتكن من �إعانتهم على
�إعادة البناء.
وما هي �إال �أ�سابيع قليلة جدا ً حتى عادت القرية على �أح�س حال و�أف�ضل و�ضع،
وما فاج�أين هو �أن �أهل القرية كانوا متكاتفني ومتعاونني جدا ً حتى �أن جز ًءا كبريا ً من
املال الذي كنت قد خ�ص�صته لإعادة �إعمار منزل والدي (قلعة جدي) ظل على حاله
لأن عددا ً من العاملني يف جمال البناء تربعوا يل :تربعوا لعبد اهلل الربغوثي ،بعملهم
ومبواد البناء الالزمة لإمتام تلك الأعمال ،وعندما ُ�سئلوا قالوا :لنفدي �أبو �أ�سامة
«عبد اهلل الربغوثي « مقاتل بني �صهيون و�سوف نبني ما ُد ِّم َر من قبل بني �صهيون
فهذه معركتنا �أي�ضاً.
حمدت اهلل على تكاتف القرية بل على تكاتف �أهل فل�سطني الذين كانوا ي�سارعون
�إىل اخلري و�إىل البناء و�إىل تقدمي كل ما ميلكون يف �سبيل حتقيق ذلك رغم �ضيق احلالة
املادية لهم.
86
«�أبو علي ال�سلوادي»
يف تلك الفرتة وبخا�صة بعد اعتقال «بالل الربغوثي» وعد ٍد لي�س بالقليل من عنا�رص
كتائب عز الدين الق�سام� ،سواء على يد �أجهزة ال�سلطة الأمنية� ،أم على يد �أجهزة
الأمن ال�صهيونية� ،أ�صبحت العالقة قوية ومتينة و�أ�صبح هناك بع�ض امل�شاكل
�أي�ضاً ،كانت تلك امل�شاكل تعود ل�سبب واحد وهو �أن �أبا علي ال�سلوادي كان يخ�شى
�أن يفقدين وكان يخاف علي من االعتقال �أو اال�ست�شهاد ،وكان يردد جملة دائما ً على
م�سمعي يقول بها� :إن فقدناك يا �أبو �أ�سامة الربغوثي ف�إننا لن نتمكن مهما حاولنا
من تعوي�ضك وتعوي�ض ما متلكه من خربة ومهارات ع�سكرية و�أمنية .كنت �أرد عليه
�ضاحكاً :فل�سطني والّدة �سوف تنجب من هم خري ب�ألف مرة فال تقلق .لكن قلق «�أبو
علي ال�سلوادي» كان مبحله؛ ففي تلك الفرتة كانت قوات االحتالل تناو�ش حول املدن
الكربى ومل تكن قد اقتحمت �أيا ً منها ،وب�إحدى تلك املناو�شات واملعارك على �أطراف
مدينة رام اهلل ،وحتديدا ً منطقة �أم ال�رشايط ،كنت مع عد ٍد من رجال الق�سام ،وهم
«�سيد ال�شيخ قا�سم» و«�أبو �أحمد اخلطيب» وعن�رصين �آخرين خ�ضنا ا�شتباكا ً فجرنا
خالله العديد من العبوات النا�سفة و�أطلقنا الع�رشات من الر�صا�صات باجتاه قوات
العدو التي كانت حتاول اقتحام منطقة �أم ال�رشايط ،ق ّدر اهلل يل يف ذلك اليوم �أن �أ�صاب
ب�إحدى الر�صا�صات لت�ستقر هذه الر�صا�صة بفخذ قدمي الأمين خملف ًة نزيفا ً حاداً،
وقبل �أن يتمكنوا من نقلي بعد �إ�صابتي كنت قد دخلت يف غيبوبة نتيجة نق�ص الدماء
من ج�سدي ب�سبب النزيف احلاد .ا�ستيقظت بعد ذلك بيومني ب�إحدى ال�شقق الآمنة
بعد �أن كان الأخوة �سيد ال�شيخ قا�سم و�أبو �أحمد اخلطيب قد نقلوين �إليها مب�ساعدة
�أخوين ق�سامني �آخرين.
يف تلك الفرتة وخالل متاثلي للعالج �أدركت �أن كالم «�أبو علي ال�سلوادي»
�صحيح ومهم جدا ً و�أدركت كم كنت خمطئاً ،وكم كان هو �صائبا ً وحكيماً .ف�أبو علي
87
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
كان يت�ضايق مني ب�أمرين اثنني �أولهما كرث ُة تنقلي بني املدن الفل�سطينية وقراها،
فلقد كنت ال �أف�ضل املكوث ب�أي من املدن �سوى فرتة حمدودة �أو مبعنى �آخر كما
كنت �أقول «لأبي علي ال�سلوادي» عندما ي�صبح عملي ووجودي ب�أي مكان روتيني
ف�أنا �أنتقل ملكان �آخر ف�أنا ال �أحب الروتني فهو يقتلني ،ويدمر حما�سي ورغبتي
يف التجديد هي ما تدفعني للنجاح� .أما ال�شيء الثاين الذي كان ي�ضايق «�أبا علي
ال�سلوادي» مني فلقد كان حبي خلو�ض اال�شتباكات امل�سلحة وع�شقي للكمائن التي
كنا نن�صبها لقوات االحتالل.
ما �إن بد�أت �أ�سرتجع عافيتي حتى قررت �أن �أبد�أ �أو�سع برنامج لتدريب كل من
ميكن تدريبهم من عنا�رص الق�سام على تقنيات �صناعة العبوات النا�سفة واللوحات
االلكرتونية الالزمة لذلك ،وهنا كان دور «�أبي علي ال�سلوادي» دورا ً حموريا ً
ورئي�سيا ً للغاية فلقد كان ينتقل من مكان لآخر ويجوب املدن الفل�سطينية منتقيا ً
�أف�ضل �شباب كتائب الق�سام الذين ي�صلحون وميلكون القدرة على التعلم وعلى
القيادة �أي�ضاً ،فنحن خالل الربنامج التدريبي الذي ا�ستمر نحو عا ٍم كامل ،كنا
ندرب ونعد عددا ً من قادة الق�سام ليكونوا قادة املرحلة القادمة حتى ال يكون هناك
فراغ ونق�ص �إذا ما ا�ست�شهد قائ ٌد ما وخا�صة �أن القب�ضة الأمنية من �أجهزة ال�سلطة
الفل�سطينية ومن قوات ال�شاباك ال�صهيوين كانت قوية و�شديدة جداً.
�أما برنامج التدريب فلقد كان مكثفا ً وم�ضغوطا ً لدرجة كبرية ومتعبة ،فلقد كانت
الدورات تعقد مبجملها مبدينة رام اهلل ومدينة البرية يف عدة منازل �أُع ّدت وخ�ص�صت
لتلك املهمة.
بعد تقدم برنامج التدريب ب�شكل جيد بف�ضل «�أبي علي ال�سلوادي» كان قد �أدار
هذا الربنامج بحكمة واقتدار وبف�ضل كل من �سيد ال�شيخ قا�سم و�أبي �أحمد اخلطيب
اللذين كانا م�ساعدي ال�شخ�صيني وكانا مي�ضيان كل وقتهما �إما يف جتهيز ال�شقق
و�إعدادها و�إما ب�إح�ضار املتدربني و�إعادتهم للأماكن التي قد ح�رضوا منها ،وتلك
املهمة كانت الأ�صعب.
فلقد كان �إح�ضار متدرب واحد ليتلقى برنامج التدريب يتطلب �إجراءات �أمنية
�رسيعة ومعقدة يف ظل املالحقة الأمنية التي كانت حركة املقاومة حما�س وذراعها
88
الع�سكري كتائب الق�سام تتعر�ض له من قبل قوات الأمن الفل�سطينية التي كانت جتوب
املدن وال�شوارع واملباين ال�سكنية بحثا ً عنا ،ومن خالل قوات العدو ال�صهيوين التي
كانت تبحث عنا عرب عمالئها وعرب و�سائلها التقنية من طائراتٍ لال�ستطالع ،تلك
الطائرات التي مل تكن تفارق املدن الفل�سطينية �أبداً ،ومن خالل �أجهزة ر�صد املكاملات
الهاتفية مما جعل مهمة «�سيد ال�شيخ قا�سم» و«�أبي �أحمد اخلطيب» من �أ�صعب املهام،
ولكن بف�ضل اهلل �أنهما طول عملهما معي مل يرتكبا �أي هفوة �أو خط�أ .بل كانا ميلكان
نوعا ً من الب�صرية الربانية وح�سا ً �أمنيا ً فائقاًُ ،يجنبنا الوقوع مب�صائد العدو.
�أما �أبو �أحمد اخلطيب فلقد كان مثل ال�سيف �إذا ما �رضب �رضبة ف�إنه لن تكون
هناك حاجة ليعيد ال�رضبة مرة �أخرى ف�رضبة واحدة منه تكفي وتزيد.
ق�سمته لعدة م�ساقات؛ النظري والعلمي وامليداين. عندما �أعددت برنامج التدريبّ ،
�أما النظري فلقد حولت كل ما كان بداخل ر�أ�سي من معلومات تقنية وكل ما بداخل
جهاز احلا�سوب �أي �أوراق مطبوعة ،مطبوعة بلغة �سهلة جداً ،وا�ضحة بحيث �أن
املتدرب رغم عدم �إملامه بعلوم الهند�سة االلكرتونية� ،أو بعلوم �صناعة العبوات
النا�سفة ،ف�إنه كان يتمكن من فهم تلك الأمور خللوها من التعقيد والإطالة اململة .ف�أنا
من خالل تلك الأوراق املطبوعة املزودة بر�سوم هند�سية وتو�ضيحية �أردت �أن تكون
ال�صورة وا�ضحة ب�سيطة .ثم �أين قمت بالعمل على �أن يح�صل املتدرب على ن�سخة
من تلك الأوراق قبل و�صوله للتدرب لدي بعدة �أيام لكي ال يفاج�أ مبا �سوف يتم
�إعداده وتدريبه عليه .ثم من الناحية العملية ،فلقد كنت بعد انتهاء ال�رشح النظري
�أبد�أ بالتدريب العملي مع املتدرب ،ف�أعلمه كيف يقوم ب�إعداد الدوائر االلكرتونية
وجتهيزها وكيف يقوم ب�إعداد املواد النا�سفة وجتهيزها �ضمن عبوات خمتلفة
الأ�شكال والأحجام ،عبوات تتنا�سب مع كل عملية يراد التح�ضري لها.
�أما من الناحية امليدانية فلقد كنت �أدرب عن�رص الق�سام على التعرف على �أنواع
الأ�سلحة املختلفة وعلى الذخائر امل�ستعملة ثم �أدربه على كيفية فك وجمع تلك
الأ�سلحة من م�سد�سات ور�شا�شات وقنابل يدوية ،وبعد �أن يتقن هذه املرحلة التي
كنت �أبد�أ مهارة عمليه ف�إنه ي�ؤخذ �إىل �أحد
كانت تتم بداخل املنزل املخ�ص�ص للتدريبُ ،
املناطق القروية النائية للتدرب.
89
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
حر�صت على �شي ٍء مهم و�أمتنى �أن يحر�ص عليه كل من يعمل مبيدان املقاومة،
وهو �أنه مل يتمكن �أي �أحد من ر�ؤية وجهي �أبدا ً وال من التعرف على �صوتي ،فلقد
كنت مقنّعا ً طوال مدة التدريب مهما طالت ،وكنت �أحتدث باللغة الف�صحى ولي�س
باللغة العامية ،وكنت �أطلب من «�سيد ال�شيخ قا�سم» �أن يلب�س كل متدرب قبل �أن
يدخله ملقابلتي قناعا ً لكي ال �أتعرف �أنا على هويته .وكان �سيد يطلب منهم التحدث
باللغة الف�صحى مثلي متاماً ،وكنت �أعطي كل واحد منهم ا�سما ً حركيا ً �أتعامل معه
به� .أما هم فلم يكونوا يقولون يل �سوى كلمة واحدة وهي «ال�شيخ»« .ال�شيخ» كان
لقبي عند تدري�سي لكل تلك العنا�رص الق�سامية املقاتلة .بعد �أن متكنت من تدريب
كافة تلك العنا�رص بد�أت �أنتقي عددا ً منهم لتكليفه مبهمات جهادية خا�صة.
كان االنتقاء يتم ح�سب املهارة التي �أبداها املتدرب �أثناء تدريبه الأول لدي ،فكنت
لتدريب مكثف متخ�ص�ص بحيث يكون هذا التدريب يتنا�سب مع املهام التي ٍ �أخ�ضعه
�سوف يكلف بها .و�سوف �أتطرق لبع�ض �أبرز من قمت بتدريبهم و�إعدادهم ،و�سوف
�أبد�أ من القد�س احلبيبة على قلبي.
ولقد وقع اختياري على جماهد ا�سمه «وائل العبا�سي» وعن�رص �آخر قادرين على
ا�ستعمال ال�سالح و�صناعة العبوات النا�سفة وزراعتها ،ولقد قامت تلك اخللية بعدة
عمليات لزراعة العبوات النا�سفة ب�أنحاء مدينة القد�س ،فلقد كنت �أزود تلك اخللية
بالعبوات النا�سفة لتلك العمليات لأن اخللية مل تكن متلك مكانا ً �أمنا ً مبدينة القد�س
ل�صناعة لتلك العبوات فكنت �أ�صنعها مبدينة رام اهلل وكان وائل العبا�سي ي�أتي
لأخذها من هناك.
ولقد كان ال�شيخ قا�سم هو ال�ضابط امل�س�ؤول عن عمل تلك اخللية؛ فلقد كان
الق�سامي املطارد �صالح التلحمي وبعد عدة ين�سق �أعمالها مع � ٍأخ جماهد ا�سمه القائد ّ
عمليات ناجحة ،قررت مع الأخوة «�أبي علي ال�سلوادي» و«�أبي �أحمد اخلطاب» �أن
نو�سع ن�شاط تلك اخللية املقد�سية خلية «وائل العبا�سي» ،ولقد جاء هذا القرار بعد
عملية جبانة قذرة �أقدمت عليها قوات الربابرة ال�صهاينة.
فلقد قامت تلك القوات بق�صف �سيارة زوجة القيادي بحركة حما�س» ح�سني �أبو
كويك» ،مل يكن ال�شيخ «ح�سني �أبو كويك» يف تلك ال�سيارة �أ�صالً ،فهي �سيارة زوجته
90
التي كانت تقل �أطفاله بعد �أن �أح�رضتهم من املدر�سة بعد انتهاء اليوم الدرا�سي،
فا�ست�شهدت وا�ست�شهد �أبنا�ؤه �أي�ضا ً وا�ست�شهد عد ٌد من التالميذ يف املدر�سة الذين
كانوا باملكان؛ ولذلك كان ال بد من توجيه العقاب للعدو ال�صهيوين عرب عملية
موجعة و�رسيعة.
فكانت القد�س هي الهدف و«وائل العبا�سي» هو من ا�ستطلع و�أعد الرتتيبات
الالزمة لإي�صال اال�ست�شهادي للمكان املنا�سب ،وهو مطعم ومقهى «مومنت».
�أهمية هذا املقهى تكمن �أنه يقع على بعد �أمتار قليلة من بيت رئي�س حكومة العدو
ال�صهيوين �شارون ،والأهم هو رواد هذا املقهى «مومنت» ،فلقد كانت املعلومات
يغ�ص املقهى مبوظفني يف احلكومة ُّ ت�شري �أنه دائما ً -ويف تلك الفرتة من اليوم-
ال�صهيونية ،الذين يق�ضون به �أوقاتهم ليكونوا قريبني من رئي�س حكومة الإرهاب
ال�صهيوين �شارون.
وهنا �أح�رض يل «�سيد ال�شيخ قا�سم» ،اال�ست�شهادي «ف�ؤاد
احلوراين» فقمت بتجهيزه بحزام نا�سف ثم بت�صويره وكتابة
و�صيته وبعد ذلك �إلبا�سه مالب�س تنا�سب املوقع الذي �سوف
يتوجه �إليه ،حدث ذلك خالل �ساعتني ال �أكرث ،عا َد �سيد القا�سم
بعدها ليجده جاهزا ً م�ستعدا ً فا�صطحبه معه ليو�صله لوائل
العبا�سي الذي عمل مع م�ساعديه من الأخوة الق�ساميني على �إي�صال اال�ست�شهادي
�إىل موقع العملية.
قدر اهلل �أن ي�صل اال�ست�شهادي ف�ؤاد احلوراين ب�سالم �إىل القد�س ،قادما ً من مدينة
رام اهلل رغم �أن الوقت كان ليالً ،ورغم وجود عدد كبري من احلواجز الع�سكرية
الثابتة واملتحركة ،وقدر اهلل �أن يقرتب �أكرث في�صل �إىل بعد عدة �أمتار من مقر �شارون
من بيته يف القد�س .وما �إن دخل اال�ست�شهادي ف�ؤاد احلوراين حتى فجر نف�سه خملفا ً
خلفه ع�رشات القتلى واجلرحى ال�صهاينة ومنهم عدد من موظفي حكومة العدو
وحتديدا ً موظفي �شارون ،العاملني يف وزارة اخلارجية.
بعد تلك العملية جن جنون �شارون ،و�صب جام غ�ضبه على ال�ضفة الفل�سطينية
ب�أن قام بت�شديد احل�صار حول املدن دون �أن يقتحمها ،وعلى قطاع غزة من خالل
91
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
زيادة عمليات الق�صف ،ولأنه مل يتمكن من الو�صول ملقاتلي كتائب عز الدين الق�سام،
فلقد ا�ستهدف القادة الق�ساميني ،وهكذا ق�صف �شارون قطاع غزة موجها ً نريان
طائراته نحو املهند�س «�إ�سماعيل �أبو �شنب» ،ذلك املهند�س املدين والقائد ال�سيا�سي،
فا�ست�شهد ،وخرج بعد ا�ست�شهاده �أ�سد فل�سطني «عبد العزيز الرنتي�سي» ليتوعد
باحل�ساب والعقاب.
ولأن الأمور كانت ت�سري بوترية �رسيعة جدا ً فلقد
كلفت خلية «وائل العبا�سي» ب�أن ت�ستطلع مكانا ً �آخر
خارج مدينة القد�س املحتلة ،لكي ال تثري ال�شبهات
حول تلك اخللية .فلقد طلبنا منهم �أن يكون املكان
بني و�سط و�شمال فل�سطني املحتلة ولقد وجدوا
مكانا ً منا�سباً ،والأهم هو �أنهم وجدوا ا�ست�شهاد َّيا ً منا�سبا ً جدا ً لتلك العملية ،ولأن
�أ�سد فل�سطني قال عندما توعد بالرد والعقاب �أن الرد �سوف يكون مزلزالً ،و�أن
بنيان ال�صهاينة �سوف يهدم على ر�ؤو�سهم ،فلقد كانت عملية مزدوجة مركبة
بحيث قمت ب�إعداد حزام نا�سف ال�ست�شهادي لي�ضعه حول ج�سده وقمت ب�صناعة
عبوة نا�سفة �شديدة االنفجار وو�ضعتها بداخل حقيبة و طلبت من اال�ست�شهادي �أن
يزرعها يف �أحد �أركان موقع العملية امل�ستهدف .هذا اال�ست�شهادي قام بدور حا�سم
بتحديد موقع العملية مع وائل العبا�سي ،فلقد كان يعرف دروب اجلبال والوديان،
فلأنه كانت املدن حما�رصة ولأن العدو حا�رص مناطق العبور �إىل �أر�ضنا املحتلة
عام ،1948فلقد ا�ضطررنا ل�سلوك اجلبال للو�صول �إىل الأهداف التي �أردنا تنفيذ
العمليات فيها.
وهكذا فلقد �صنعت حزاما ً نا�سفا ً من نوع خمتلف عن الأحزمة النا�سفة التي
كنت قد �صنعتها فيما �سبق فهذا احلزام كان يربط حول اخل�رص ويثبت �أي�ضا ً حول
الكتف عن طريق حزام جلدي ولأنه �سوف يكون على احلزام �أن يكون قويا ً ثابتا ً
على ج�سد اال�ست�شهادي خالل قطعه مل�سافة طويلة �سريا ً على الأقدام قاطعا ً جباالً
ووديانا ً فلقد كانت املواد امل�صنوعة منها املادة املنا�سبة حتى ال تت�أثر بال�ضغط �أو
احلرارة �أو احلركة الناجتة عن امل�شي .ولقد زودته �أي�ضا ً بعبوة نا�سفة وو�ضعتها
92
بحقيبته ،ولأن ذلك اال�ست�شهادي كان ميلك ج�سدا ً قويا ً وبنية ج�سدية كبرية فلقد
كان رغم �صعوبة قطع اجلبال ،قادرا ً على الو�صول للطريق الآخر ،حيث القاه هناك
وائل العبا�سي ونقله ب�سيارته لنا ٍد للقمار ا�سمه نادي (�شفره) وهناك زرع احلقيبة
النا�سفة ب�إحد �أركان النادي الليلي وفجر نف�سه بوا�سطة احلزام النا�سف بالركن
الآخر من النادي الليلي.
ولأن النادي الليلي كان يقطن ب�أحد الطوابق العليا لبناية جتارية فلقد انهارت
�أجزاء كبرية من تلك البناية التجارية جراء قوة املواد امل�ستعملة يف تلك العملية .هذا
اال�ست�شهادي مل �أذكر ا�سمه لأنه كان �أحد �ألغاز العمل املقاوم ،لغزا ً ق�ساميا ً فلقد
كان هذا اال�ست�شهادي قد قدم من الأردن ولأنه كان على عالقة وطيدة بعدد من
عنا�رص حركة املقاومة الق�سامية ،فلم ن�ش�أ �أن يعرف �أحد با�سمه �إال بعد مرور ما
يزيد عن ثمانية �أعوام على هذه العملية ،ومل نعلن عنه �إال بعد �أن �شاهدت و�أنا �أقبع
داخل زنزانتي ندا ًء موجها ً من والدته يف الأردن تطالب مبعرفة م�صري ولدها .وهنا
�أعلنت كتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام عن ا�سم منفذ تلك العملية اال�ست�شهادية،
العملية التي قتل بها ع�رشات ال�صهاينة و�أ�صيب املئات ،ولقد كان اال�ست�شهادي يعلم
�أنه لن يتم الإعالن عن ا�سمه لتلك الأ�سباب قبل �أن يقرر تنفيذ العملية ،ولأنه يعلم
�أن فل�سطني املقاومة ت�ستحق كل ت�ضيحه ،فلقد �أقدم على ال�شهادة جمتازا ً اجلبال
والوديان حامالً معه وزنا ً كبريا ً من املواد النا�سفة.
ي�شهد اهلل على رغم �أنني مل �أقابل هذا اال�ست�شهادي �إال �أن من قابلوه �أبلغوين
�أنه �أمري اال�ست�شهاديني� .أمري طلب ال�شهادة ب�إحلاح و�أ�رص عليها ولأجلها اجتاز
ال�صعاب وو�صل �إىل هدفه مقداما ً ثابتا ً عازما ً على �أن يلقن العدو در�سا ً باملقاومة:
عذرا ً �أم ال�شهيد عذرا ً �أبا ال�شهيد عذرا ً �أهل ال�شهيد ،على ت�أخر كتائب عز الدين الق�سام
عن الإعالن عن ا�سمه للأ�سباب التي ذكرت ،وعذرا ً لأين مل �أكتب ا�سمه بني �صفحات
هذا الكتاب ،لأين �أكتب من داخل زنزانتي ومل �أمتكن من احل�صول على ا�سمه ب�سبب
�سجني ،ولأين معتقل بزنزانة خا�صة ،ا�سمها زنزانة العزل اخلا�ص ،زنزانة متل�ؤها
كامريات املراقبة ومينع بها زيارات املحامني ،زنزانة �أقرب ما تكون بالقرب ،بل هي
القرب بذاته.
93
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
94
�أنه ما �إن جل�س على الكر�سي حتى بد�أ العميل ب�رسد ق�صته لوحده دون �أن يوجه
له �س�ؤال واحد ،وبعد �إنهاء �رسد ما عنده وجهت له بع�ض الأ�سئلة اخلا�صة حول
موا�ضيع متنوعة.
مما قاله �أنهم �أثناء التدريب مبنطقة �أريحا على يد ذلك املدرب الأمريكي الذي
يتحدث اللغة العربية هو �أن املدرب طلب منه �أن ي�شرتي ل ِك يا ابنتي ال�صغرية بع�ض
احللوى لكي ي�ستدرجك بالكالم عني ،رغم �أن عمركِ مل يكن قد جتاوز العامني بعد؛
�إال �أنهم كانوا يريدون �أن يعلموا �أي �شيء مهما كان �صغرياً ،فلقد علمت �أي�ضا ً من
خالل جهاز الر�صد الق�سامي �أن مكاملة قد جرت بني �أحد قيادات ال�سلطة ..وجورج
تنت مدير املخابرات الأمريكية طلب منه بهذه املكاملة �إلقاء القب�ض علي ،كما حثه
�أي�ضا ً يف تلك املكاملة ب�إلقاء القب�ض على الأمني العام للجبهة ال�شعبية لتحرير فل�سطني
الرفيق �أحمد �سعدات �أبو علي م�صطفى ،فلقد كان الرفيق �أحمد �سعدات مطلوبا ً
ب�شكل كبري جدا ً جداً؛ لأن ال�صهاينة كانوا قد اتهموه بتنفيذ عملية نوعية جدا ً قتل
بها وزير ال�سياحة ال�صهيوين «رحبعام زئيفى».
بعد انتقال زوجتي و�أطفايل ليعي�شوا ب�أحد املنازل الآمنة يف مدينة رام اهلل� ،أ�صبح
من ال�سهل علي زيارتهم هناك ،وهكذا �أ�صبحت زوجتي مطلوبة لقوات االحتالل
من جهة ومطلوبة من قبل قوات �أمن ال�سلطة ،فعممت لها �صورة ،مما جعل تنقلها
�صعب جدا ً حيث �أن قوات االحتالل كانت ت�ضع عددا ً من املجندات على احلواجز
لفح�ص الن�ساء والتدقيق ب�صورهن.
ولذا ،فقد ظلت زوجتي طوال فرتة املطاردة تعي�ش مبدينة رام اهلل ،مل تكف �أجهزة
�أمن ال�سلطة عن البحث عنها �أو عني مما جعل �أقاربي عر�ضة لالعتقال لدى تلك
الأجهزة وعر�ض منازلهم للمداهمة الدائمة والتفتي�ش امل�ستمر ،بتلك احلجة.
95
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
«�صالح �شحادة»
96
جرائم االحتالل وفاقت الو�صف .ففي تلك الفرتة مل يكن قد مر �أ�سبوع واحد بال
جمزرة �أو جرمية ترتكب �ضد �أبناء ال�شعب الفل�سطيني يف خمتلف بقاع فل�سطني.
لذلك قام هذا الذكي الهادئ ،هذا املهند�س عبا�س ال�سيد بت�شكيل عملية ق�سامية
وقام ب�إعداد عبوة نا�سفة ،هي الأ�ضخم والأقوى يف تاريخ كتائب الق�سام يف ال�ضفة
الغربية والقد�س ،و�أر�سل تلك العبوة مع ا�ست�شهادي �إىل �أحد الفنادق ،فانفجرت
العبوة وا�ست�شهد املقاوم ولقد خلفت تلك
العبوة قرابة �ستة وثالثني قتيالً �صهيونيا ً
وعدة مئات من اجلرحى ِق�س ٌم كبري منهم
�أ�صيبوا ب�إعاقات دائمة.
وهنا اتخذ رئي�س حكومة العدو تلك العملية
الذريعة وقام باجتياح كافة املدن الفل�سطينية،
وبعد ذلك االجتياح ق�صفت غزة وا�ست�شهد ال�شيخ �صالح �شحادة رحمة اهلل عليه.
وهنا �أ�صبح الرد على جرمية اغتيال قائد كتائب الق�سام واجباً ،ولكن الطرق كانت
قد �أ�صبحت �أكرث �صعوبة على تنفيذ هذا الرد بل �أ�صبحت �أكرث خطورة من �أي وقت
م�ضى ،فلقد قلت �أنا كنا نعي�ش بداخل �سجن ،و�أنا �أعني ذلك بكل ما حتمل الكلمة
من معنى ،فلقد حولت قوات العدو ال�صهيوين البناية ال�سكنية التي كانت تقع بها
ال�شقة التي ت�سكن بها زوجتي مع �أطفايل �إىل ثكنة ع�سكرية وحولت �سطح املبنى �إىل
مرتع للقنا�صة و�أ�سا�سات املبنى �إىل مرتع للدبابات واملجنزرات ،وحولت كل �شوارع
املدينة �إىل طرقات خالية بعد �أن قامت اجلرافات ال�صهيونية بحفر حفر كبرية تقطع
تكتف بذلك فح�سب؛ بل فر�ضت حظرا ً للتجوال دام �أياما ً طويلة
ِ تلك ال�شوارع ،ومل
و�صلت �إىل خم�سة وع�رشين يوما ً متوا�صال ً ،رفع بعدها حظر التجوال لعدة �ساعات
ثم �أعيد فر�ضه من جديد.
خالل تلك ال�ساعات القليلة متكنت من الو�صول �إىل �إحدى ال�شقق التي مل ي�صل
�إليها العدو ،وكانت حتتوي على كل ما �أحتاجه لإعداد لعملية ،عملية الرد على اغتيال
�صالح �شحادة رحمة اهلل عليه ،ولقد كان معي يف تلك الأثناء مراقبي �سيد احلاج
قا�سم و�أبو �أحمد اخلطيب ولقد �صنعت عبوة نا�سفة وو�ضعتها بحقيبة و�أر�سلتها مع
97
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
�سيد القا�سم لنقطة مت االتفاق عليها م�سبقا ً مع وائل العبا�سي ف�أخذ العبوة و�أو�صلها
للقد�س املحتلة ،وهناك قام مع جمموعة من رجاله املقاومني بق�صد �أ�سوار اجلامعة
العربية بالقد�س وفجروا تلك العبوة عرب هاتف حممول .وبذلك ورغم االجتياح
واحل�صار ،متكنا من الرد وبقوة يف قلب العا�صمة الأبدية لدولة فل�سطني ب�إذن اهلل.
فتحت تلك العملية الأعني على خلية وائل العبا�سي مما جعل عمل تلك اخللية
�صعبا ً .ولكن ،ولأن تلك اخللية كانت متلك عددا ً من العبوات النا�سفة ال�صغرية التي
ال يتجاوز وزن الواحدة منها ن�صف كيلو جرام ،فلقد متكنوا من تنفيذ قرابة �أربع
عمليات ا�ستهدفوا �صواريخ للوقود عرب �إل�صاق تلك العبوات بها وا�ستهدفوا �أي�ضا ً
عددا ً من عربات القطار من خالل زراعة العبوات مبناطق قريبة من العربات.
بعد ذلك ب�أيام معدودة اعتقل �أفراد تلك اخللية الق�سامية التي كانت �أكرب خلية
لكتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام مبدينة القد�س منذ قيام دولة العدو باحتالل تلك
املدينة .وهنا على الفور بد�أت بتن�شيط خلية ق�سامية جديدة كنت قد دربت من �أوكلت
له �أمر قيادة تلك اخللية الق�سامية قبل عدة �أ�شهر وهو املهند�س الق�سامي «حممود
�رشيتح» ابن مدينة الظاهرية التي تقع بجنوب ال�ضفة الغربية بجوار مدينة اخلليل،
فلقد كان املهند�س «حممود �رشيتح» يدر�س الهند�سة بجامعة يحيى عيا�ش :جامعة
بريزيت ولقد كان من �أن�صار الكتلة الإ�سالمية هناك ،فاختاره �أبو علي ال�سلوادي
ليكون مهند�سنا يف جنوب ال�ضفة الغربية ،فقمت ب�إعادة تدريبه من جديد رغم �أن
املدن كانت حمتلة من قبل دبابات العدو وقمت بالإعداد معه لعمليتني ا�ست�شهاديتني
فزودته بقطع ال�سالح الالزمة لت�شكيل خلية م�سلحة تت�صدى لقوات االحتالل
بجنوب ال�ضفة الغربية ،وزودته بحزامني نا�سفني ف�أو�صلهما ملدينة الظاهرية وهناك
�أعد مع اخللية التي قام بت�شكيلها اخلطة الالزمة فنفذ انطالقا ً من اجلنوب عمليتني
ا�ست�شهاديتني فجر خاللهما اال�ست�شهاديني �أحزمتهما النا�سفة ببا�صني اثنني داخل
الأرا�ضي املحتلة عام .1948كانت تلك اخللية خلية املهند�س «حممود �رشيتح» من
�أ�رسع اخلاليا ت�شكيالً ،ومن �أ�رسع اخلاليا اعتقاالً ،فلم تدم تلك اخللية �سوى عدة
�أ�سابيع فقط ال غري ،نفذت خاللها عمليتني ا�ست�شهاديتني وبعد ذلك اعتقل كل �أفراد
تلك اخللية وعلى ر�أ�سهم مهند�سها وقائدها حممود �رشيتح ،وهنا قمت با�ستدعاء
98
مقاوم �آخر ممن قمت بتدريبهم م�سبقا ً لكي �أعيد تدريبه و�إعداده من جديد.
هذا املقاوم الوحيد الذي وجهت له توبيخا ً قا�سيا ً عندما قمت بتدريبه �أول
رص �آخ ُر كان معه مقنّعون ،وكنا نتكلممرة ،فعند بدء التدريب كنت �أنا وهو وعن� ٌ
باللغة الف�صحى ،فقال يل �أنه يف�ضل �أن يتلقى تدريبه على العلوم الع�سكرية على يد
املهند�س «عبد اهلل الربغو ُثي».قبل �أن �أ�س�أله عن ال�سبب قال �أنه يريد �أن يتقن عمله
الع�سكري من «عبد اهلل الربغوثي» لأنه ي�شكل بالن�سبة له امتدادا ً ليحيى عيا�ش،
فوبخته بق�سوة وقلت له لي�س هناك من هو مبرتبة ال�شهيد «يحيى عيا�ش» و�أن هذا
الذي ا�سمه «عبد اهلل الربغوثي» ما هو �إال جمرد مهند�س عادي بل �أقل من عادي ولقد
ق�سوت عليه قليالً �أثناء التدريب .الغريب بهذا املقاوم �أن «�أبا علي ال�سلوادي» عندما
�أح�رضه للتدرب �أول مرة مل ي�رش بهويته �سوى �أنه مقاوم ق�سامي ف�أعطيته ا�سما ً
رمزا ً للتوا�صل معه مثل باقي املقاومني الذين �سبق يل تدريبهم ولكن ات�ضح يل فيما
بعد �أ ّنه �أحد �أبناء عمومتي و�أنه املقاوم الق�سامي «جا�رس الربغوثي» ابن قريتي ،ومل
�أعلم حقيقة هويته �إال بعد اعتقايل بعدة �سنوات عندما التقينا �صدفة ب�أحد ال�سجون،
فتعرفنا �إىل بع�ضنا البع�ض بعد �أن علم هو حقيقة هويتي وعلم �أنه من قام بتدريبه
�آنذاك هو عبد اهلل الربغوثي ابن عمه.
هذه هي كتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام ،ال�صمت وال�رسية والعمل اجلهادي
املتوا�صل ،دون كلل �أو ملل ،لقد ا�ستطاعت خلية املقاوم الق�سامي «جا�رس الربغوثي»
بعد �أن عاودت تدريبه مرة �أخرى وتزويده بعدد من العبوات النا�سفة والأ�سلحة
املختلفة ا�ستطاع �أن ينفذ عددا ً من العمليات املوجعة للعدو ال�صهيوين.
يف تلك الفرتة خ�شيت من �أن يكون م�صري خلية املقاوم «جا�رس الربغوثي»
االعتقال املبكر مثل خلية املهند�س «حممود �رشيتح» ،ولذلك قمت بتن�شيط عد ٍد من
اخلاليا الق�سامية بعدة مدن �أخرى كان �أهمها على الإطالق مدينة اخلليل ،خليل
الرحمن ،لأن مدينة اخلليل كانت متلك الآالف من املقاومني الق�سامني وكانت بحاجة
للمهند�سني والقادة فمن اهلل على خليل الرحمن بالقائد احلاج عبد اهلل القوا�سمي
و�أبناء �أحد �إخوانه فتجلت مدينة خليل الرحمن و�أخرجت �أجمل و�أحلى العمليات
الق�سامية يف تلك الفرتة املحرجة ،فرتة االجتياحات.
99
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
وهنا يجب �أن �أو�ضح نقطة مهمة هي �أين مل �أكن �أعلم �أي ا�سم من �أ�سماء املقاومني
الذين عملت معهم طوال تلك الفرتة املمتدة ما بني عامي 2000وعام 2003و�أن
الأ�سماء التي �أذكرها الآن قد عرفتها بعد �سنوات من اعتقايل فهي لي�ست �أ�صحاب
تلك الأ�سماء ،فهم �إما معتقلون مثل «حممود �رشيتح» و«وائل القا�سم» و«جا�رس
الربغوثي» و«�أحالم التميمي» وغريهم و�إما �أ�صبحوا �شهداء عند ربهم يرزقون.
فلقد تركت مو�ضوع الأ�سماء خطا ً �أحمر منعت �أحدا ً من االقرتاب منه ،ولذلك
�أقول �أن ال�شهيد �سيد ال�شيخ قا�سم رغم �أنه رافقني على مدى تلك الأعوام هو و�أبو
�أحمد اخلطيب �إال �أين رف�ضت �أن �أعرف �أ�سماءهم �أبدا ً �أبداً.
وكنت �أحر�ص دائما ً على �أن تكون اخلاليا التي �أكونها متقنة من ناحية القيادة
والإدارة ،حتى ال ي�ؤدي اعتقال �أحد تلك اخلاليا �إىل �إحداث �رضر كبري بكتائب الق�سام.
االجتياح
يف �إحدى االجتياحات ال�صهيونية للمدن الفل�سطينية مت اجتياح مدينة رام اهلل
والبرية ومتت حما�رصة مقر جهاز الأمن الوقائي بالدبابات .مل يكن هذا احل�صار
�سوى لعبة �أقدم عليها �أحد �أخطر العمالء بتاريخ ال�شعب الفل�سطيني وهو «حممد
دحالن» بالتن�سيق مع قوات االحتالل ال�صهيوين وجهاز ال�شاباك من �أجل هدفني:
�أولهما �أن يق�ضي على مناف�سة القوي �آنذاك يف ال�ضفة الغربية :جربيل الرجوب،
و�أن يزيحه من طريقه لي�ستويل حممد دحالن على الأجهزة الأمنية بال�ضفة الغربية
وي�سيطر عليها كما �سيطر على تلك الأجهزة يف قطاع غزة.
فلقد كان عرفات بتلك املرحلة حما�رصا ً و�ضعيفا ً ف�أراد دحالن �أن يكون رجل
جورج تنت ورجل �شارون يف ال�ضفة الغربية واعدا ً �إ ّياهما بعد ت�سلّم ِه و�سيطرته
على الأجهزة الأمنية ب�أن يق�ضي على املقاومة امل�سلحة ب�شكل تام وكامل.
هذا ال�سبب رغم خطورته مل يكن يعنيني كثريا ً فكلهم �سواء ،جربيل الرجوب� ،أو
حممد دحالن كالب لالحتالل ،ال �أكرث وال �أقل� ،أما ال�سبب الذي كان يعنيني هو �أنه
يوجد بداخل ذلك املقر الع�رشات من مقاتلي الق�سام واجلبهة ال�شعبية ومنهم بالل
الربغوثي ابن عمي ورفيق دربي مبقاومة االحتالل.
100
ولذلك خ�ضت عدة معارك وكمائن من �أجل فك احل�صار دون جدوى ودون �أي فائدة.
فلقد كانت القوات ال�صهيونية �أقوى منا بكثري من ناحية العتاد وال�سالح ،وبخا�صة
�سالح اجلو فلقد كانت طائرات الأبات�شي تق�صف دون توقف �أي هدف ت�شتبه به.
اعتقل «بالل الربغوثي» واعتقل الع�رشات من املقاومني بذلك اليوم بعد �أن تكاتف
العمالء مع العدو ال�صهيوين �ضد املقاومة .حزنت بل لقد بكيت لأين �شعرت ب�ضعف
�أمام �آلة الدمار ال�صهيوين وخا�صة عندما كنت على بعد �أمتار �أ�شاهد �أخوتي وهو
يعرون من املالب�س ويقادون �إىل جمنزرات العدو لينقلوا �إىل املعتقالت ال�صهيونية.
مل �أ�شعر بلحظة �ضعف مثل تلك املرة طوال حياتي ،حياتي التي ر�أيت خاللها كل ما
ميكن ر�ؤيته ،وكل ما ميكن �أن ي�ؤثر على �أق�سى الرجال �إال �أين مل �أت�أثر �أبداً� ،إال يف ذلك
اليوم وتلك الليلة التي كانت من �أطول الليايل يف حياتي على الإطالق.
ما �إن بزغ الفجر حتى عدت �إىل زوجتي وابني �أ�سامة وابنتي لكي �أودعهم متوجها ً
بعد ذلك هلل ع َّز وج َّل لعلي �ألقاه �شهيداً .ودعتهم وتوجهت �أنا و�سيد القا�سم و�أبو
�أحمد اخلطيب �إىل منطقة و�سط رام اهلل ،وهناك يف منطقة �سوق اخل�ضار وبجوار
م�سجد جمال عبد النا�رص ،خ�ضنا ا�شتباكا ً م�سلحا ً دام قرابة الع�رشين يوما ً فجرنا ً
خالله الع�رشات من العبوات النا�سفة و�أطلقنا املئات من الر�صا�صات ومل ننهي تلك
املعركة �إال عندما تلقيت قذيفة �أطلقت من �إحدى الدبابات ف�أ�صابت القذيفة املكان
الذي �أهاجم العدو منه ،ف�أ�صبت �إ�صابة �شديدة كدت �أفقد خاللها يدي اليمنى فنقلني
�أخوتي �سيد و�أبو �أحمد �إىل �أحد املحالت التجارية وهناك عوجلت ولقد تركت تلك
علي من عدة نواح ٍ :الناحية اجل�سدية فلقد �أ�صابت ذراعي بالك�رس القذيفة �أثرها َّ
من عدة �أماكن وكاد كف يدي �أن يبرت ،وكدت �أفقد �أ�صبعي بل �أهم �أ�صابع يدي
وهو �أ�صبع ال�سبابة الذي كنت �أطلق من خالله زخات الر�صا�ص فلقد �أ�صيب ذلك
الأ�صبع ومت خياطته مبا ال يقل عن ثماين قطب يق�صد غرز ،مما جعلني غري قادر
على خو�ض املعارك امل�سلحة لعدة �شهور بعد تلك الإ�صابة ،وهنا يجب �أالّ �أن�سى �أن
�أخي «�أبا علي ال�سلوادي» عندما علم بعد ذلك جن جنونه ،ولكن �أحمد اهلل �أنه علم بعد
�أن متاثلت جراحي لل�شفاء� .أما من الناحية النف�سية فلقد جعلتني �أقرب �إىل اهلل ع َّز
وج َّل من �أي وقت �آخر.
101
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
قلب �أمي
يف �إحدى مراحل مطاردتي تعر�ض قلب والدتي للجلطة مما جعلها تدخل
امل�ست�شفى لعمل عملية جراحية حيث كانت تقيم هي ووالدي بالعا�صمة الأردنية يف
عمان ،وعندما و�صلني اخلرب كان لزاما ً علي �أن �أطم�أن عليها بنف�سي رغم �أن هناك
من كان يزورها ويطم�أنني عليها� ،إال �أين وخلطورة و�ضعها قررت �أن �أطمئن عليها
ب�شكل مبا�رش و�أن �أطمئنها علي لكي �أرفع من معنوياتها ،و�أ�شد من عزميتها فلقد
كان قد م�ضى على مطاردتي عدة �أعوام مل �أمتكن من احلديث الهاتفي معها �أو مع
والدي ب�شكل نهائي.
ويجدر القول هنا �أين طوال فرتة مطاردتي مل �أ�ستعمل الهانف اجلوال �أبدا ً
وحتت �أي ظرف من الظروف بل كنت �أ�سافر من مدينة ملدينة لكي �أنهي �أمرا ً ال
يتجاوز احلديث عنه �سوى ب�ضع دقائق ،فلقد كنت �أعلم مدى خطورة ا�ستعمال تلك
الهواتف النقالة ،ومدى قدرة العدو على تعقب املكاملات ،وحتديد موقع املت�صل.
ولأن العدو ميلك عددا ً من طائرات اال�ستطالع املزودة ب�صواريخ موجهة حتلق
على مدار ال�ساعة ب�أجواء خمتلف املدن الفل�سطينية ،فلقد كان احلديث عرب الهاتف
اجلوال �رضبا ً من �رضوب اجلنون .اجلنون والتحدي هو ع�شقي وهوايتي ،ولذلك
رفعت الهاتف اجلوال وحتدثت مع والدتي لعدة دقائق وما �إن انقطع الإر�سال حتى
�أم�سكت الهاتف الأر�ضي وعاودت االت�صال ثاني ًة بعد �أن اطم�أنّ �أحدنا على الآخر،
وبعد �أن �أ�صبحت معنويات والدتي عالية تعانق ال�سماء فلقد مازحتها كثريا ً حتى
قيل يل �إن عينيها اللتني كانتا تبكيان على فراقي وتبكيان حزنا ً علي� ،أ�صبحت تبكي
من �شدة ال�ضحك على النكت التي كنت �أقولها لها .بتلك الب�ساطة ات�صلت وبتلك
الب�ساطة كانت خطوط االت�صال تقطع الواحد تلو الآخر� ،أما �سبب تلك االنقطاعات
فلقد كانت �سقوط القذائف الواحدة تلو الأخرى� ،أين وكيف؟
عندما ات�صلت �أول مرة من هاتف نقال وبعد عدة دقائق قد تكون جتاوزت
اخلم�س ع�رشة دقيقة �أو �أقل ،قامت قوات االحتالل وعرب طائرة اال�ستطالع بق�صف
�سيارة متوقفة ب�أحد �شوارع مدينة نابل�س ،بعدة �صواريخ موجهة من تلك الطائرة،
فلقد قمت برتكيب �شبكة من �أجهزة مقاومة التعقب و�أجهزة بتوجيه التعقب نحو
102
مكان �آخر وركبت تلك الأجهزة على بع�ض �أبراج الإر�سال وركب �إحداها على �إحدى
ال�سيارات التي قمت ب�رشائها وجتهيزيها لهذا الهدف ،وهو ت�ضليل �أجهزة العدو
اال�ستخبارية وااللكرتونية ،فق�صف العدو ال�سيارة ظنا ً منه �أين موجود و�أجري تلك
املكاملة منها ف�أ�صبحت ال�سيارة كومة من ال�صفيح املحرتق.
�أما �أنا فتناولت تفاحة من �صحن للفاكهة كان مو�ضوعا ً �أمامي وو�ضعتها بعد �أن
قطع �إر�سال اجلهاز النقال وات�صلت من جهاز ات�صال �أر�ضي هذه املرة وبد�أت ب�أكل
التفاح الواحدة تلو الأخرى .وباحلديث مع والدتي و�إلقاء عليها النكتة تلو الأخرى
حتى �أين �أقول �أنها رغم عدم �سماعها ل�صوتي منذ مدة طويلة �إال �أنها ملت من تلك
النكت فكنت �أودعها مرارا ً دون �أن يغلق �أحدنا ال�سماعة حتى قام االحتالل ب�إغالقها
هذه املرة �أي�ضا ً بوا�سطة قذائفه؛ فلقد داهمت قوات االحتالل ال�صهيوين �إحدى
املباين ال�سكنية التي كانت قيد الإن�شاء مبراحلها النهائية ،و�أمطرت تلك البناية بواب ٍل
من القذائف طالبتني بت�سليم نف�سي.
وعندما مل �أ�ستجب لها قامت باقتحام تلك البناية ،ولقد �سبق جنودها املقتحمني
كالب حتمل كامريات مراقبة تنقل لهم ال�صورة ،وتنقل يل �أي�ضا ً نف�س تلك ال�صورة ٌ
فلقد كنت مبرحلة �سابقة قد فككت ال�شفرة امل�ستعلمة ب�إر�سال ال�صور عرب تلك
الكامريات ،ف�أ�صبحت �أرى ما يرونه وعندها قمت بتفجري عبوة نا�سفة �أدت لقتل
�أحد الكالب و�إ�صابة �أحد اجلنود.
�أما �أنا فرغم عمليات البحث والتفتي�ش التي ا�ستمرت ل�ساعات عديدة فلم يجدوين
لأين يف تلك الأثناء كنت م�شغوالً ب�أكل الربتقال بعد �أن مل يعد لدي تفاح ،مل �أكن
مبدينة نابل�س حيث فجروا ال�سيارة ومل �أكن مبدينة رام اهلل حيث دمروا تلك البناية،
باملنا�سبة تلك البناية تعود لأحد عمالء �إ�رسائيل الذين كانوا يتاجرون بالأرا�ضي
الفل�سطينية ويبيعونها لل�صهاينة ولذلك فلم �أهتم بدمار تلك البناية بل كنت م�رسورا ً
جدا ً ملا حل بها.
كنت هناك جال�سا ً على �إحدى ال�رشفات املطلة على امل�سجد الأق�صى يف القد�س، ُ
كنت هناك بقلب املدينة املقد�سة وهنا حمدت اهلل على جناتي وعلى تلك ال�صفعة
التقنية التي وجهتها لذلك العدو.
103
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
لقد كلفت تلك ال�صفعة التقنية عدة ع�رشات الآالف من الدوالرات ،و ِعدة �أيام من
العمل املتوا�صل من قبل رجال كتائب الق�سام� :أعز اهلل بهم الإ�سالم و�أعز اهلل بهم
فل�سطني� :أم الرجال و�صانعة الرجال.
�آه من قلب �أمي و�ألف �آه ،دعوات ِك يل يا �أغلى خملوقة بالوجود يا �أمي احلبيبة،
دعوات ِك دعواتكِ.
«�صفعتها فهل ينق�ض و�ضوئي»
لقد حدث �أين قمت ب�صفع امر�أة لي�ست من حمارمي كفا ً على خدها فهل ينق�ض
و�ضوئي جراء تلك ال�صفعة؟
ال�صحيح �أن الإجابة على هذه الأ�سئلة الدينية مل تكن هي ما ي�شغل بايل لأين
ال �أذكر �أ�صالً �أين كنت على و�ضوء عندما �صفعتها �أم مل �أكن على و�ضوء فبعد �أن
�صفعتها تو�ض�أت و�صليت.
�إن الذي كان يهمني هو �سبب تلك ال�صفعة� ،صفعة قوية بل �إنها م�ؤملة جدا ً تلك
التي نالتها املر�أة مني ،تعود جذور تلك احلادثة عندما �أو�صل يل جهاز الر�صد
الق�سامي عدة طلبات من امر�أة تطالب لقائي لأمر هام .ولقد كانت تلح كثريا ً على هذا
الطلب ولأن الناحية الأمنية كانت ال ت�شكل خطرا ً علي فلقد وافقت على لقائها بعد
�أ�شهر من تكرار الطلبات.
قالت :ال�سالم عليكم.
قلت :وعليكم ال�سالم ورحمة اهلل وبركاته ،خري يا �أختي؟
قالت� :أريد �أن �أكون �شهيدة يف �سبيل اهلل.
قلت :هناك مئات من اال�ست�شهاديني الرجال ينتظرون دورهم للم�شاركة بذلك
النوع من العمليات.
قالت� :أمل تعمل �أحالم التميمي معك؟
قلت :نعم عملت ،ولكني مل �أكن �أعلم �أ�صالً �أنها فتاة �إال بعد �أن اعتقلت.
قالت� :أريد �أن �أكون �شهيد ًة.
قلت :ملاذا؟ وقبل �أن جتيب �أ�رشت لها ب�أن ت�ضع يدها على امل�صحف ال�رشيف.
قالت :بعد �صمت طال على �أنها متزوجة منذ �أعوام طويلة و�أنها مل تكن تنجب
104
و�أنها ما �إن حتمل حتى ميوت اجلنني بداخلها ،و�أن �أهل زوجها قد �أثقلوا عليها
وحولوا حياتها جلحيم و�أنه رغم حب زوجها لها �إال �أنه نف�سه مل يعد يقوى على
ال�صمود بوجه �أهله ولذلك �أريد �أن �أفارق احلياة لأرتاح من همومها.
ما �إن رفعت يدها عن امل�صحف حتى كانت يدي حتط على وجهها ك�أنها مطرقة،
ف�سقطت على الأر�ض باكية وبكت معها �إحدى الأخوات التي كانت موجودة هناك
مع زوجها املقاتل الق�سامي.
قلت لها :اذهبي �إىل بيت ِك وكوين واثقة ب�أن اهلل �سوف يرزق ِك بثالثة �أوالد وثالث
بنات ،اذهبي وتوكلي على اهلل فم�شكلتك حلها ب�سيط عودي �إىل بيت ِك تو�ضئي و�صلي
وادعي اهلل ،اهلل جميب الدعاء ،اهلل الذي يجب �أن ال تقنطي من رحمت ِه �أبداً.
تركتها ف�أو�صلها املقاوم الق�سامي مع زوجته �إىل منزلها .بالطريق كفت عن البكاء
و�س�ألت زوجة املقاوم ،هل قال عبد اهلل الربغوثي ثالث �أوالد وثالث بنات؟ فردت
عليها :نعم ،قال ثالثة وثالثة.
عاد املقاوم الق�سامي بعد �أن �أو�صل املر�أة ،عاد �إيل فوجدين �صامتا ً ورغم �أنه
�أم�ضى طوال اليوم معي فلم ي�سمع �صوتي �إال و�أنا �أقر�أ القر�آن يف ال�صالة.
كان هناك �س�ؤال يحريين �إن فجرت تلك املر�أة نف�سها هل تكون �شهيدة �أم قاتلة،
ل�ست
ُ �شهيدة �أم قاتلة؟ ف�أنا ل�ست بعامل دين وال �أ�ستاذ بعلوم الفقه الإ�سالمي.
مفتيا ً وحتى �أين ل�ست �شيخا ً من �أولئك الذين مي�ضون وقتهم بامل�ساجد ودور العلم
وبح�ضور جل�سات درو�س الدين� ،أنا «عبد اهلل الربغوثي» م�سلم ال �أكرث وال �أقل،
�أ�صلي نعم �أ�صلي و�أ�صوم ،و�ألتزم ال�سنة النبوية قدر الإمكان ،نعم قدر الإمكان.
�أنا جمرد مهند�س ق�سامي ،مهند�س فقط ال غري ،مهند�س ق�سامي ال يكذب �أي�ضا ً
يا اهلل لقد قلت لها �أن اهلل �سوف يرزقها بثالثة �أوالد وثالث بنات .يا اهلل نحن الآن يف
�شهر رم�ضان املبارك ،ولقد وعدت و�أق�سمت� ،أعنّي يا اهلل �أعنّي يا اهلل.
ما هي �إال �أيا ٌم معدودة حتى كنت �أجهز �أحد اال�ست�شهاديني و�أظنه �أنه كان �أمين
بحر فقال يل :يا �شيخ �أو�صني .قل يل ماذا تريد �أن �أقول لنبينا حممد �صلى اهلل عليه
وادع يل اهلل
ُ و�سلم �إذا ما ا�ست�شهدت و�صعدت روحي للجنة .فقلت له� :سلم يل عليه
�أن يي�سرّ يل �أمري ،قال :هل تريد منى �أن �أت�شفع لك عند اهلل ف�أنا ا�ست�شهادي .وهنا
105
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
تذكرت ال�صفعة ،تذكرت املر�أة فقلت له :ال ت�شفع يل ف�سوف ي�شفع يل �أخوك نبيل
حلبية �أ َّما �أنت ف�أريد منك �أن ترجو اهلل ع َّز وج َّل �أن يبعد الغم والهم عن �أختي فالنة
بنت فالن و�أن يرزقها بثالثة �أوالد وثالث بنات ،فلقد وعدتها بذلك ،وق�ص�صت
الق�صة على كل من نبيل حلبية و�أ�سامة بحر.
ما �إن اجنلى �شهر رم�ضان املبارك وحل العيد ال�صغري ،وما �إن جاء العيد الكبري
بعد نحو �شهرين ،حتى و�صلني خرب حمل تلك الأخت وما هي �إال �أ�شهر معدودة
حتى كانت قد �أجنبت ولدا ً جميالً اتبعته بعد نحو ع�رشة �أ�شهر بولد �آخر �أجمل من
ال�سابق ثم ولدا ً ثالثاً ،ا�سمته عبد اهلل.
تلك الأ�سئلة الفقهية كانت دائما ً تزعجني ولكن احلمد هلل �أنه كان حويل من الأخوة
من هم �أكرث مني علما ً ومعرف ًة ب�أمور الدين� ،أعلم �أنه من يقتل يف �سبيل اهلل وهلل وحده
ف�إن م�صريه اجلنة واملغفرة ،و�أن من قتل حلاجة من حاجات الدنيا الزائلة ف�إن
م�صريه العذاب الأليم ونار جهنم� ،أعلم ذلك ،ولكني �أعلم �أين ل�ست بعامل دين ف�أنا
جمرد مهند�س على الطريق.
106
�صمت وطال �صمته فقمت بالإطاحة به �أر�ضا ً وقمت بتكبيله وفك احلزام النا�سف
عن ج�سده وطلبت من �أخوتي املرافقني يل �سيد احلاج قا�سم و�أبي �أحمد اخلطيب �أن
ينقلوه للأخوة يف وحدة �أمن الق�سام.
مل ي�س�ألني الأخوة عن �سبب ما فعلته ،فلم تكن تلك عاد ًة لهم فهم ق�ساميون
�صامتون وهو يعلمون �أن الأمر خطري بل �أ�شد من اخلطري ،فلذلك �سارعوا ب�إي�صاله
مكبالً مغطى العينني والفم �إىل الأخوة بوحدة الأمن الق�سامي يف ال�ضفة الغربية
والقد�س ال�رشيف ،ما �إن عادا �إيل م�رسعني حتى �أعطيتهما عنوان نقطة معينة،فذهبا
�إليها و�أح�رضا �أخا ً ا�ست�شهاديا ً كان ينتظر يف تلك النقطة ،فقمت ب�إعداده وجتهيزه
وذهب بعد ذلك �إىل حال �سبيله� ،إىل لقاء ربه بعد �أن و�صل ونفذ عمليته اال�ست�شهادية.
بعد ذلك ان�شغلت عدة �أيام ملتابعة �أعمالٍ جهادية مبدينة �أخرى فما �إن عدت للمدينة
التي كانت �ساحة تلك احلادثة حتى ذكرين الأخوة بذلك ال�شاب ،فذهبت لر�ؤيته
فوجدت �شابا ً قد �أنهك من التحقيق ب�شكل كامل.
فقلت ل�سيد ال�شيخ قا�سم �أنا مل �أطلب التحقيق معه �أنا طلبت �أن يو�ضع هناك لدى
�أمن الق�سام فقط ال غري .وهنا �أقول �أن التحقيق معه كان قا�سيا ً جدا ً �أو�صله ل�شفري
�شاب ومل �أجد تف�سريا ً ملا
ٍ املوت بكل ما حتمله الكلمة من معنى .فلقد وجدت �شبه
حدث �سوى �سوء تن�سيق كنت �أنا امل�س�ؤول عنه ،ولي�س �سيد ال�شيخ قا�سم �أو الأخوة
ب�أمن الق�سام؛ فلقد ظنوا �أن هناك داعيا ً �أمنيا ً ملا حدث وخا�صة بعد �أن �شاهد �سيد
أطحت بهُ ال�شيخ و�أبو �أحمد كيف قمت �أنا بالت�رصف مع ذلك ال�شاب عندما قمت و�
�أر�ضا ً وكبلته ،ونزعت من عليه احلزام النا�سف .طلبت منهم �أن يهتموا به ،و�أن
يعيدوا له �صحته التي كان قد فقد منها الكثري.
عدت �إليه بعد يوم واحد ،و�س�ألته ملاذا تريد تفجري نف�سك؟ قال� :أنا ل�ست عميالً
�أق�سم باهلل العظيم.
قلت� :أعلم ذلك علم اليقني ولكن ما ال �أعلمه هو �سبب �إقدامك على �أن تكون
ا�ست�شهادياً ،قل يل واذهب بحالك.
قال� :أنا والدي كان عميالً باالنتفا�ضة الأوىل ،قلت� :أعلم ولكن والدك قد تاب وحج
بيت اهلل وقد تويف �إىل رحمة اهلل منذ �أعوام .قال :رغم ذلك ف�إن �سمعته ال�سيئة ما زالت
107
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
متت خطبتها تالحقنا ،قلت :كيف؟ قال :لقد انهت �أختي الدرا�سة اجلامعية ،ولقد َّ
لأحد زمالئها يف اجلامعة ولكن قبل موعد الزواج ف�سخ ذلك ال�شاب خطبته وف�سخ
عقد الزواج و�سافر خارج فل�سطني �إىل الأردن .ولأين �أكرب �أخوتي قررت اللحاق به
و�س�ؤاله عن �سبب ما قام به ،فقال يل �أنه قام مبا فعله لأن �أهل القرية كانوا يلومونه
على خطبته من ابنة والدي ،والدي الذي كان -رغم توبته وحجه وموته -ما يزال
عميالً بنظر �أهل القرية ،ولذلك �أريد �أن ان ِّفذ عملية ا�ست�شهادية حتى يقال �أن عائلتي
هي عائلة ال�شهيد ،اال�ست�شهادي املقاوم البطل ،اعلم يا �أخي �أن والدي قد �أجنب �ست
بنات من �أمي وابنتني من زوجته الأخرى ،فكيف �أ�ستطيع �صيانة عر�ضي و�صيانة
عر�ض �أخواتي �إن مل �أقم مبا �أردت القيام به!
قلت� :أال تعلم �أن اهلل ع َّز وج َّل ي�س�أل كل من يقتل عن �سبب قتله ،و�أن اهلل يعترب من
قتل ليقال عنه �أنه بطل ،فهو قتيل ال �شهيد ،و�أن م�صريه جهنم وبئ�س امل�صري.
قال� :أعلم واهلل �أين �أعلم ،ولكن اهلل غفور رحيم .اعتذرت منه عما حلق به من
جراء التحقيق معه ،واعتذرت منه لعدم موافقتي على �أن يكون ا�ست�شهادياً .ودعته،
و�أو�صله الأخوة اىل حيث كان يريد� :إىل قريته.
م�ضت عدة �أيا ٍم مل تطل عن �أ�سبوع قام خاللها ذلك ال�شاب ب�رشاء م�سد�س وانطلق
لإحدى املدن ال�صهيونية بعد �أن ترك و�صية يقول بها �أنه يق�صد وجه اهلل بعمله هذا،
ف�أطلق النار و�أ�صاب عددا ً من ال�صهاينة وقتل ،قتل �أم ا�ست�شهد ال �أعلم ولن �أعلم �أبدا ً
فال يعلم ما يف القلوب �سوى رب القلوب.
�أما �أنا فمجرد مهند�س ال �أكرث وال �أقل .عندما كنت �أنظر �إليه �أثناء ت�سجيل
�رشيط الفيديو عندما كان يقر�أ و�صيته التي كتبها هو بنف�سه ،ف�إنه مل يذكر عددا ً
من الكلمات التي كنت �أ�سمعها ممن �سبقوه ليكونوا ا�ست�شهاديني ،فهو مل يقل
بكلمة ب�إذن اهلل ،وال كلمة بعون اهلل ،وال حتى كلمة �إن �شاء اهلل ،مل يقل ب�سم اهلل
وعليه �أتوكل� ،أو �أنا ال�شهيد احلي ب�إذن اهلل فالن ،قال �أنا فالن ابن فالن ابن فالن،
�أما وجهه فلم �أ َر به نورا ً �أو هال ًة بل ر�أيت غ�ضبا ً وحزناً .حزنا ً ؟! كيف يحزن وهو
ذاهب عند رب العباد؟ غ�ضبا ً ؟! وكيف يغ�ضب وهو من طلب �أن ينفذ تلك العملية
و�أ�رص على تنفيذها.
108
الآخرون اال�ست�شهاديون كانوا كلهم �سعداء فرحني متعجلني للقاء اهلل ،بل
�إين �أق�سم باهلل العظيم �أنا بداخل زنزانة العزل االنفرادي اخلا�ص �أن بع�ض �أولئك
اال�ست�شهاديني كان هو من ي�شد احلزام النا�سف حول نف�سه،وكان يطالب بكمية
�أكرب من املواد النا�سفة ،بل �إن كثريا ً من اال�ست�شهاديني قال -واهلل ي�شهد على ذلك -
عدد من �سوف يقتلهم ،وي�صيبهم ،ولقد �صدقوا كلهم دون ا�ستثناء.
�أحمد اهلل على �أين مل �أر�سله و�أحمد اهلل على �أنه مل ميت �أثناء التحقيق معه عند
الأخوة ،قلت �أنا جمرد مهند�س ال �أكرث وال �أقل ،ف�أعني يا اهلل على �أن ال �أخط�أ وال �أزل.
109
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
�أظن �أن ِك يا ابنتي اجلميلة ويا مالكي احلار�س ،قد الحظتِ مدى
كرهي و�سخطي على من ي�سمون �أجهزة الأمن الفل�سطينية،
مثل جهاز الأمن الوقائي وجهاز املخابرات العامة ،هذا
ال�سخط والكره مرده عدة �أ�سباب:
�أوله ذلك الف�ساد املايل والنهب الذي مار�سه قادة تلك
الأجهزة الأمنية والذين كانوا جمرد �أنا�س عاديني ،و�أقل من عاديني ف�أ�صبحوا بعد
توليهم لقيادة تلك الأجهزة �أ�صحاب �أموال وعقارات يف كل مكان :من دبي مرورا ً
بعمان و�صوالً �إىل ما وراء البحار ،وب�سبب ف�سادهم املايل �أ�صبحوا �ألعوب ًة بيد من
يدفع لهم �أكرث �سواء من كان يدفع من ال�صهاينة �أم من الأمريكان �أم الربيطانيني
�أ�صحاب وعد بلفور امل�ش�ؤوم.
عندما �شكلت جهاز الر�صد الق�سامي بال�ضفة ملعرفة ما يدور يف تلك الأجهزة بعد
اعتقايل لدى �إحداها مبطلع االنتفا�ضة ،فلقد علمت من خالل ذلك اجلهاز الق�سامي
الرا�صد العجب العجاب من �أولئك القادة وحمافظي املدن مثل حمافظ مدينة رام اهلل
من كانوا يديرون بيوتا ً للدعارة ،ويديرون ع�صابة لالجتار باملخدرات وال�سيارات
امل�رسوقة ،بل �إن قادة تلك الأجهزة الأمنية كانوا يبتزون العمالء الذين كانوا يعملون
يف جهاز ال�شاباك ال�صهيوين ،ويجربونهم على دفع مبال َغ مالية جراء التغا�ضي ع َّما
كانوا يفعلونه �ضد �أبناء فل�سطني من جت�س�س عليهم و�أعمال �ضدهم ،بل �إن هناك
من قادة الأجهزة الأمنية الفا�سدة من كان يقوم ب�إ�سقاط بع�ض ال�شبان الفل�سطينيني
الوطنيني عن طريق بنات الهوى ،ه�ؤالء البنات اللواتي كن يعملن �ضمن �إطار هذه
الأجهزة الأمنية ،ومل يكن عملهن �سوى ا�ستدراج ال�شبان للوقوع بالرذيلة ثم
ابتزازهم و�إ�سقاطهم يف �شباك العمالة ل�صالح تلك الأجهزة ول�صالح ال�صهاينة فيما
110
بعد� .أما �أكرث ما كان ي�ؤمل فيما اكت�شفناه عن تلك الأجهزة القذرة هو ا�ستعمالهم
لأ�شد و�أق�سى �أ�ساليب التعذيب �ضد �أبناء املقاومة ،و�أقاربهم .ورغم �أين قد �أُ�رست
و�أ�صبحت يف داخل زنزانتي بعيدا ً عن �ساحات و�شوارع ال�ضفة والقد�س� ،إال �أن
املعلومات وبحمد اهلل ما زالت ت�صل يل كلما �أمكن ،من رجال الظل الق�سامي.
لقد و�صلني يا ابنتي احلبيبة كيف قامت تلك الأجهزة الأمنية احلقرية بتعذيب
ع ٍم لك وهو جمد الربغوثي بداخل جهاز املخابرات العامة تعذيبا ً جنونيا ً حيوانيا ً ال
�إن�سانياً ،ا�ستمر ذلك التعذيب لأيام و�أ�سابيع طويلة.
كنت �أنا يف داخل زنزانتي �أغلي قلقا ً عما كان يجري ملجد الربغوثي هناك بزنازين
حتقيق املخابرات ،تلك الزنازين التي كانت يف داخل مقر جهاز املخابرات العامة
الذي ال يبعد �سوى �أمتار قليلة جدا ً عن مقر ذلك احلقري العبثي حممود عبا�س.
كان التحقيق يجري ب�إيعاز منه �شخ�صيا ً من �أجل الق�ضاء على ما تبقى من رجال
حركة املقاومة الإ�سالمية حما�س يف ال�ضفة الغربية والقد�س املحتلة ،ولي�س بعيدا ً
عن تلك الزنازين كان خال ِك جمد الربغوثي يتعر�ض لأ�شد �صنوف العذاب على يد
جهاز الأمن الوقائي مبدينة رام اهلل وكان حوله الكثري من �أبناء عائلتي و�أبناء حركة
املقاومة الإ�سالمية حما�س ممن يعذبون ،لي�س ل�سبب� ،سوى �أنهم مقاومون� ،أو
منا�رصون لنهج املقاومة.
مرت الأ�سابيع ،ف�صعدت روح عم ِك ال�شهيد جمد الربغوثي ابن قرية كوبر ،جمد
الربغوثي امل�ؤذن مب�سجد تلك القرية الربغوثية املقاومة ،ا�ست�شهد تاركا ً عددا ً من
�أطفاله بال �أب ،وتاركا ً القرية وم�سجدها بال م�ؤذن.
حزنت القرية وت�أمل وبكى �أطفاله على فراقه وبكى الرجال ،الرجال عندما
�شاهدوا جثمانه الطاهر قد امتلأ بعالمات التعذيب بال�سياط ،وعذاب الكهرباء
�صعقاً ،فا�ست�شهد .بعد �أ�شهر طويلة على ا�ست�شهاد ال�شهيد جمد الربغوثي� ،أطلق
�رساح خالك عبد اهلل الربغوثي من زنزانة التحقيق عند جهاز الأمن الوقائي� ،أطلق
�رساحه بعد �أن �شارف على املوت �شهيدا ً حتت �سياط التعذيب ،لكن اهلل قدر له النجاة،
وقدر اخلزي والعار لرجال �سلطة الف�ساد والإف�ساد �سلطة ذلك العبثي ول�صو�صه
حممد دحالن وجربيل الرجوب وتوفيق الطرياوي.
111
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
وهنا يا ابنتي اجلميلة ويا مالكي احلار�س ا�سمحي يل �أن �أذكر بع�ض الأبيات
والكلمات املت�شابكة لعلي �أنف�س قليالً ما بداخل �صدري من �أمل وحرقة على ما �آلت
�إليه �أمور فل�سطني يف ظل حكم �أولئك الطغاة.
«م�ساجد الدار»
�أعلم �أن ال�شم�س �سوف ت�رشق ،و�أعلم �أن ظلم عبا�س ومن معه لن يدوم و�أن
م�صريهم لن يكون �سوى مزابل التاريخ و�أعلم �أي�ضا ً �أنه لي�س بعد القدو�س �إال
القد�س ،والق�سام.
112
مريانا� ،أ ْم �صفاء
بعد �أعوام على مطاردتي مع زوجتي وابنتي تاال وابني �أ�سامة قدر اهلل �أن حتمل
زوجتي يف تلك الظروف ال�صعبة ،ففي بداية االنتفا�ضة كنت �أملك املال ،بل �أمتلك
الكثري والكثري من املال ،ولكن بعد اعتقايل لدى �أجهزة �أمن ال�سلطة ونهب تلك
الأموال ،ا�ضطررت لبيع ما ميكن بيعه من ذهب و�سحب ما كانت متلك زوجتي من
مال ،لكن االنتفا�ضة واملقاومة �أكرب بكثري من �أن ي�ستطيع رجل واحد تلبية ولو جزء
ب�سيط من احتياجاتها.
فلقد و�صل �سعر الر�صا�صة الواحدة ملبلغ ثالث دوالرات ،نعم ثالث دوالرات،
و�صوالً خلم�س دوالرات ح�سب نوع الر�صا�صة وال�سالح لإطالقها ،ولذلك بح�سبة
ب�سيطة جدا ً ف�إن �أي جولة تخو�ض بها �أ�شتباكا ً م�سلحاً ،كنا نطلق عدة مئات من
الر�صا�صات وهذا يعني �آالف من الدوالرات بكل جولة ا�شتباك م�سلح.
عدا عن �رشاء الأ�سلحة التي �أ�صبحت نادرة و�أ�صبحت �أ�سعارها جنونية ،فال�ضفة
الغربية حما�رصة وال جمال ل�رشاء الأ�سلحة بها �سوى من داخل �أرا�ضي فل�سطني
املحتلة عام 1948من جتار ال�سالح ورجال املافيات .ومع تقدم �أعوام االنتفا�ضة
العام تلو العام كانت الأ�سعار تتقدم وترتفع ،ولذلك �أ�صبح �أبو علي ال�سلوادي هو
من ميول كل تلك النفقات و�أكرث من ذلك فلقد كان ميول كل ما حتتاجه كتائب الق�سام
ومي ِّول احتياجات �أ�رس مقاتلي الق�سام املطاردين.
خالل تلك الفرتة �شهدت املقاومة حالة من اال�ستقرار املادي ومن القوة الكبرية
جدا ً من خالل �رشاء كل ما حتتاجه من �سالح وعتاد و�سيارات ،ومن ا�ستئجار
م�ساكن ومواد لل�صناعات الع�سكرية ،لكن بعد تلك الفرتة من اال�ستقرار املادي قامت
قوات االحتالل ب�شن حمالتها واقتحاماتها �ضد البنوك وامل�صارف املالية ،و�ضد
حماوالت ال�رصافة وتبديل العملة ،واعتقلت كل من ي�شتبه به ب�أنه من ممويل املقاومة
الفل�سطينية ،وا�ستولت على املاليني من الأموال ،مما �أدى �إىل وقوعنا ب�ضائقة مالية
�أكرب بكثري من ال�سابقة ،وخا�صة �أننا كنا قد تو�سعنا كثريا ً بعملنا ولقد كان هناك
التزامات مالية مثل �أجور املنازل امل�ست�أجرة ،وم�رصوف املطاردين ،وم�رصوف
عائالتهم املطاردة معهم .يف تلك الظروف قدر اهلل يا ابنتي �أن تولد �أختكِ؛ فب�سبب
113
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
االعتقاالت الكبرية �أ�صبحت حركتي �صعبة جدا ً و�أ�صبحت حركة م�ساعدينا �أ�صعب
و�أ�صعب ،فلقد �أ�صبح �سيد ال�شيخ قا�سم و�أبو �أحمد اخلطيب مطلوبني �أي�ضا ً لقوات
العدو ،و�أ�صبحت حركة �أبي علي ال�سلوادي م�ستحيلة يف ظل تلك الظروف.
وقدر اهلل �أن تت�ساقط الثلوج ب�شكل كبري مما �أدى �إىل �إغالق �شوارع مدينة رام اهلل
لعدة �أيام ،مما �أتاح لعدد من رجال اجلبهة ال�شعبية لتحرير فل�سطني من الفرار من
�أحد املعتقالت املجاورة ملدينة رام اهلل وهو معتقل عوفر ،ففر�ضت قوات االحتالل
منعا ً للتجول على املدينة ،و�أ�صبحت املجنزرات تلك القوات تتجول ب�شوارع املدينة
بني الثلوج التي كانت تك�سو تلك ال�شوارع .ويف م�ساء يوم اجلمعة يوم 2003/1/31
توجب نقل والدت ِك للم�ست�شفى ،مل يكن بذلك اليوم وبتلك الليلة ،ويف الظروف التي
قد ذكرتها� ،سوى �أنا و�أ ّم ِك و�أنت يا تاال و�أخي ِك الر�ضيع �أ�سامة.
كنت قد �أعددت خطة لإدارة عملية والدة �أخت ِك ال�صغرية ،لكن الظروف امليدانية
منعت تلك اخلطة من �أن ترى النور ،لكن اهلل ع َّز وج َّل كان دوما ً مع رجال فل�سطني
املقاومة ،فل�سطني �أر�ض الرباط واملرابطني ،وهنا طلبت منك �أن ترعي �أخي ِك الر�ضيع،
ورغم �أن عمركِ يف تلك الأيام مل يكن قد جتاوز الثالثة �أعوام ون�صف �إال �أنك قمتِ
برعايته ورعاية نف�س ِك جيداً.
تركت املنزل �أنا ووالدت ِك حماولني التوجه بال�سيارة �إىل �أحد امل�شايف املجاورة وهو
م�شفى الهالل الأحمر مبدينة البرية ،لكن ال�سيارة مل تتمكن من ال�سري ب�شوارع
املدينة التي كانت قد �أقفلت ب�سبب الثلوج .ولأن جنود االحتالل كانوا ال يتنقلون �إال
بوا�سطة جمنزرات فلقد ا�ستطعت �أن �أميز ال�شوارع التي �سلكتها تلك املجنزرات يف
�إطار فر�ضها ملنع التجوال وبحثها عن الفارين من رجال اجلبهة ال�شعبية الأبطال من
معتقل عوفر ،ولأن معتقل عوفر ومدينة رام اهلل ومدينة البرية متال�صقة ب�شكل كبري،
ف�إن امل�ساحة التي كانت متاحة للفرار ،كبرية جدا ً مما �أدى لنجاح تلك العملية املميزة.
�سريا ً على الأقدام فوق الثلوج اجتازت زوجتي الطرقات و�صوالً �إىل امل�شفى هناك
و�ضعت ابنتي «مريانا»� ،أق�صد «�صفاء» .فلقد قمت بت�سجيل املولودة من خالل عقد
زواج مزور وبطاقات للهوية مزورة �أي�ضاً ،تفاديا ً لت�رسيب اخلرب للعدو ال�صهيوين
من جهة ولقوات الأمن الفل�سطيني من جهة �أخرى.
114
بعد �أن و�ضعت �أمك املولودة ،عدت �أدراجي لأطمئن على �أطفايل هناك وبقيت عدة
�ساعات �أتنقل بني امل�شفى واملنزل ،حتى طلع ال�صباح وبد�أت جرافات بلدية البرية
حتاول فتح الطرقات بعد ان�سحاب جمنزرات العدو .وهكذا �أح�رضت �سيارتي لنقل
زوجتي من امل�شفى للبيت مبجرد �أن فتحت الطرقات �صباحاً .يف تلك الليلة مل يكن
يف امل�شفى �إال عدد قليل جدا ً يعد على �أ�صابع اليد الواحدة مما جعل الأمور بداخل
امل�ست�شفى ت�سري بدون م�شاكل ووالدت ِك رغم �أملها ،فقد �ساعدها ربنا و�سهل �أمور
والدتها بحمد اهلل.
باملنا�سبة يا ابنتي فلقد كان ا�سم �صفاء يف تلك الأوراق مريانا ومل تكن
م�سلمة بل كانت ن�رصانية من بيت حلم .فلقد كانت تلك �إحدى الهويات التي
ت�سرتت بها بتلك الفرتة من املطاردة فلقد كنت ن�رصانيا ً وكذلك زوجتي و�أنتِ يا
تاال و�أخوكِ �أ�سامة مل يكن طبعا ً �أ�سم ِك تاال وال ا�سم �أخيك �أ�سامة بل كنتِ �سارة
وكان �أخوكِ �إليا�س.
بعد اعتقايل بقرابة العام تذكرت �أن �أخت ِك مل تكن متلك �شهادة ميالد با�سمها
وا�سمي وا�سم والدتها احلقيقيني ،فكلفت املحامية بثينة وقامت مديرة جمعية
مانديال املخت�صة ب�ش�ؤون الأ�رسى باحل�صول على بطاقة �شهادة ميالد ملريانا
لت�صبح �صفاء� ،صفاء عبد اهلل الربغوثي.
عندما اعتقلت مل يكن �أحد بالدنيا يعلم �أ ّنه قد �أ�صبح لدي ثالثة �أطفال ،حزنت
والدتي على اعتقايل ولكن �رسعان ما فرحت عندما علمت باملولودة اجلديدة التي
كانت حتمل ا�سمها :ا�سم والدتي ففرحت �أمي �صفاء الربغوثي لأجل والدة �صفاء
عبد اهلل الربغوثي.
زوجتي التي كانت ع�ضدا ً و�سندا ً يل طوال فرتة مطاردتي مل تكن يوما ً عبئا ً علي
بل كانت دافعا ً يل لأ�ستمر مبقاومتي ب�سبب �صربها و�إميانها مبا �أقوم به .فبعد
�أن كانت تعي�ش حياة مل�ؤها الرغد وبحبوحة احلال �أ�صبحت تعي�ش مطارد ًة بال
بيت ثابت وال مكان هانئ ،فلقد كنا ننتقل خالل تلك الأعوام من مدينة �إىل �أخرى
ومن بيت �إىل �آخر حتى �أين ال �أكاد �أذكر عدد تلك البيوت والأماكن ،عندما ولدت تاال
ارتدت �أكرث من مائة ف�ستان ب�أول مائة يوم لها بهذه الدنيا وارتدت احللي الذهبية.
115
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
�أما �صفاء فلم ترتدي �سوى ف�ستانني اثنني فقط ال غري ب�سب �ضيق احلالة املادية،
وبدل �أن ترتدي احللي الذهبية ،ارتدت قطعة �أ�سواره بال�ستيكية من امل�شفى كتب
عليها مريانا بنت �أنطوان.
116
زراعة العقيدة�« ،سيد ال�شيخ قا�سم»
زراعة العقيدة �صعب جداً ،لكن اقتالع تلك العقيدة بعد �أن زرعت �أ�صعب �ألف مرة،
بل يكاد �أن يكون م�ستحيالً ،وهنا �أقول �أن عقيدة �أبناء الق�سام زرعت بالفطرة الطبيعية
التي كانت بو�صلتها الإ�سالم والعزة ،فلم �أ�شاهد ق�ساميا ً واحدا ً طوال عملي اجلهادي
ال يقدم نف�سه لل�شهادة ويتقدم لل�صفوف مثل �أولئك الق�ساميني .طوال �سنوات عمل
هذا املقاوم معي كان مبثابة الدرع احلامي يل ،فلقد كان يحر�ص على �أمني ويتبع كل
الأمور التي قد �أ�سهو عنها .كنت حممالً ب�أمور عديدة متنوعة مت�شعبة من متابعة �أمور
املقاومة وعملياتها� ،إىل التحديث على و�سائل تلك اخلاليا املقاومة و�صوالً للأمور
التقنية عرب �أجهزة احلا�سوب التي كنت �أبحر بها -قر�صانا ً يف ال�شبكة العنكبوتية -
لعلي �أجد ما ينفع املقاومة ،وبقد ٍر من معلومات ي�سهل اخرتاقها و�أرى ما بداخلها.
�أما �سيد فلقد كان ي�شاهد كل ذلك ب�صمت دون �أن ي�س�أل �أي �س�ؤال فلم �أكن �أدرك
�أن بني يدي معدنا ً نفي�سا ً ال يقدر بثمن .كان �سيد القا�سم يعمل يف جمال تركيب
متديدات املاء للمنازل ،ومل يكن له �أي عالقة بتلك الأمور االلكرتونية والكهربائية
التي كنت م�شغوالً بها طوال وقت تواجدي ،خ�صو�صا ً يف حالة عدم وجود عم ٍل
ع�سكري �أقوم به.
حدثَ �أن احتجت لإحدى العمليات؛ عدة ع�رشات من العبوات النا�سفة فطلبت
من �سيد �أن يفعل مثلما �أفعل مل يرتدد بل بد�أ على الفور ي�ؤدي ذلك العمل ب�صورة
مذهلة ،ف�أوقفته عن العمل و�س�ألته كيف تقوم بتلك الأمور من حلام وو�صل للقطع
وجتمي ٍع لها ،كيف؟ قال :لقد كنت بجوارك طوال ع�رشات جل�سات التدريب التي
كنت تدرب بها املهند�سني والفنيني على تلك الأمور ،وكنت �أراقب و�أ�شاهد و�أقر�أ ما
كنت قد كتبته يف كرا�سات تلك الدورات و�أ�شاهد الر�سوم الهند�سية وهكذا حفظت
الكثري منها وكنت �أن�شغل بر�سمها ب�شكل تف�صيلي ،لأين كما تعلم كنت ال�شخ�ص
117
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
الوحيد الذي كان ي�سمح له بالتجول بحرية مطلقة معك ومع املتدربني ،ولقد كنت
يف بع�ض الأحيان بعد �أن �أنتهي من التدريب �أقوم ب�إعادة الأدوات التي تدرب عليها
املهند�سون �إىل �أماكنها وهكذا تعلمت.
يف تلك اللحظة وعندما �سمعت ما قاله توقفت عن �صناعة ما كان بني يدي من
عبوة نا�سفة ،وبد�أت ب�إعطائه دوره مكثفة ا�ستمرت عدة �أيا ٍم وليالٍ متكنت خاللها
من �صقل �أحد �أهم الفنيني بل �أحد �أهم املهند�سني الق�ساميني ،فلقد �أ�صبح �سيد القا�سم
بعد فرتة التدريب يقوم ب�إعداد الكثري من العبوات متعددة الأغرا�ض والأ�شكال.
لقد دربت الع�رشات من املهند�سني الذين كان بع�ضهم قد �أنهى درا�سة املاج�ستري
ويعد لدرا�سة الدكتوراه ولكن ي�شهد اهلل �أن �سيد ال�شيخ قا�سم فاقهم �رسع ًة بالتعلم
واتقانا ً ل�صنع ما تعلمه.
لقد �أكمل �سيد القا�سم من بعدي م�شواره على درب مهند�س الق�سام ف�صنع �أقوى
العمليات تقنياً ،و�أدا َر �أف�ضل اخلطط ع�سكرياً� ،سيد ال�شيخ قا�سم مهند�س على الطريق.
وهكذا �أقول �أن �صعوبة التدريب الذي تلقاه طوال تلك الأيام جعل �إدارته املعركة
�سهل ًة وب�سيط ًة� ،صعب يف التدريب �سهل يف املعركة:
وهكذا زرعت -بجوار عقيدة الق�سام بقلب �سيد القا�سم -علوم هند�سة الق�سام،
فلم يتمكن �أحد من اقتالعها �أبداً .بل قام ابن الق�سام بزراعة تلك العلوم والعقائد
بداخل �صدر وعقول �شباب الإ�سالم ورجال الق�سام.
تر�س ،وترو�س
بهذه الوم�ضة �أريد �أن �أعر�ض «�آلة الق�سام» ،تلك الآلة التي كانت مليئة برتو�س
الق�ساميني ،تلك الرتو�س التي متار�س عملها ب�صمت وثبات واقتدار.
ق�ص�صت
ُ وهنا يا ابنتي احلبيبة ويا مالكي احلار�س يجب �أن تعلمي �أنني عندما
علي ِك ما حدث من �أمور و�أحداث جرت خالل م�سريتي اجلهادية� ،أنني ل�ست �سوى
جمرد تر�س �صغري جدا ً جدا ً يف تلك الآلة التي حتوي على الرتو�س ،الرتو�س التي
�سيطرت بعملها املتوا�صل بجد و�صمت �أروع �صفحات املقاومة على تراب فل�سطني،
كل فل�سطني.
118
وهنا عندما �أعرج على ا�سم �أحد تلك الرتو�س الق�سامية ف�أنا �أعرج على ما
قمت �أنا به معه ،ال على ما قام به هو خالل مقاومته للعدو ال�صهيوين ،فعندما
ذكرت املهند�س «�أمين حالوة» فلم �أذكر ما قام هو ب ِه بعيدا ً عني� ،أو ما قام
به منفردا ً من �أعمال مقاومة و�أعمال جهادية .فلقد قام هذا ال�شهيد املهند�س
«�أمين حالوة» بعد ٍد كبري من تلك الأعمال املقاومة بل قام ب�أحد �أهم تلك الأعمال
والعمليات وهي عملية «الدولفيناريوم» على �شاطئ بحر فل�سطني املحتلة تلك
العملية التي قتل خاللها الع�رشات و�أ�صيب املئات عندما فجر اال�ست�شهادي
«�سعيد احلوتري» نف�سه بني ال�صهاينة عندما كانوا يلعبون وي�سكرون يف ذلك
امللهى الليلي الذي يقع بجوار �شاطئ البحر ،بعد �أن قام املهند�س «�أمين حالوة»
بر�سم اخلطة و�إعداد املادة املتفجرة التي و�ضعت بداخل طبلة عزف عليها
اال�ست�شهادي حلنه ،حلن املقاومة.
وما هذا �إال مثل ب�سيط جدا ً على تلك الأ�سماء التي جاء ذكر بع�ضها خالل كتابتي
كتاب بل كتب خا�صة لرتوي ً هذه الأوراق ،تلك الأ�سماء التي يحتاج كل ا�سم منها
�سريته اجلهادية ،على طريق حترير فل�سطني كل فل�سطني والقد�س والأق�صى،
ولذلك يجب �أن تعلمي �أن هناك الع�رشات بل املئات من مقاومي �آلة الق�سام الذين
قاموا ب�أ�ضعاف �أ�ضعاف ما قمت به ،لكنهم يا ابنتي �صامتون منهم من كتب اهلل له
ال�شهادة ،ومنهم من كتب له اهلل الأ�رس ،ومنهم ما ال يزال قاب�ضا ً على جمر املقاومة،
يقاوم ويرابط ب�صمت .ولذلك �آمل من ِك عندما تكربين ب�أن ت�سطري جتارب �أولئك
املقاومني الق�ساميني يف كتب ،لرتى النور تلك ال�سرية الطيبة لأولئك الطيبني� :شهداء
كانوا �أم �أ�رسى� ،أم مقاومني.
تثور النار �إن خنقت باحلطب
فكيف ال يثور ابن الق�سام وقد غ�ضب
على دم �شعب ي�سكب
ويحرق كل من للحق اغت�صب
والنور بن�رش �سري �أولئك املقاومني ،هي ثورة ال تقل على ثورات من يحمل
119
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
البندقية ويقاوم بها ،فالكلمة ال�صادقة يف هذا الزمن ال�صعب قد تكون �أقوى من
الر�صا�ص و�أ�شد ت�أثريا ً من العبوات النا�سفة.
واعلمي يا ابنتي �أنه من ال ي�شكر النا�س ال ي�شكر اهلل ع َّز وج َّل ولذلك ف�أنا �أ�شكر
كل من علمني حرفا ً �أو كلم ًة ،كل من �أمدين بر�صا�صة لأقاوم بها� ،أ�شكر كل من
قاتلت �إىل جوارهم �أ�شكرهم و�أ�شكرهم و�أت�رشف ملجرد �أين قابلتهم هناك ب�ساحات
املعركة ،واعلمي يا مالكي احلار�س �أننا ال نختار املعارك التي نخو�ضها بل املعارك
هي من تختارنا.
طي اجلراح
ا�شتدت حمالت املداهمة واالعتقال و�أ�صبحت �أكرث تركيزا ً على كل من يعتقد �أنه
ميت ب�صل ٍة ما يل ،من قريب كانت �أو من بعيد ،وخالل عدة �أعوام �أعتقل الع�رشات من
مهند�سي الق�سام ومن القادة امليدانيني لأولئك القادة واملهند�سني ،كان هناك دائما ً
بديل ي�سارع �إىل �إيجاده �أبو علي ال�سلوادي و�أقوم �أنا بالتكفل ب�إعداده وتدريبه لكي
ينخرط يف ميدان املعركة.
�أما من كان �إيجادهم �صعبا ً فهم امل�ساعدون ال�شخ�صيون واملرافقون فلقد كنت
�أدير هذه الدائرة ب�شكل مغلق ولقد كان عد ٌد من �أولئك الأ�شخا�ص �أمثال �سيد القا�سم
و�أبي �أحمد اخلطيب الذي �أم�ضى برفقتي عدة �سنوات ولذلك فلقد كان ا�ستبدال �أي
�أحد منهم �صعبا ً للغاية ولكن ب�سبب ارتباطهم املبا�رش مع مهند�سي الق�سام والقادة
امليدانيني -من �أجل التن�سيق بيني وبينهم -فلقد �أدى ذلك لأن ي�صبحوا مطلوبني
لقوات االحتالل بعد �أن كانوا يقومون بكل ن�شاطاتهم ال�سابقة بدون �أن يكون
االحتالل قد �صنفهم على �أنهم ممن يعملون يف جمال املقاومة ،وهكذا �أ�صبح كل
عنا�رص الدائرة الأمنية املحيطة بي مطلوبني مطاردين ،فكان لزاما ً حمايتهم ومتابعة
�ش�ؤونهم على �أكمل وجه ،ولأن الأحداث كانت مت�سارعة ،فلقد كان مطلوبا ً مني �أن
�أبد�أ بالبحث عن �أماكن جديدة للإقامة،غري تلك القدمية التي ت�شكل خطرا ً على �أمني.
ولأين كنت �آنذاك من�شغالً بزوجتي و�أطفايل الثالثة فلقد كانت الأمور �أكرث �صعوبة
ب�سبب ا�ضطراري للخروج كثريا ً لإح�ضار م�ستلزمات املعي�شة من طعام و�رشاب
120
وبخا�صة �أن زوجتي قد مر�ضت بعد والدتها البنتي �صفاء ،وظلت راقد ًة يف ال�رسير
عدة �أ�سابيع كنت خاللها �أراعي �أطفايل و�أقدم لهم احتياجاتهم اليومية .يف ظل تلك
الظروف ،وبعد خم�سة وثالثني يوما ً من والدة زوجتي ورقودها املتوا�صل على
�رسير ال�شفاء ،ا�ضطررت لإيجاد م�سكنٍ جدي ٍد يكون �أكرث مالءم ًة من م�سكني احلايل
الذي كنت قد �أطلت الإقامة به.
خالل عمليات البحث عن �شقة �سكنية مت ر�صدي من قبل �أحد العمالء وهو
�صاحب ملكتب عقارات وت�أجري �شقق .بالطبع مل يتعرف عليها من خالل ا�سمي
ولكنه ا�ستطاع التعرف علي من خالل مالحمي ومن خالل �صورة التقطت يل
ب�إحدى الكامريات املوجودة بداخل مكتب ِه والتي عر�ضها هو على جهاز ال�شاباك
فتعرفوا على �شخ�صيتي وهكذا مت ا�ستدراجي من خالل موعد �أتفق عليه مل�شاهدة
�إحدى ال�شقق وكان ذاك املوعد بجوار بلدية البرية.
يف �صباح يوم 2003/3/5توجهت �إىل امل�شفى �صباحا ً ملعاجلة ابنتي تاال التي كان
واجبا ً عليها مراجعة طبيب العيون ،ولأن والدتها كانت هي الأخرى راقدة بفرا�ش
املر�ض ،ولأن كل املرافقني الذي كانوا يعملون معي �أ�صبحوا مطلوبني للعدو ،فلقد
ا�ضطررت للذهاب بنف�سي ملعاجلتها.
مل يكن الطبيب املعالج قد ح�رض على موعده املحدد.وقيل يل �أنه بعيادته التي
كانت ب�أحد امل�شايف اخلا�صة �أنه �سوف يح�رض خالل �ساعة �أو �أكرث ولأن هناك موعدا ً
م�سبقا ً مع �صاحب مكتب ت�أجري ال�شقق فلقد ا�ضطررت �إىل �أخذ ابنتي معي لذلك
املوعد على �أمل م�شاهدة ال�ش ّقة والعودة ثانيا ً �إىل م�شفى العيون.
وما �إن و�صلت �إىل موقف �سيارات بلدية البرية ونزلت من ال�سيارة وعلى يدي
ابنتي ،حتى هاجمني كلبان بولي�سيان ،فقمت بالإ�رساع بقذف ابنتي تاال بداخل
ال�سيارة و�إغالقها عليها حماوالً الت�صدي للكلبني اللذين كان �إحدهما قد بد�أ ينه�ش
قدمي والآخر بد�أ ينه�ش ال�سرتة ال�شتوية التي كنت �أرتديها .قبل �أن �أمتكن من
التخل�ص من الكلبني البولي�سيني كانت جمموعة من قوات االحتالل حتيط بي م�صوب ًة
بنادق ر�شا�شاتها نحوي ف�ألقوين �أر�ضا ً وكبلوين وع�صبوين واقتادوين �إىل �سيارة
كانت قد توقفت حولهم �أثناء مهاجمتهم يل .مت اقتيادي �إىل مع�سكر حتقيق ومعتقل
121
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
عوفر املجاور .قبل الو�صول مت رفع الغطاء عن ر�أ�سي مع �إبقاء الع�صبة على وجهي
متت �إزالة الع�صبة عن وجهي لأجد وما �إن توقفت ال�سيارة بداخل املع�سكر حتى َّ
نف�سي �أمام �شخ�ص مقنع نظر يل وهز ر�أ�سه كان ذلك املقنع هو �صاحب مكتب ت�أجري
ال�شقق .لقد عرفته فلقد كان ق�صريا ً �سمينا ً يرتدي حذاء ذا كعب عال ٍ نوعا ً ما ،ثوان ٍ
معدودة تلك التي لزمته للتعرف علي قبل �أن يهز بر�أ�سه املغطى وثوان ٍ هي �أي�ضا
تلك امل َّدة التي لزمتني لأقرر رغم �أين مكب ٌل مقي ٌد ب�أن �أقوم ب�إعدامه.
لقد �أق�سمت �أن �أول عمل �سوف �أقوم به هو �إعدام ذلك احلقري العميل .مل تكن
عندي م�شكلة ب�إعدامه ،دائما ً كانت امل�شكلة تكمن بالطريقة التي �سوف �أعدمه بها،
فما ال تعلمينه يا ابنتي هو �أين على مدار �أعوام من املقاومة قمت ب�إعدام عد ٍد من
العمالء كنت �أقوم ب�إعدام بالطريقة التي تتنا�سب مع جرميته التي ارتكبها ،فمن
ت�سبب ب�سقوط قذيفة �أدت �إىل ا�ست�شهاد مقاوم من �أولئك العمالء فلقد كنت �أحول
ج�سده �إىل �أ�شالء بعد �إلقائه بداخل حفرة تكون قد لغمت باملواد النا�سفة ،فال يعقل
�أنه بعد �أن ت�سبب ذلك العميل بتحويل ج�سد �أحد املقاومني �أي �أ�شالء جراء �إحدى
قذائف العدو التي وجهت بناء على معلومات ذلك العميل ال �أقوم �أن بعد ثبات التهمة
عليه بتحويل جلده لأ�شالء ،فالعني بالعني وال�سن بال�سن ،والبادئ �أظلم .و�أنا ل�ست
ممن يعفون عن العمالء الظاملني.
�أما العمالء الذين كانوا يتعاونون مع املحتل دون �أن ي�ؤدي تعاونهم وخيانتهم
�إىل ا�ست�شهاد �أحد من �أبناء املقاومة فلم �أق�سم بقتلهم بل بفح�صهم وك�شفهم وحتويل
حياتهم بداخل ال�ضفة والقد�س جحيما ً ،مما كان يدفعهم �إىل الفرار �إىل �أح�ضان العدو
�إىل مدينة بداخل �أرا�ضينا املحتلة عام 1948م..
مل �أتطرق ب�إ�سهاب ملو�ضوع العمالء لأنه مو�ضوع �أمقته جدا ً وال �أحبه .وكنت
غالبا ً مرغما ً على التعاطي مع ق�ضاياهم القذرة بحق �أبناء املقاومة و�أبناء فل�سطني،
فالعمالء هم �أقذر ظاهرة عرفتها فل�سطني جراء االحتالل ال�صهيوين �سواء عمال�ؤه
املبا�رشون �أم عمال�ؤه بالوكالة ،قادة �أجهزة �أمن ال�سلطة الذين كانوا يعلقون �أو�سمة
العمالة متفاخرين بها راق�صني على دماء �شهداء فل�سطني .قبل �أن �أعود ملا قد ح�صل
معي �سوف �أعرج قليالً ملا حدث مع ِك بعد �أن �ألقيت ِك داخل ال�سيارة و�أغلقت الباب عليكِ.
122
وما �إن مت اقتيادي بعيدا ً عن ِك حتى مت فتح ال�سيارة والإلقاء ب ِك �أر�ضا ً مبوقف
�سيارات بلدية البرية وقاموا ب�أخذ �سيارتي معهم ظنا ً منهم �أن �سيارتي حتتوي على
ما ميكن �أن يفيدهم بخ�صو�ص ق�ضيتي.
قيل يل بعد فرتة من اعتقايل عرب �أحد املحامني الذين كانوا يتابعون ق�ضيتي من
الناحية الق�ضائية �أنه بعد �أن �ألقى جنود االحتالل ب ِك �أر�ضا ً جاء عد ٌد من موظفي
البلدية الذين �شاهدوا عملية مداهمة قوات االحتالل يل واعتقايل فقاموا ب�أخذك
حماولني التعرف على �شخ�صيت ِك وهويتكِ.
وعندما �س�ألوكِ قلتِ لهم �أن �أ�سم ِك لينا �أ�رشف و�أن ِك من مدينة نابل�س ،فلقد كان
هذا هو �آخر ا�سم قد �أطلقته علي ِك بعد ا�سم ِك ال�سابق الذي كان �سارة.
مل يتمكنوا من حتديد هويت ِك ب�أي �شكل من الأ�شكال ،لأنه مل يكن �أحد قد �شعر
بغياب ِك �أو افتقدكِ ف�أنا معتقل و�أم ِك مري�ضة ترقد على �رسير ال�شفاء وكنت قد تركتها
نائمة هي و�أخاك �أ�سامة و�صفاء عندما تركنا املنزل �صباحاً.
وهكذا بقيتِ يا ابنتي حتى ما بعد �ساعات امل�ساء دون �أن يتم التعرف على هويت ِك
فلم يكن عمركِ قد جتاوز الأعوام الأربعة بعد ،ولأن ِك �أم�ضيتِ ما يزيد عن ن�صف
تلك الأعوام الأربعة متنقل ًة من م�سكن لآخر ومن مدينة �إىل �أخرى فلقد جعلتِ كل من
يحاول �س�ؤالك عن �أي معلومة �سواء باال�سم �أو مكان الإقامة يدخل مبتاهة ال ميكنه
اخلروج منها ب�أي نتيجة.
بد�أت املحطات الف�ضائية والتلفزيونية بنقل ما حدث ونقل �صوركِ يف تقاريرها
الإخبارية وحل�سن حظ ِك فلقد تعرفت علي ِك جدت ِك رغم �أنها مل َت َركِ منذ عامني و�أكرث �إال
�أنها عرفتك و�صاحت ب�أخوالك هذه تاال اذهبوا للمدينة و�أح�رضوها فورا ًهذه حفيدتي.
و�صل �أخوال ِك بعد منت�صف الليل �إىل مدينة رام اهلل حيث كنتِ قد نقلتِ �إىل هناك �إىل
�أحد منازل �أبناء العائلة الذي �أخذكِ من بلدية البرية بناء على طلب �أخوال ِك منه ،ثم مت
نقل ِك �إىل القرية لأح�ضان جدت ِك وطبعا ً مل تفلح جدت ِك و�أخوال ِك باحل�صول على �أي
معلومة من ِك �سوى و�صف ِك ملا جرى معي من اعتقال وكالب وكالب وكالب.
كانت زوجتي متعودة على غيابي ل�ساعات طويلة عن البيت �إال �أن هذا الغياب
يكون عادة غيابي �أنا وحدي ولي�س غيابي مع �أي �أحد من �أطفايل .قلقت وانتظرت
123
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
فلقد كانت تعلم �أن عليها االنتظار يف حالة غيابي املفاجئ ملدة �أربع وع�رشين �ساعة
قبل �أن نعود �إىل القرية ،ولأن قلقها قد زاد ،قامت بت�شغيل جهاز التلفاز متابع ًة
ن�رشات الأخبار حيث علمت عن اعتقايل و�أ�رسي لدى قوات العدو ال�صهيوين.
انتظرت حتى �صباح اليوم التايل وعادت �إىل القرية مع ما بقي معها من �أبنائي
وهم �أ�سامة والر�ضيعة �صفاء؛ �صفاء التي كان عمرها يوم اعتقايل خم�سة وثالثني
يوماً .ما �إن و�صلت زوجتي القرية حتى داهمت قوات االحتالل القرية ،ومنزل عمي
والد زوجتي واعتقلوا كل من كان هناك ،وتعر�ضت زوجتي للتحقيق امل�ستمر لكنهم
مل يتمكنوا من معرفة �أي �شيء منها ومل يح�صلوا على �أي معلومة مفيدة ،فزوجتي
مل تكن تعلم �أ�صالً عن �أي عمل من الأعمال التي كنت �أقوم بها ،فلقد كانت مهتمة
برعاية الأطفال طوال مدة وجودها عندي و�أنا مطارد ،ومل تكن قد �شاهدت طوال
م�ساعدي ن�سا ًء كانوا �أم رجاالً.
ِّ تلك املدة وجه �أي �أحد من
ولذلك بعد انتهاء التحقيق معها مت �إطالق �رساحها ،وهكذا عاد ا�سم تاال لتاال،
ومل تقتنع هي بهذا اال�سم .وت�سلم به �إال بعد عدة �شهور من تكرار مناداتهم بها بهذا
اال�سم رغم مرور �أعوام على عودة ا�سمها احلقيقي لها �إال �أنها تف�ضل ا�سم لولو وهو
ا�سم الدلع الذي كنت �أناديها به عندما كان ا�سمها لينا ،وظل ا�سم لولو ا�سما ً رديفا ً
لإ�سمها حتى اليوم.
�أما جميلة اجلميالت �صفاء فلقد ولدت حتت ا�سم مريانا فلقد �أ�صبح ا�سمها
�صفاء واعتادت عليه منذ عودتها �إىل قرية بيت رميا� .أما �أ�سامة �أو �إليا�س �أو خم�س،
فقد ا�سرتجع هو الآخر ا�سمه ب�شكل �أ�رسع من تاال لأنه كان ما يزال �صغريا ً ولأننا
كنا نناديه يف داخل املنزل با�سم الغ�ضنفر ،فلقد بقي الغ�ضنفر لقبا ً له حتى يومنا هذا
و�أ�سامة ا�سم له.
وبالعودة ملا جرى معي بعد اعتقايل ،اعتقايل الذي عربت عنه بب�ضعة جمل
مت�شابكة ،فقلت وا�صفا ً حالتي اجل�سدية والنف�سية يف ذلك اليوم الأول الذي توا�صل
لي�صبح �سل�سل ًة من الأيام التي توالت على مدار �ستة �أ�شهر من التحقيق املتوا�صل،
بيوم بد�أ ومل ينت ِه �إال بانتهاء الأ�شهر ال�ست �أو املائة وثمانني يوما ً التي جمعت لت�صبح
يوماً ،يوما ً واحداً.
124
قلت يف ذلك اليوم:
مكبل اليدين والقدمني معلق
�سقف الزنزانة من املرفق
فجر ر�صا�ص بال �شم�س ت�رشق
وبال �أمل وعيون ت�رشق
احتالل جترب وقلب املنطق
�س�ؤال وا�ستجواب ّ
مت حتقيق
ج�سدي يت�أمل و�سياطهم كاحلريق
عظام تك�رس وعظام ت�سحق
بحري هائج وفكري غريق
قلبي يت�أمل و�أ�شعر بال�ضيق
�أ�رست وعذبت ومل ي�سقط البيدق
و�صعدت روحي من �شدة الأمل للخالق
ال روحي مل ت�صعد لل�سماء
مل ا�ست�شهد وما زلت باملحقق �أحملق
نعم ،مل �أ�ست�شهد ولكني كنت بني الوعي والالوعي �أ�صارع �أمل ج�سدي لكي ال
تك�رس �إرادتي ولكي ال يتدمر ما قمت به طوال عدة �أعوام يف �صفوف املقاومة من
بنيان مع رجال املقاومة ،رجال الق�سام.
كنت �أدرك �أن مثل هذه اللحظة قد ت�أتي ،فلم يكن �أمام من يقاوم االحتالل �سوى
لظروف عديدة ال داعي للتطرق ٍ ال�شهادة �أو االعتقال �أو الن�رص ،الن�رص كان �صعبا ً
لها وال لأ�سبابها تلك الأ�سباب التي جرت على �أهل فل�سطني النك�سة والنكبة و�أو�سلو
والكثري غريها ،ولذلك فلقد كنت م�ستعدا ً لل�شهادة عرب �إخال�ص النية هلل وحده هلل ع َّز
وج َّل ،فاملقاومة مل تكن ال ل�سلطة وال جلاه بل كانت هلل لرب العزة رب فل�سطني ،الذي
كتب علينا اجلهاد طريقا ً لتحرير املقد�سات.
�أما االعتقال فلقد كنت م�ستعدا ً له من عدة نواح ٍوبطرق خمتلفة كان �أولها ج�سدياً،
125
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
فرغم ان�شغايل طوال الأعوام املا�ضية ب�أعمال املقاومة �إال �أين كنت ما �أزال �أحافظ على
لياقتي البدنية على �أف�ضل حال ،فلقد وا�صلت تدريبي وتقوية ع�ضالتي ال�ستعمالها
يف خو�ضي املعارك امل�سلحة� ،أو يف خو�ض معركة ك�رس الإرادة يف زنازين التحقيق،
�سواء �أكانت تلك الزنازين لدى ال�صهاينة �أم لدى �أعوانهم من �أجهزة �أمن ال�سلطة� .أما
من الناحية الأمنية:
فلقد كانت ا�ستعداداتي تنق�سم �إىل ق�سمني:
�أولها :تلك اخلربة الكبرية واملعرفة التي تعلمتها مني «�أبي علي ال�سلوادي» و»�سيد
القا�سم» و»�أمين حالوة» وغريهم من رجال الق�سام الذين كانوا قد مروا بتجارب
اعتقال �سابقة ومتكررة على مدى الأعوام ال�سابقة .فمن خالل جتاربهم االعتقالية
متكنت معهم من و�ضع ت�صور ملا �سوف يحدث معي �أو مع �أي �أحد من املقاومني �إذا
ما مت �أ�رسه ولذلك قمنا ب�إعداد كرا�سة ي�رشح بها الأخوة �أبو علي ال�سلوادي و�سيد
القا�سم و�أمين حالوة كيفية �إدارة املعركة االعتقالية ،وهكذا ورغم عدم اعتقايل لدى
ال�صهاينة من قبل �إال �أين كنت �أحمل بعقلي ت�صورا ً كامالً يل �سوف �أالقيه عندهم
ولكيفية ردود فعلي على ما �س�أواجه به هناك ،ب�أقبية التحقيق.
ثانيها :فلقد كان من نوع �آخر ف�ضلت �أن �أقوم به لأ�سباب تطورت وتعددت
�أ�سبابها ،فلقد كنت على مدى �أعوام �أقوم بجمع كل املعلومات التي قد يكون �أدىل بها
بع�ض املعتقلني الذين تربطهم بي عالقة عمل جهادي من خالل معلومات ح�صلت
منها بعد �أن �أنهوا التحقيق ومت و�ضعهم داخل ال�سجون� ،أو من خالل املعلومات التي
ح�صلت عليها عرب املحامني الذين كانوا ميلكون لوائح االعرتاف ولوائح االتهام التي
قدمت �إىل املحاكم ال�صهيونية ،وبذلك كنت وبن�سبة جتاوزت الت�سعني باملائة �أعلم ما
مت تداوله عني حتديداً ،و�أعلم التهم التي �سوف توجه �إيل .تلك التهم مل تعنيني �أبداً؛
ف�أنا مقاوم مهند�س.
�أما ماذا كان يهمني ويعنيني فهو عدم ك�رس حوار ال�صمت مبا يخ�ص العمل
الهيكلي لكتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام ،ومبا يخ�ص خطتها امل�ستقبلية و�أهدافها،
�أو خمازن ال�سالح والذخرية وم�ستودعات املواد املتفجرة .ذلك ما كان يعنيني �أوالً.
�أما ثانيا ً فهم املقاومون الذين عملوا معي ومل تكن هوياتهم قد ك�شفت لدى قوات
126
العدو .تلك الهويات التي �أق�سمت برب العزة على �أن �أ�ست�شهد قبل البوح بها وقبل
متكن العدو من �أولئك الق�ساميني �أمراء الظل� ،أو �أن �أمكن العدو من احل�صول على
ر�صا�صة واحدة من ر�صا�صات الق�سام.
على هذه الأر�ضية التي بنيت عليها �إ�سرتاتيجيتي توكلت على اهلل� .أما ال�صهاينة
فلقد �أوكلوا �أمرهم لل�شيطان وبنوها على �أر�ضية ما يعرف با�سم التحقيق الع�سكري.
التحقيق الع�سكري هو التحقيق الذي ميار�س به ال�صهاينة كل الأ�ساليب الال�إن�سانية
من �أجل انتزاع املعلومات من املعتقل .طوال �شهرين من التحقيق معي مبدينة القد�س
مبركز التحقيق �سجن امل�سكوبية ،ك�رس ما ك�رس من عظامي وو�صلت حالة ج�سدي
�إىل حافة الإنهيار ،لكن اهلل ع َّز وج َّل �أعلى و�أقوى ،اهلل رب القد�س حيث كنت �أعذب
يف تلك الأقبية املظلمة على يد طغا ِة الزمان ومدن�سي املكان ،مدن�سي بيت املقد�س
ومدن�سي اج�ساد اال�رسى واملعتقلني .ما �إن انق�ضى ال�شهران حتى مت ا�صطحابي �إىل
مركز حتقيق �آخر ال ا�سم له وال عنوان على اخلارطة ،مركز ي�صطلح على ت�سميته
باملركز ال�رسي اخلا�ص� ،رسي وخا�ص .فعالً هناك بد�أت جولة جديدة ا�ستمرت نحو
�أ�شهر و�أكرث كنت خاللها ميتا ً يحمل بقايا �أنفا�س� ،أنفا�س �أجراها اهلل بج�سدي حارما ً
�إياي من ال�شهادة التي كنت �أطمع بها ،فال�شهادة كانت هديف وغايتي التي كنت �أ�سعى
�إىل الو�صول �إليها عرب حتدي �أولئك ال�صهاينة الربابرة .مل �أ�ست�شهد و�أخذت على نقالة
�إىل زنزانة ب�سجنٍ يف القد�س مر ًة �أخرى .هناك يف القد�س عدت �أ�شالء �إن�سان ،حمموالً
على نقالة ال ينق�صها �سوى كي�س �أ�سود من تلك الأكيا�س التي تو�ضع بداخلها اجلثث.
�ألقيت يف تلك الزنزانة نحو �أ�سبوعني �أو �أكرث ،ثم مت نقلي مرة �أخرى �إىل �شمال
فل�سطني� :إىل معتقل «جم ّدو» .هناك و�صلت ففكوا الرباط عن عيني ثم و�ضعوين
بال قيد ب�أحد الأق�سام هناك للمرة الأوىل من ما يزيد عن ثالثة �أ�شهر ون�صف ،ر�أيت
ال�شم�س للمرة الأوىل ،و�أي�ضا ً ر�أيت �أنا�سا ً غري املحققني ال�صهاينة ،لكن �أولئك النا�س
كانوا ذئابا ً ب�أج�سام ب�رش .ما �إن و�صلت �إىل ذلك املعتقل و�إىل ذلك الق�سم الذي �أعد
خ�صي�صا ً يل وال�ستقبايل ،حتى وجدتهم ي�صلون فتو�ض�أت و�أ�رسعت لأقف خلفهم
لأ�صلي ،لأ�صلي ومل �أ�ص ِّل ،مل �أُ�ص ِّل بنية اجلماعة بل �صليت بنية الفرد ،رغم �أن
�إمامهم كان طويل اللحية وكبريا ً يف العمر �إال �أين مل �أرحت له لأين عندما دخلت لأ�صلي
127
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
ملحت عينه ترقبني �أثناء توجهي من الباب لأقف يف �آخر �صف ،فلقد كان باب خيمة
ال�صالة يقع على ميني ال�صف املقابل وهو ميني اخليمة ،مل �أرحت لنظراته وال لطريقة
�أدائه لل�صالة ،فلقد كان هو وكان من معه من عدة ع�رشات من امل�صلني مثل العازفني
بجوقة مو�سيقية مدربة على �أح�سن تدريب مل يكن بينهم �أحد ن�شاز كانوا مثل
الرجال الآليني ،ذئابا ً ب�أج�ساد رجال ،ورجاال ً �أ�شباه �آالت تتحرك بتناغم م�ستفز.
ما �إن انتهيت من ال�صالة حتى كان العديد منهم قد مر من �أمامي متجها ً �إىل باب
اخليمة للخروج .بقي �إمامهم الأكرب مع اثنني من مرتدي اللحى ،تلك اللحى التي
حاولوا من خاللها �إخفاء حقيقة هويتهم عني ،ف�سلموا علي ما �إن انتهيت من ال�صالة
وعرفوين ب�أنف�سهم على �أنهم فل�سطينيون من مناطق فل�سطني املختلفة وعلى �أنهم
مقاومون وثائرون.
قدموا يل الطعام ،الكثري الكثري من الطعام واحلليب .وهكذا م�ضى اليوم الأول
�صالة بنية الفرد وطعاما ً عن مئة فرد .يف اليوم الثاين قدم يل �إمامهم الأكرب حقيبة
مدعيا ً �أنها قد و�صلت من ال�شيخ «جمال �أبو الهيجاء» �آمر املقاومة الق�سامية مبدينة
جنني ،وقد كان ال�شيخ «جمال �أبو الهيجاء» قد اعتقل منذ نحو عام .ما مل يكن يعلمه
�إمامهم الأكرب الذي قدم يل احلقيبة على �أنها من ال�شيخ «جمال �أبو الهيجاء» هو
�أين كنت �أعلم �أن ال�شيخ موجود يف �سجن� ،سجنٍ �آخر �أكرث حرا�سة� ،سجن مبني
من الإ�سمنت واحلديد ولي�س هنا ب�سجن اخليام؛ لأن ال�صهاينة كانوا ال ي�ضعون
مت حكمهم واقرتب موعد �إطالق ب�سجن اخليام «جم ّدو» �أو �سجن خيام «عوفر» من ّ
�رساحهم ،فكيف يكون �أبو الهيجاء معتقل يف «جم ّدو»؟ وكيف �أ�صالً يتم �إح�ضاري،
�إح�ضار «عبد اهلل الربغوثي» الذي يوجه له تهما ً ال تعد وال حت�صى �إىل �سجن �ضعيف
احلرا�سة و�أ�شبه ما يكون باملنتزه املليء باخليام؟
فتحت احلقيبة فوجدت بها ر�سالة من «جمال �أبو الهيجاء» كان ال�شيخ كما ي ّدعي
قد كتبها يل ،كتب بها كلمات لالطمئنان عن �أحوايل وو�ضع بنهايتها عددا ً من �أرقام
الهواتف التي تخ�ص قيادات �سيا�سية مثل الأخ خالد م�شعل ،والأخ عبد العزيز
الرنتي�سي وغريهم �أ�سماء كثرية و�أرقام �أكرث ،لكن مل يكن بني تلك الأ�سماء والأرقام
رقم من �أر�سل �إيل احلقيبة رقم ال�شيخ جمال �أبو الهيجاء ،ومل �أ�س�أل �أحدا ً عن رقمه
128
حتى ال ي�شكوا �أين قد �أ�صبحت �أ�شك بهم.
ظللت عدة �أيام على حايل �أ�صلي منفردا ً و�أنا خلف �إمامهم دون �أن �أثري �شكوكه
ودون �أن يدري �أو يعلم ،وكنت �أنام كثريا ً ب�سبب التعب الذي كان قد حلق بي خالل
جولتي بالتحقيق يف امل�سكوبية بالقد�س وباملركز ال�رسي ،وكنت �أتناول الطعام
وال�رشاب كلما متكنت.
كان هناك �صوت يوا�صل تذكريي �أين �سوف �أخو�ض جولة ثالثة من التحقيق
فال ميكن �أن يكون ال�صهاينة قد ا�ست�سلموا بهذه ال�سهولة فهم مل يتعبوا رغم �أنهم
�سهروا الليايل يف جل�سات التحقيق �إال �أنه كان يتم تغيري طاقم املحققني بني احلني
والآخر� ،أما �أنا فلم يتم تغريي طوال تلك الأ�شهر.
م�ضت عدة �أيام �أظنها قد جتاوزت الأ�سبوع� ،أتى بعدها �إمامهم الأكرب لي�س�ألني
�إن كان قد فرغ �شحن بطاريات الهواتف النقالة التي معي تلك التي �أر�سل منها
جمال �أبو الهيجاء اثنني ولي�س واحدا ً مو�صوال ً عرب �شبكة االت�صال الفل�سطينية
وهو لال�ستعمال داخل فل�سطني كما كتب يل والهاتف الآخر م�شبوك عرب �أحد
�رشكات االت�صال ال�صهيونية وهو لال�ستعمال اخلارجي ،فقلت ال �أدري �إذا ما كانت
البطاريات قد فرغت �أم ال لأين مل �أ�ستعمل تلك الأجهزة �أ�صالً .وقبل �أن ي�س�أل عن
ال�سبب قلت له �أين كنت قد ن�سيت وجودها �أ�صالً ب�سبب ت�شو�ش �أفكاري وتعب
ج�سدي� .أما احلقيقة فلقد كنت �أحاول �أن �أك�سب �أكرب وقت ممكن يف هذا املكان لعلي
�أ�سرتجع بع�ضا ً من قوتي اجل�سدية جلولة حتقيق �شعرت ب�أنها قادمة ال حمالة.
يف �أحد �أركان �إحدى اخليام جل�ست لكي �أجري �أول مكاملة يل مبجرد �أن تركني
�إمامهم وذهب حلاله ،ات�صلت بزوجتي فردت علي قلت لها ال وقت عندي قد ينتهي
�شحن البطارية فال تتحدثي واتركيني �أحتدث �أنا ،فطم�أنتها عن �أحوايل وحاولت
�إراحة نف�سها جراء فراقي .ووقوعي يف الأ�رس .طلبت منها �أن تعطيني ابنتي تاال ،تاال
مالكي احلار�س وبد�أت بالتحدث معها كانت ت�س�ألني با�ستمرار عن مكان وجودي
فكنت �أرد عليها �أنا عند �أ�صحابك و�أ�صدقائك ،فكان من حولها يطلبون منها �إعادة
ال�س�ؤال عن مكان وجودي فكنت �أكرر �أنا عند �أ�صحابك� ،أ�صحابك احللوين و�أقفلت
ال�سماعة مودعاً.
129
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
130
ويدفعهم لفقد �أع�صابهم مرده �أن رجال كتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام وعلى ر�أ�سهم
«�أبو علي ال�سلوادي» و«�سيد القا�سم» قاموا بعدة هجمات على قوات الكيان ال�صهيوين
الغا�صب عقابا ً جلرائمهم التي مل تكن تتوقف �أبدا ً �ضد كل فل�سطيني مدين ٍ كان �أم
ع�سكري ٍمقاوم ٍكان �أم م�سامل ٍ ،مما جعل قيادة ال�شاباك ال�صهيوين ت�صاب به�سترييا
عمياء �أرادت من خاللها ك�رس �إرادتي وجعلي �أنهار كا�شفا ً �أ�رسار املقاومة وخباياها.
يف تلك الفرتة ومن �شدة العذاب �أق�سم �أين �شاهدت املوت وحتدثت معه وجها ً
لوجه ،الم�سته وعرفته عن قرب �صادقت املوت و�صادقني م�شفقا ً علي مما حل بي
من عذاب ،قدر اهلل يل �أن ال �أ�ست�شهد وقدر اهلل مللك املوت �أن ال يقب�ض روحي.
131
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
بعد م�ضي �شهرين على هذه احلال وتلك الليايل الطويلة كان قد م�ضى على
وجودي يف الأ�رس وداخل �أقبية التحقيق قرابة �ستة �أ�شهر ،وعدة �أيام ،مت اقتيادي
بعدها من مدينة القد�س احلبيبة� ،إىل �صحراء فل�سطني الأ�سرية� ،إىل �صحراء النقب �إىل
�سجن بئر ال�سبع ،هناك و�صلت مودعا ً القد�س ،مودعا ً �إياها والكلمات تدور داخل
ر�أ�سي دون �أن تتمكن �شفاهي من النطق بها من �شدة التعب و�أمل اجل�سد؛ فقلت
مودعا ً مناجيا ً القد�س احلبيبة و�أ�سوارها ال�شاخمة وظالل �أ�سوارها� ،أ�سوار الرباق،
و�أ�سوار الأ�رس ،قلت:
يا ظالل القد�س قومي وناجني
�أ�سواركِ باتت �صامت ًة ال حتاكيني
غا�ضبة مني لأين من الأ�رسى امل�ساجني
�أم لأين مل �أ�ست�شهد مع املجاهدين
برب ِك كربي وعلى الأذان
وال تخ�ضعي للظلم واال�ستبداد والطغيان
حزينٌ �أنا الجلك يا جنَّة الر�ضوان
يا مدينة املحبة والعفو والغفران
�أل�ستِ درة تاج الأر�ض وفل�سطني
و�أ�سواركِ معراج �سيد املر�سلني
�أمل ي�ست�شهد لأجل ِك اال�ست�شهاديون
�أمل ي�ضحوا بالروح والغايل والثمني
فلماذا �أنت �صامت ٌة و�أنا حزين
فالن�رص قادم ب�إذن رب العاملني
فكل حمت ٍل لأر�ضك لرتابك فانٍ
و�سوف تبقني �شاخم ًة بال هوان
ف�أنتِ مدينة العدل وامليزان
و�أنت جوهرة الدر املكنون
فرتاب القد�س لي�س جمرد طني
132
فالقد�س مبارك ٌة وما حولها بالقر�آن
ف�أنتِ �أ ّول قبلة امل�ؤمنني امل�صلني
و�أنتِ يا قد�س ثاين احلرمني ال�رشيفني
يا ظالل القد�س يا جنة اجلنان
�أ�سمعيني �صوت ِك و�أ�سمعيني الأذان
فالن�رص قادم والعدو املحتل فانٍ
فقلوب رجال الق�سام مليئ ٌة بالإميان
يا ظالل القد�س �أ�سمعيني الأذان
يا ظالل القد�س �أ�سمعيني الأذان
ف�أنا الأ�سري ال�شهيد الولهان
ل�سماع �صوت ِك من خلف الق�ضبان
�أنا من ال يبيع وال يهادن
�أنا من بدين رب القد�س دان
�أنا من بدين رب القد�س دان
يا ظالل القد�س �أ�سمعيني الأذان
و�صلت �إىل �سجن بئر ال�سبع ومت و�ضعي بق�سم العزل االنفرادي ،كان ق�سما ً
يحتوي على ع�رش غرف ي�سكن بكل واحدة منها �أ�سري �أمني �أو �سجني مدين ،هناك
يف تلك الغرف املعزولة عن باقي �أق�سام ال�سجن ،كان موجودا ً �شيخي ووالدي الغايل
علي وعلى قلبي ال�شيخ جمال �أبو الهيجاء ،وكان ب�إحدى الغرف الأخرى يقبع
�صديقي العزيز �أ�سد مقاومي بيت حلم �أحمد املغربي وحيداً ،وعد ٌد �آخر من �ضمنهم
مروان الربغوثي �أمني �رس حركة فتح والذي كان قد مد يل يد العون عند خروجي من
معتقل جهاز الأمن الوقائي يف ال�ضفة الغربية ،مد يل يد العون رغم �صعوبة و�ضعه
لكونه كان مطاردا ً مطلوبا ً من قوات االحتالل.
بعد عدة �شهور �أم�ضيتها بني �أولئك الأ�رسى املقاومني الأبطال ،مت اقتيادي
للتحقيق مرة �أخرى ،هذه املرة مل يكن ال�سبب يدور حول ن�شاط كتائب الق�سام بل
133
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
يدور حول اختفاء عميلهم الذي �أر�شدهم �إيل� ،صاحب مكتب ت�أجري ال�شقق .مكثت
يف التحقيق �أ�سبوعا ً واحدا ً ال �أكرث وال �أقل ،ولكني مل �أعد للق�سم الذي كان به �أخوتي
املقاومون بل مت و�ضعي بق�سم خا�ص ال يحتوي �إال على غرفة واحدة فقط ال غري
ا�سمه ق�سم احلرا�سة املغلقة ،غرفة يوجد بداخلها عدة كامريات مراقبة ،تراقب كل
حركة �أقوم بها وكل نف�س �أتنف�سه .مكثت يف تلك الغرفة ملدة عام وثمانية �أ�شهر مل
�أ َر خاللها �أي خملوق �سوى �ضابط �صهيوين واحد وثالثة جنود كانوا هم املكلفني
بحرا�ستي ومتابعة �أموري.
كنت عندما اعتقلت قررت �أن �أقتل ذلك العميل ولكني كنت حمتارا ً بطريقة قتله، ُ
لكني خالل �أ�شهري ال�ست يف داخل �أقبية التحقيق قد تو�صلت لأف�ضل طريقة ممكنة
�أن �أعاقب ُه بها و�أجعل من موته عرب ًة ودر�سا ً لكل من ت�سول له نف�سه ب�أن يتعاون
مع العدو ويبيع �رشفه ودينه ،ذلك العميل كان يقيم بال�ضفة الغربية حتت �ستار
�أنه �صاحب ملحل ومكتب ت�أجري العقارات فهو كان من �أبناء منطقة �أخرى ومدينة
�أخرى لن �أذكرها� ،أما طريقة موته ف�سوف �أذكرها ،فبعد التحقيق معه مبجرد �أين
قمت ب�إر�سال ا�سمه لأخوتي رجال الق�سام ،ات�ضح �أن له دورا ً بت�صفية اثنني من
�أبناء �أحد التنظيمات الفل�سطينية مبدينة رام اهلل ،وما �إن �أكمل الأخوة حتقيقهم معه
حتى �أر�سلوا يل يف �سجني نتيجة ذلك التحقيق منتظرين ما �سوف �أ�صدره من حكم
على ذلك العميل الذي �سلمني لقوات العدو من جهة ،والذي �أدت عمالته ال�ست�شهاد
عدد من الثوار.
طلبت من الأخوة �أن يبحثوا عن �أحد مواقع البناء اجلديد التي تقرر �إن�شاء جممع
�أو بناية �ضخمة عليها .فوجدوا املكان ،وهناك مت دفن العميل حيا ً حتت اال�سمنت
الذي بنيت عليه �أ�سا�سات ذلك البناء .كم �أكره العمالء! وكم �أرغب بحرقهم جميعا ً
حتى �أطهر املجتمع الفل�سطيني منهم!
ما �إن مر العام والأ�شهر الثمانية حتى عدت �إىل نف�س الق�سم الذي كان به
ٌ
بع�ض منهم قد الأخوة املقاومون والثائرون ،لكني مل �أجد واحدا ً منهم فلقد كان
انتقل �إىل �أق�سام ال�سجن العادية ومت نقل الآخرين �إىل �أق�سام للعزل يف �سجون
�أخرى .يف ذلك الق�سم وجدت ت�سعة جمانني ،جمانني بكل ما حتمل الكلمة من
134
معنى ،كانوا طوال الليل ال يكفون عن ال�رصاخ عن طريق الأبواب وعن �سكب
املاء خارج غرفهم .مكثت على هذه احلال نحو عام �أو يزيد قليالً بعدها بد�أ عدد
�أولئك املجانني الت�سعة يتناق�ص �شيئا ً ف�شيئا ً ويحل حمل كل من يغادر منهم
واحد من الأخوة املقاومني .كان �أول الوا�صلني «�أحمد املغربي» �صديقي العزيز
وابن �أمري مدينة بيت حلم ،ثم «ح�سن �سالمة «ثم و�صل عدد �آخر من الأخوة
الأ�رسى الأمنيني.
طوال تلك الفرتة املمتدة من خروجي من التحقيق كنت �أعمل على عدة �أمور من
�أهمها تعلم و�إتقان اللغة العربية قراء ًة وكتابة .ولقد حققت هذا الهدف خالل ب�ضعة
�أ�شهر ،و�أ�صبحت �أقر�أ ال�صحف العربية والكتب العربية �أي�ضاً.
�أما الهدف الثاين فلقد كان �إعادة ما كنت قد خ�رسته من كتلة ع�ضلية �أثناء �أ�شهر
التحقيق ال�ست ب�سبب قلة احلركة وانعدامها وب�سبب القيود وال�سال�سل وب�سبب قلة
الطعام� ،إن كان ما يقدم ي�سمى طعاما ً �أ�صالً.
متكنت بحمد اهلل من ا�ستعادة �صحتي اجل�سدية �إىل ما كانت عليه �سابقا ً �إن ُ ولقد
مل يكن �أف�ضل .فلقد كنت �أقوم باجلري ملدة �ساعة كاملة كل يوم ؛ وهي ال�ساعة التي
ي�سمح يل باخلروج بها من الزنزانة .كنت �أمار�س متارين ال�ضغط ومتارين تقوية
ع�ضالت املعدة .وباخت�صا ٍر �شديد كنت �أقر�أ كل �أنواع الكتب التي ميكنني احل�صول
عليها ،وكنت �أحافظ على جدول تدريبي الريا�ضي دون �أن �أ�سمح لأي عامل خارجي
للت�أثري على ذلك اجلدول .وبعد ذلك بد�أت حماكمتي ومت احلكم علي ب�سبع و�ستني
م�ؤبدا ً وخم�سة �آالف ومائتي عام !!
يف ذلك اليوم الذي حكم علي به حكم على قلعة جدي ب�أن تفجر ،ففجروا القلعة
و�أ�صبحت كومة من ركام احلجارة املكومة ف�صعد �أبنائي �إىل �أعلى الكومة وغر�سوا
عليها علما ً فل�سطينيا ً وعلما ً �أخ�رض حم�ساويا ً كتب عليه :اهلل �أكرب.
قمت به طوال حياتي �سواء �أكانت تلك مل �أحزن يوما ً من الأيام على �أي �شيء ُ
احلياة قبل �أن �أدخل فل�سطني� ،أم بعد �أن دخلت فل�سطني �إىل قلب املقاومة �إىل قلب
العزة والكرامة.
خالل الأعوام التي قاربت الع�رشة التي مرت علي و�أنا معزول يف زنزانة العزل
135
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
االنفرادي مت اقتيادي للتحقيق عدة مرات كانت كلها عادية ،بال طعم �أو لون� ،أما
ما �ضايقني وجعلني �أ�ست�شيط غ�ضبا ً كان عندما عر�ض علي حمققي ال�شاباك
ال�صهيوين ت�سجيالً م�صورا ً العرتافاتٍ �أدىل بها مقاومان ق�ساميان كان باديا ً عليهما
التعذيب ال�شديد والإعياء ،مل يكن هذان املقاومان معتقالن عند �أجهزة املخابرات
ال�صهيونية ومل يعذبا هناك ،بل كانا قد خ�ضعا للتحقيق على يد قوات �أمن �سلطة
حممود عبا�س ،تلك ال�سلطة التي عرفت �أ�سفل درك من دروك الف�ساد والإف�ساد حتى
�أ�صبحت العمالة يف نظر قادة �أجهزتها الأمنية عقيدة زرعت وتغلغلت عميقا ً �أكرث من
ما يت�صور البع�ض.
ابنتي احلبيبة ومالكي احلار�س ،اعلم وليعلم كل من تقر�أ عيناه هذه الكلمات
والوم�ضات �أن احلياة واحدة و�أن الرب واحد ،ف�إما عي�شة تتوجها الكرامة والعزة
و�إما ِميته يق�صد بها وجه اهلل ع َّز وج َّل لرتتقي بعدها الروح �صاعد ًة هلل رب العزة.
�إنّ فل�سطني ب�أق�صاها وقد�سها ت�ستحق كل ما قدمت لها ولأجلها وي�شهد اهلل� ،إذا ما
ظل بج�سدي نف�س ،فلن �أبخل به على وطني ال�سليب ،فلي�س بعد القدو�س �إال القد�س
ولي�س بعد القد�س �إال الق�سام.
الق�سام رجال عملية الوهم املتبدد ،ذلك الوهم وذلك احللم الذي حلمت �أن
�أ�صحو منه حمررا ً حراً ،حلمت �أن �أعود �إىل كومة حجارة قلعتي �إىل �أطفايل �إىل
زوجتي و�أبي و�أمي �إىل كل من �أحبوين من �أخوة و�أخوات ،الوهم املتبدد الذي
جعلني �أعي�ش �أمالً وحلماً ،ا�ستيقظت من احللم وعاد من عاد �إىل �أهله وذويه من
الأ�رسى املحررين ،عادوا �إىل غزة احل�صار واالنت�صار عادوا �إىل القد�س و�إىل
ال�ضفة ،وغادر من غادر مبعدا ً �إىل بالد الغربة� ،أما �أنا عبد اهلل الربغوثي� ،أما
�أنا ح�سن �سالمة �أما �أنا ابراهيم حامد� ،أما �أنا جمال �أبو الهيجاء� ،أما �أنا عبا�س
ال�سيد� ،أما �أنا حممود عي�سى� ،أما �أنا �أحمد املغربي� ،أما �أنا بالل الربغوثي� ،أما
�أنا وائل العبا�سي �أما �أنا فبقيت مقيدا ً ملقى بزنزانة العزل االنفرادي حتى يومنا
هذا ،فذهب الوهم املتبدد �أدراج الرياح وبقيت بل بقينا حتت جربوت ال�سجن
وال�سجان� ،أمل يعد هناك معت�صم نع�صتم به بعد اهلل لعله يفك �أ�رسنا ويك�رس
قيدنا� ،أم عدنا نحيا يف دنيا الوهم ،والأوهام املتبددة؟!
136
�أكتب يا قلمي من داخل �أ�رسك
�أكتب من داخل عزلك ف�أنت قل ٌم ح ٌر بي ِد �أ�س ٍ
ري حرٍ� ،أكتب باهلل عليك �أكتب ،ف�أنا
�أ�شعر بال�ضيق� ،أكتب يا قلمي� ،أكتب �أ�ستحلفك باهلل �أن تكتب:
�أكتب بحربك عني وعرب
فزنزانتي خر�ساء �صامت ٌة كالقرب
�أكتب وال تخف ف�أنت حر
ري �أجترع املر
�أما �أنا ف�أ�س ٌ
ا�صنع من حربك كلمات احلرية الن�رص
لتحلق عاليا ً ب�سماء احلرية وتطري
ا�صنع الق�صة واكتب عني اخلواطر
وارو حكايات كل ثائر
فالقيد يكبل مع�صم الأ�سري و�أنا �أ�سري
�أما مع�صمك فال يكبله �إال ال�ضمري
فخط بهذا الدم االنت�صار
واجعله �ساطعا ً بال�سماء كالبدر
�أمنتك باهلل بالكتابة �أن ت�ستمر
و�أن تقول وجتول باملعركة وال تفر
�أكتب بحربك عني وعرب
فزنزانتي خر�ساء �صامت ٌة كالقرب
ف�أنت قلم حر ال ي�شرتى بدينار
وال يباع ب�سوق ال�صهاينة والكفار
فحرب حريتك عليهم خطر
وحريتك لنا لفل�سطني هي الظفر
فاظفر للحق والدين وخاطر
واحرقهم بحرب دمك امل�ستعمر
وبالعميل �أحلق الذل والعار
137
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
�أكتب يا قلمي ،اكتب وال تتوقف� ،أكتب �أنت حر� ،أنت عبد اهلل غالب الربغوثي،
زوج فائدة و�أبو تاال و�أبو �أ�سامة و�أبو �صفاء و�أخ رائف و�أخ حممد ورمي وفائدة وابن
غالب وابن �صفاء وابن الق�سام� ،أكتب يا قلمي وعرب ف�أنا ابن الإ�سالم والق�سام.
�أوراق كتابي هذا الذي كتبت حتت عنوان «مهند�س على الطريق» �أمري الظل...
قد �شارفت على االنتهاء ،بل انتهيت وحان وقت طي �صفحات الكتاب و�صفحات
اجلراح� .أما ق�صتي فال تنتهي ف�إن للحكاية بقية باقية ،و�أن ما بقي �أكرث و�أكرب بل
�أعمق بكثري مما كتب وروي �ضمن �صفحات هذا الكتاب ،كتاب مهند�س على الطريق
«�أمري الظل».
138
ُكتب هذا الكتاب يف زنزانة العزل االنفرادي بداخل معتقل رامون يف اجلنوب
الفل�سطيني ،وقريبا ً من حدود م�رص العربية م�رص الثورة والثوارُ ،كتب بعد الربيع
العربي ،الربيع الذي �آمل �أن يتحول لعا�صفة على ال�صهاينة.
139
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
«�أحالم التميمي»
140
كاف منحرجة له �صفات �شبه كثرية ب�أحالم ..فكالهما عاد من الغربة ،وعلى قد ٍر ٍ
الذكاء واحلما�س وامل�شاعر الوطنية والدينية ،وكانت لهما �أحال ٌم كبرية يف احلياة
ورحلة مع النجاح.
و ّ
مت الإيعاز لدغل�س بتجنيد �أحالم ،التي �أ�صبحت �أول امر�أة يف كتائب ال�شهيد عز
�سباق مع الوقت للم�شاركةٍ الدين الق�سام .وبد�أت مرحل ًة جديدة من العمل ،وكانت يف
بتنفيذ عمليات يف القد�س الغربية.
ن�شاط يوم 27يوليو 2001عندما ٍ وبعد خ�ضوعها لعملية ت�أهيل ،ن ّفذت �أول
بد�أت بالتج ّول يف �شوارع القد�س الغربية .وكانت مه ّمتها اختيار وحتديد �أماكن
يخطط لتنفيذها انتقاما ً لك ّل
ّ لتنفيذ عمليات ا�ست�شهادية كان عبد اهلل الربغوثي
عملية اغتيال.
القب�ض عليها
قا�س ،وحكمت حمكمة لتعذيب ٍ
ٍ عندما �أُلقي القب�ض عليها بعد ذلك تع ّر�ضت
�صهيونية ع�سكرية عليها بال�سجن امل�ؤ ّبد 16مرة� ،أي 1584عاماً ،مع تو�صية بعدم
الإفراج عنها يف �أية عملية تبادل حمتملة للأ�رسى.
141
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
وجهتها للق�ضاة قالت فيها �« :أنا ال �أعرتفواجهت �أحالم احلكم بابت�سامة وكلمة ّ
ب�رشعية هذه املحكمة �أو بكم ،وال �أريد �أن �أع ّرفكم على نف�سي با�سمي �أو عمري �أو
حلمي� ..أنا �أع ّرفكم على نف�سي ب�أفعايل التي تعرفونها جيداً .يف هذه املحكمة �أراكم
غا�ضبني ،وهو نف�س الغ�ضب الذي يف قلبي وقلوب ال�شعب الفل�سطيني وهو �أكرب من
قلب �أو �إح�سا�س ،فمن �إذا ً عنده قلب� ،أنتم؟ �أين
لدي ٌ
غ�ضبكم ..و�إذا قلتم �إنه ال يوجد ّ
كانت قلوبكم عندما قتلتم الأطفال يف جنني ورفح ورام اهلل واحلرم الإبراهيمي� ،أين
الإح�سا�س؟؟.
مت الإفراج عنها يوم الثالثاء يف 2011/10/18يف عملية تبادل ،ومت �إبعادها
�إىل الأردن.
142
«املهند�س حممود �شريتح»
امليالد والن�ش�أة
ولد الأ�سري الق�سامي حممود حماد حممود �رشيتح بتاريخ
1977/3/13يف احلارة ال�رشقية من بلدة يطا جنوب حمافظة
اخلليل ،ودر�س املرحلة االبتدائية يف مدر�سة املثنى الأ�سا�سية،
واملرحلة الإعدادية والثانوية يف مدر�سة ذكور يطا الثانوية،
وجنح الأ�سري حممود بتفوق يف امتحان �شهادة الدرا�سة الثانوية العامة عام 1995م،
فالتحق بكلية الهند�سة يف جامعة بريزيت لدرا�سة الهند�سة الكهربائية ،ثم تخرج
منها بعد رحلة اعتقاالت ون�شاط طالبي �إ�سالمي مميز ولكنه مل ي�شارك يف حفل
التخرج ب�سبب اعتقاله.
ن�شاطه الطالبي
عرف عن الأ�سري ن�شاطه املتميز �ضمن الكتلة الإ�سالمية يف بريزيت ،حيث �أ�صبح �أمريا
للكتلة بني عامي 1997و ،1999و�شغل من�صب رئي�س جمل�س الطلبة يف اجلامعة بني
عامي .2001-1999وخالل فرتة درا�سته يف اجلامعة اعتقل حممود لأول مرة عام
،1996وحكم عليه بال�سجن ملدة ثمانية �أ�شهر لن�شاطه يف الكتلة الإ�سالمية وجمل�س
الطلبة .كما اعتقل لدى ال�سلطة الفل�سطينية يف �أريحا عام 1996م ملدة 17يوما ،بعد
زيارة وزير اخلارجية الفرن�سي جو�سبان للجامعة وطرده من قبل الطلبة.
وخالل درا�سته متيز الأ�سري بحر�صه على م�ساعدة الطلبة املحتاجني ،واحليوية
والن�شاط ،كما كان حمبوبا من قبل الطلبة حتى و�صفه البع�ض ب�أنه �شمعة؛ يحرتق
لي�سعد غريه من الطلبة من خالل تعبه وعمله ال�شاق يف توفري ال�سكن وامل�ساعدة للطلبة.
143
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
�أخالقه و�صفاته
عرف عن الأ�سري حممود �أنه �شخ�ص كتوم جدا ويحب عمل املعروف مع الآخرين
واحلر�ص عليهم .و�سبق له قبل دخوله اجلامعة �أن التحق بدورات حتفيظ القر�آن
الكرمي وهو يف ال�صف الأول الإعدادي ،وذلك يف م�سجد ال�سالم الذي حر�ص على �أداء
الفرائ�ض فيه وامل�شاركة يف فعالياته ،كما حر�ص وال زال على �صيام يومي االثنني
واخلمي�س ،وح�صل نتيجة تفوقه يف دورات حتفيظ القر�آن على عمرة حيث �أداها قبل
مرحلة اجلامعة.
خلوة ال�سجن
انهى داخل ال�سجن حفظ �سبعة ع�رش جزءا من القر�آن الكرمي ،كما يعرف عنه
حر�صه على التثقيف الذاتي ،حيث يعترب �شاعرا مميزا وحاز �أيام الدرا�سة اجلامعية
على جائزة الق�صيدة الأوىل .وداخل ال�سجن يعرف عن املجاهد حممود احليوية
والن�شاط وكرثة خمالفته للتعليمات ال�صهيونية ،وهو ما كان �سببا يف عزله يف كثري
من املرات.
�ضريبة املقاومة
تعر�ضت عائلة الأ�سري يف فرتة مطاردته للكثري من املعاناة ،فقد اقتحم البيت
عدة مرات واعتقل �أ�شقا�ؤه اخلم�سة عدة مرات ،كما تعر�ض البيت للق�صف يف �إحدى
احلمالت العتقاله من منزله.
رحلة املعاناة
اعتقل الأ�سري حممود �رشيتح يف مدينة البرية بتاريخ 2005/10/17بوا�سطة �أفراد
من القوات اخلا�صة اال�رسائيلية امل�ستعربة ،وذلك يف م�سجد �سيد قطب يف قلب املدينة،
ثم نقل �إىل �سجن امل�سكوبية ملدة �شهرين ،وخ�ضع لتحقيق قا�س وعزل انفرادي
ا�ستمر خم�سني يوما .ثم نقل �إىل �سجن هدارمي ثم �سجن �أي�شل يف بئر ال�سبع ،ومل
ي�سمح لأقاربه والوالديه بزيارته �سوى مرات قليلة.
144
التهمة :مقاومة املحتل
وجه االحتالل للأ�سري املجاهد العديد من التهم املتعلقة مبقاومة االحتالل وامل�س�ؤولية
عن �إعداد عمليات ا�ست�شهادية .فقد اتهم باالنتماء ملنظمة غري م�رشوعة هي كتائب
ال�شهيد عز الدين الق�سام ،وبامل�س�ؤولية عن جتهيز اال�ست�شهادي الذي نفذ عملية
�شارع �ألنبي يف تل �أبيب بتاريخ ،2002/9/19والتي �أدت �إىل م�رصع �ستة �صهاينة
و�إ�صابة الع�رشات بجروح .كما اتهم ب�إر�سال ا�ست�شهادي لتنفيذ عملية يف مدخل
مقهى منتزه �شاطئ البحر يف تل �أبيب ،لكنه اعتقل قبل تنفيذ العملية .ووجهت له
�أي�ضا تهمة ت�شكيل خاليا ع�سكرية ،والتدريب على ال�سالح وجتهيز عبوات نا�سفة.
عزمية ال تنك�سر
وبعد �سل�سلة من اجلل�سات ،حكمت املحكمة الع�سكرية اال�رسائيلية على الأ�سري
بال�سجن امل�ؤبد �سبع مرات ،لكن الأ�سري ا�ستقبل احلكم مبعنويات عالية ..وبعد
�صدور النطق باحلكم وقف مرفوع الر�أ�س وقال للق�ضاة �إنه مل يقف احرتاما لهم
�أوملحكمة االحتالل؛ م�ؤكدا �أن الذي يجب �أن يحاكم هو من قتل الطفلة �إميان حجو
والطفل حممد الدرة ..و�أ�ضاف� :أنا مل �أقاتل مع �أحد ،بل قاتلت مع اهلل ..وهو الذي
�سيفرج عني ولن يرتكني .و�أعرب الأ�سري عن �أ�سفه لعدم وقوع املزيد من القتلى يف
العمليات الفدائية التي اتهم بامل�س�ؤولية عنها.
145
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
146
�أما عن جهاده وت�ضحياته فلقد كان ال�شيخ م�سئوال عن العمل الع�سكري داخل
املخيم �أثناء اجتياحه عام 2002و�شارك يف توجيه عمليات جهادية نفذت داخل
الأرا�ضي املحتلة عام 48من بينها عملية �صفد التي قتل فيها �سبعة �صهاينة،
و�أ�صيب منهم الع�رشات.
و�ضع املحتل ا�سمه �ضمن قائمة املطلوبني الذين طالبت دولة املحتل باعتقالهم �أو
قتلهم والتي �سلمها املندوب الأمريكي �إىل ال�سلطة الفل�سطينية يف انتفا�ضة الأق�صى.
تعر�ض بيته للحرق ب�شكل كامل خالل انتفا�ضة الأق�صى
مل تتوقف عملية امل�شاركة اجلهادية على ال�شيخ فح�سب بل كان لأبنائه ن�صيب
من االعتقال وكذلك زوجته وابنته.
147
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
148
وبعد اعتقاله ب�أيام ،قامت القوات ال�صهيونية باقتحام منزل ذويه ،حيث وجدوا
كمية من الأ�سلحة و�ساعة توقيت ،كانت خمب�أة يف مكان خمفي داخل اخلزانة التي
�صممها حالوة بحكم مهارته ب�صناعة الأثاث املنزيل .وقد خ�ضع بعدها لتحقيق
ع�سكري قا�س ا�ستمر لأكرث من ثالثة �أ�شهر ،ا�رضب خاللها ع�رشة �أيام عن الطعام
ل�سوء املعاملة التي كان يتلقاها ،ل ٍيُحكم بال�سجن ملدة � 30شهراً ،ق�ضاها يف �سجون:
“نفحة” و“ع�سقالن” و“اجللمة” و“�شطة”.
هناك التقى بعدد من قادة العمل يف احلركة الإ�سالمية ،والذين �أ�صبح جزء منهم
فيما بعد من قادة العمل الع�سكري ومنهم“ :ال�شيخ “يو�سف ال�رسكجي” ،و“�صالح
دروزة” ،و“عمار الزبن” ،و“معاذ �سعيد بالل” وبعد �أ�شهر من خروجه من ال�سجن،
تزوج من ابنة عمته وكان ذلك يف ،2000/7/2حيث رزق منها ببكر �أبنائه “عدنان”،
ومع هذا بقي حالوة نا�شطا ً يف عمله يف �صفوف الق�سام ،ويف منجرة ذويه يبدع يف
عمله يف هذه وتلك .وبقيت ال�رسية تخيم على عمله يف الق�سام� ،إال �أن ق�ضاء اهلل النافذ
يف �أمره كان له طريق �آخر ،ليُك�شف �أمر ان�ضمامه لكتائب الق�سام ،بعد �أن �أ�صيب
بحادث �إثر انفجار عبوة بني يديه �أثناء ت�صنيعها يف ،2001/5/28حيث مت نقله �إىل
م�ست�شفى “رفيديا” .هناك مكث حتت العناية الطبية لأكرث من 50يوماً ،تعر�ض
خاللها ملحاولة اغتيال� ،إال �أن جنود الق�سام الذي تناوبوا على حرا�سته ،وبعد عناية
اهلل متكنوا من �إحباط املحاولة.
ومرت �أ�شهر ممتلئة باجلهاد واملقاومة والإثخان بالقوات ال�صهيونية ،على
يدي املهند�س الثالث الق�سامي القائد «امين حالوة» ،وم�ساعده املجاهد “�سليم
حجة”� ،إال �أن �سنني العطاء والت�ضحية واجلهاد التي قدمها املجاهد الق�سامي
حالوة ،تو�شك على االنتهاء .ففي 2001/10/22وعند ال�ساعة الثامنة والن�صف
�صباحاً ،كان املوعد مع حور اجلنة التي كانت تتحرق �شوقا لفار�سها اجلديد،
حيث ركب املجاهدان الق�ساميان «امين حالوة» واملجاهد «علي عالن» -القادم من
بيت حلم ليتعلم ت�صنيع العبوات على يدي مهند�سنا -ركبا �سيارتهما من نوع
“�سوبارو” بي�ضاء اللون ،يريدان احد خمتربات الق�سام ،ولكن اهلل كان يريد لهما
مكانا ً �آخر.
149
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
فما �إن و�صلت ال�سيارة التي كانت تقلهم �إىل م�ست�شفى نابل�س التخ�ص�صي
قرب جامعة النجاح الوطنية ،حتى �سمع دوي هائل تناثر على �إثره حطام ال�سيارة
و�أ�شالء ال�شهيد املهند�س الق�سامي«امين حالوة» .وملا تدافع املواطنون الذي �سمعوا
الدوي �إىل مكان ال�سيارة ،وجدوا املجاهد الق�سامي وقد غرق يف دمائه ،يف حني مت نقل
رفيقه املجاهد “ علي عالن” �إىل امل�ست�شفى العربي التخ�ص�صي ،ليتلقى العالج من
جروحه املتو�سطة التي �أ�صيب بها ،ولقد �أكد الأطباء �أن حالوة ا�ست�شهد نتيجة تفجر
�رشايني ج�سده ،ليتم ت�شييع جثمانه يف م�سرية حا�شدة �إىل املقربة ال�رشقية يف املدينة،
و�سط هتافات املواطنني الداعية كتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام باالنتقام لل�شهيد.
150
امي «�سيد ال�شيخ قا�سم»
الق�س ّ
ّ ال�شهيد
ّ
ف�ضل املوت يف �سبيل اهلل على اال�ست�سالم والأ�سر
151
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
اليوم ي�سجن على �أيدي �إخوانه الفل�سطينيني وهو ال يقوى على حت ّمل ذلك ،لأ نه
ال ي�ستطيع �أن يتخيّل �أن �رشيكه يف الن�ضال يف االنتفا�ضة الأوىل عام � 1987أ�صبح
�سجانه وحم ّققه اليوم.ّ
ولكن من حما�سن ذلك «ال�سجن اللعني» يقول �شقيق ال�شهيد� ،أنه ع ّرفه على
�أ�صدقائه املنا�ضلني وعلى ر�أ�سهم املنا�ضل ال�شيخ �صالح تالحمة الذي ا�ست�شهد معه.
كان التقاء �سيد بال�شيخ �صالح مبثابة حت ّول يف حياته ،حيث وا�صل املنا�ضالن
رصا على املقاومة ،ومل تنقطع العالقة بينهما
طريق الن�ضال من داخل ال�سجن و�أ� ّ
على ما يبدو �إىل �أن ا�ست�شهدا معا ً وهما يقاومان.
ن�صيب العائلة
جنود االحتالل مل ين�سوا عائلته فق ّرروا �أن يكون لها ن�صيب من التنكيل والتعذيب
والأ�رس ..فهي التي خ ّرجت املنا�ضل �سيّد ،حيث درج جنود االحتالل على احل�ضور
�إىل منزل املطارد �سيد ،والقيام ب�إجراء حتقيق ميداين مع كافة �أفراد �أ�رسته مبن
فيه �شقيقاته و�أ�شقائه .و�أقدموا يف الفرتة الأخرية على اعتقال جميع �أ�شقائه و�أبناء
152
عمه ،وال يزال عد ٌد منهم -حتى تاريخ طباعة الكتاب -داخل ال�سجون ال�صهيونية،
ي�سجنون �أغلبهم �إداريا ً لي�س ٍ
لذنب اقرتفوه �إال لأنهم من �أقارب املنا�ضل �سيّد.
153
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
ولد بالل يعقوب الربغوتي عام 76يف مدينة الكويت وهو من
�أ�رسة فل�سطينية مغرتبة عادت �إىل وطنها عام ،89حيث كانت
الأرا�ضي الفل�سطينية م�شتعلة يف وجه االحتالل الإ�رسائيلي
والتي باتت تعرف باالنتفا�ضة الأوىل ،لين�ضم �إىل �صفوف
حركة املقاومة الإ�سالمية – حما�س.
�شارك بالل يف كل فعاليات االنتفا�ضة ،وكان من �أبرز ن�شطاء حما�س يف بيت
رميا ،وتعر�ض �إىل �إ�صابة خطرية كادت �أن تودي بحياته ،حيث �أ�صيب بر�صا�صتني
يف الكلية والكبد واملعدة.
يتحدث بالل عن هذه التجربة ب�شجون فيقول “ :دعت حما�س �إىل يوم ت�صعيد
�ضد جنود االحتالل يف ذكرى �إحراق امل�سجد الأق�صى املبارك ،وكنت من بني
ال�شباب الذين �شاركوا يف املواجهات برام اهلل .ويف ذلك اليوم اعتقلتني قوة من
امل�ستعربني� ،إال �أنني متكنت من الإفالت من بني �أيديهم ،ف�أطلقوا النار علي
ف�أ�صابوين يف البطن بر�صا�صتني ،وخ�ضعت لعملية ا�ستئ�صال للكلية ،ومكثت يف
امل�ست�شفى مدة �أربعني يوما ”.
وبعد خروجه من م�ست�شفى رام اهلل ب�أ�سبوعني مت اعتقاله من منزله يف بيت رميا،
واقتياده للتحقيق يف معتقل الفارعة ،واحتجز هناك ملدة 30يوما �إىل �أن مت الإفراج عنه.
وبالرغم من هذه احلادثة امل�ؤملة التي عا�شها ال�شاب املدلل بني �أ�رسته
والتي حاولت بكل الو�سائل والطرق �أن تقنعه بال�سفر �إىل اخلارج� ،إال �أنه �أ�رص
على البقاء يف فل�سطني ،والتحق بجامعة بريزيت -ق�سم الرتبية وعلم النف�س ،و�أقام
فيها عالقات �صداقة قوية و�شبكة عالقات وا�سعة جدا� ،ساعدته ب�شكل �أ�سا�سي يف
عمله القادم باجلهاز الع�سكري حلما�س عام .1996
154
�شارك بالل يف �أول م�سرية �شهدتها ا لأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة
احتجاجا على زيارة �أرييل �شارون �إىل امل�سجد ا لأق�صى وتدني�سه ل�ساحاته
ال�رشيفة ،حيث نظم جمل�س الطلبة يف اجلامعة ،الذي كانت ت�سيطر عليه
الكتلة ا لإ�سالمية املح�سوبة على حما�س ،م�سرية حا�شدة باجتاه مدينة
رام اهلل.
وبدون كلل �أو ملل ،وا�صل بالل وب�شكل يومي امل�شاركة بكل فعاليات املواجهة
مع ال�صهاينة ملدة �شهرين كاملني� ،إىل �أن انتقل �إىل العمل الع�سكري يف حما�س ,حيث
عمل خالل الأ�شهر الأوىل الن�ضمامه ،كحلقة و�صل بني جمموعات العمل الع�سكري
حلما�س يف نابل�س ورام اهلل.
وبناء على طلب القائد �أمين حالوة �شكل الربغوتي خلية ع�سكرية يف رام اهلل،
كان من بني �أع�ضائها مهند�سا فذا ،حيث در�س الهند�سة يف جامعات �إحدى الدول
اال�شرتاكية ،وما لبث �أن حتول �إىل نقطة االرتكاز يف كتائب عز الدين الق�سام مبنطقة
الو�سط ،و�أحد �أبرز خرباء ت�صنيع املتفجرات .وقد ف�شلت قوات االحتالل يف
اعتقاله �أو اغتياله عدة مرات.
جتنيد ا�ست�شهاديني
وما لبث املهند�س �أمين حالوة �أن طلب من الربغوتي جتنيد ا�ست�شهادي
من منطقة رام اهلل لعملية فدائية بالقد�س املحتلة ،فتوجه بالل �إىل �صديقه
�ضياء الطويل -من مدينة البرية ويدر�س الهند�سة يف جامعة بريزيت -
وعر�ض عليه الأمر ،فوافق وبدون تردد.
وبعد �أ�سبوعني من جتنيد �ضياء �صدرت التعليمات �إىل بالل بنقل
اال�ست�شهادي والتوجه �إىل نابل�س ،وهناك مت ت�سجيل و�صية �ضياء عرب �رشيط
فيديو وجتهيز املتفجرات ،ونقل الفدائي �إىل منطقة التلة الفرن�سية بالقد�س
املحتلة لتنفيذ العملية.
وبناء على طلب من املهند�س حالوه انتقل بالل �إىل ما ي�سمى (باخلاليا النائمة )،
وطلِب منه عدم القيام ب�أي ن�شاط ع�سكري حتت �أي ظرف. ُ
155
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
156
الق�سامي «حممد وائل دغل�س»
ّ الأ�سري
157
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
ويف بداية �شهر 8من نف�س العام تل ّقى املهند�س من حالوة عرب ر�سولٍ
جيتارة كبرية احلجم ،قام املهند�س بتفخيخها وو�ضعها داخل حقيبة،
وو�ضع بداخلها الرباغي لزيادة ا لإ�صابات ،ثم ربطها بجهاز الت�شغيل
اال�ست�شهادي من تفجريها دون
ّ و �أخرج املفتاح من الغيتارة حتى يتم ّكن
�إخراج الغيتارة من احلقيبة.
وبعد عدة �أيام و�صل املن ّفذ وهو اال�ست�شهادي عز الدين امل�رصي من بلدة عقابا
ق�ضاء جنني ،حيث التقاه بالل مع دغل�س يف رام اهلل ،والحقا ً �سلّم املهند�س الغيتارة
لبالل وطلب ت�سليمها للمن ّفذ.
وح�سب �أوامر حممد دغل�س خرجت املنا�ضلة �أحالم التميمي يف جول ٍة يف القد�س
املحتلة لتحديد الهدف .ويف اليوم التايل قام الق�سامي دغل�س برتتيب لقا ٍء لع ّز الدين مع
التميمي ،ثم خرجا معا ً لإجراء جتربة لو�صول عز الدين و�أحالم �إىل مكان العملية� ،إال
�أنهم وب�سبب كثافة ال�رشطة يف املنطقة ،عادوا و مل ي�ستطيعوا بلوغ هدفهما ،فكرروا
رص ع ّز الدين �أن ي�صطحب معه املحاولة ملرة ثانية لكن دون جدوى .يف املرة الثالثة �أ� ّ
ويفجر الغيتارة ،فيقتل � 20صهيونيا ً ّ العبوة لتنفيذ العملية ،ليكرمه اهلل بال�شهادة
ويجرح �أكرث من � 100آخرين.
يف ال�سجن
غياب عن بلدته ،عاد حممد وائل دغل�س �إىل بلدته «برقة» يف ٍ بعد طول
زيار ٍة للعائلة ،وكان ذلك يف .2001/9/4كانت ال�ساعات ا لأوىل لتلك الليلة
هادئ ًة � ،إال �أ ّنه ويف متام ال�ساعة الثانية ليالً ،كانت قوة كبرية من القوات
اخلا�صة ال�صهيونية امل�س ّماة «دفدفان» تت�سلّل ليالً �إىل البلدة ،وحتا�رص
منزل دغل�س.
ويف حماول ٍة لإجبار �أحد �أفراد الأ�رسة على اخلروج من املنزل ال�ستخدامه
ب�رشي ،بد �أت القوات ال�صهيونية ب�إلقاء احلجارة على �شبابيكه .وبعد ّ كدرع
ٍ
خروج �أحد �أفراد الأ�رسة طلبوا منه �إخراج البقيّة .وملا ت�أ ّكدوا من هويات �أفراد
الأ�رسة قامت جمموع ٌة منهم باالنق�ضا�ض على حممد ورميه على ا لأر�ض ثم
158
�أح�رضوا له جمموع ًة من الكالب البولي�سية لت�ص َعد على �صدره يف حماولة
تفتي�ش دقيقة اقتادت القوات ال�صهيونية
ٍ لإلقاء اخلوف يف قلبه .وبعد عمليّة
ع�سكري �إىل مركز حتقيق «بيت �أيل».
ّ جيب
ٍ املجاهد حممد دغل�س مكبّالً يف
159
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
160
�صهيونيا ً خالل ال�سنوات ال�سابقة ..ومن بينها عملية مقهى “مومنت” ،وعملية
اجلامعة العربية ،وعملية “ري�شون ليت�سيون” ،وعملية القطارات وغريها الكثري.
وقد كثّفت قوات االحتالل ال�صهيونية من مطالبتها ب�إبراهيم حامد ومطاردته
وبحثها عنه ،بعد اعتقال خلية �سلوان ،وانتزاع اعرتافاتٍ �ض ّده عن طريق تعذيب
من بع�ض �أع�ضاء اخللية .وقد و�ضعته �أجهزة الأمن ال�صهيونية يف �أعقاب العمليتني
اال�ست�شهاديتني يف “الرملة” و“القد�س” املحتلّتينْ ،يف العا�رش من �شهر �أيلول/
�سبتمرب ،2003على ر�أ�س قائمة املطلوبني للت�صفية �أو االعتقال .وذكرت م�صادر
عربية يف حينه �أنّ جهاز “ال�شني بيت” ال�صهيوين يعتقد �أنّ “حامد” يقف وراء
العمليّتينْ الفدائيتني اللتني ت�سبّبتا يف م�رصع 16م�ستوطناً ،و�إ�صابة �أكرث من 80
�آخرين بجروح .وو�صفه اجلهاز ب�أ ّنه “يقود عدة خاليا تابعة لكتائب عز الدين
ؤول عن عد ٍد من الهجمات التي ا�ستهدفت الق�سام و�سط ال�ضفة الغربية ،و�أ ّنه م�س� ٌ
اجلنود وامل�ستوطنني ال�صهاينة”.
امي �إبراهيم حامد يف �إحدى العمليات ال�صهيونيّة الغادرةالق�س ّ
مت اختطاف القائد ّ ّ
على رام اهلل ،وكان القائد قد م َّر بتجربة اعتقالٍ لع ّدة �سنواتٍ يف �سجون االحتالل
ال�صهيوين .كما اعتُ ِقل لدى ال�سلطة الفل�سطينية عدة مرات ،ومت ّكن من الفرار بعد
الوقائي يف مدينة رام اهلل ،الذي كان تز ّعمه �آنذاك جربيل الرجوب.
ّ اقتحام مق ّر الأمن
ولكن بعد ثماين �سنوات من املطاردة امل�ضنية ،مت ّكنت قوات العدو ال�صهيوين
�صباح يوم الثالثاء 2006/5/23م ،من اعتقال املجاهد ال�شيخ �إبراهيم حامد قائد
كتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام يف ال�ضفة الغربية و�أحد كبار املطلوبني ..وكانت
قوات االحتالل ال�صهيوين قد اقتحمت يومها منطقة “البالوع” يف رام اهلل حوايل
اخلام�سة فجراً ،وحا�رصت منزالً مك ّونا ً من ثالثة طوابق ،يقع مقابل منزل رئي�س
الق�سامي يف
ّ حت�صن القائد
ّ ال�سلطة الفل�سطينية حممود عبا�س “�أبو مازن” ،حيث
حمل لبيع املرطبات كان يقع �أ�سفل البناية .عندها �أجربت قوات االحتالل كافة
املواطنني الذين يقطنون البناية على �إخالئها؛ وهم ثالث عائالت مبا فيهم الن�سوة
والأطفال ،واخلروج �إىل العراء ملدة � 3ساعات تقريباً ،قبل � ْأن تبد�أ بتفجري نوافذ
البناية و�أبوابها.
161
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
ثم �أطلقت وابالً كثيفا ً من قنابل الـ”�أنريجا” احلارقة على املنزل املذكور ،قبل
� ْأن تتم ّكن يف الثامنة �صباحا ً من اعتقال القائد الق�سامي �إبراهيم حامد دون حدوث
م�سلح بني الطرفني حيث كانت العملية مباغتة.واجلدير بالذكر �أن حامد هوٍ ا�شتباك
من �أبرز املطلوبني جلهاز املخابرات ال�صهيوين منذ عدة �أعوام.
162
الأ�سري املحرر «وليد اجنا�ص»
من �سكان بلدة خربة بني حارث غرب رام اهلل يف ال�ضفة الغربية.
در�س البكالوريو�س يف جامعة بريزيت يف رام اهلل.
عمل يف �أخطر خلية ق�سامية �أن�شئت يف ال�ضفة الغربية.
كما عمل مع رفيق دربه الأ�سري القائد البطل “حممد عرمان”
والذي رف�ض الإحتالل الإفراج عنه حتى تاريخه وننتظره يف
�صفقة قريبة قادمة ان �شاء اهلل ..
حكم عليه بال�سجن مدى احلياة 36مرة بالإ�ضافة �إىل � 200سنة لإدانته يف حميع
الهجمات التي نفذتها هذه اخللية ..
متت �إدانته بال�ضلوع يف هجوم على مقهى مومنت يف القد�س عام � 2002أ�سفر
عن مقتل 11ا�رسائيليا ،ويف هجوم اجلامعة العربية ،ويف كثري من الهجمات القوية
واملوجعة للكيان الغا�صب ..
163
ري ال ِّظل ِ
مهند�س على الطريق ِ� ...أم ُ
ٌ
«جامعة بريزيت»
164
ويف حزيران ،1972تقرر اال�ستمرار يف تطوير الكلية بالتو�سع يف الدرا�سة
اجلامعية لت�صل �إىل �أربع �سنوات ،ت�ؤدي �إىل درجة البكالوريو�س يف الآداب والعلوم.
كما تقرر بناء حرم جامعي جديد على م�شارف بلدة بريزيت .وملواكبة برنامج
النمو والتطوير تقرر و�ضع امل�ؤ�س�سة حتت �إ�رشاف جمل�س �أمناء ي�ضم عددا ً من
املواطنني املهتمني ب�ش�ؤون التعليم ،من اجل �إ�رشاك املجتمع يف حتمل �أعباء امل�ؤ�س�سة
وم�س�ؤولياتها و�ضمان ا�ستمرارها يف ت�أدية ر�سالتها .وعلى �أثر ذلك مت ت�سجيل
املجل�س قانونياً ،وقامت عائلة امل�ؤ�س�سني بنقل ملكية الأرا�ضي التي ميلكونها يف
موقع احلرم اجلديد �إىل جمل�س الأمناء ,وكان توفيق �أبو ال�سعود ( )1981-1902
�أول رئي�س ملجل�س الأمناء.
�سار برنامج التطوير ح�سب اخلطة املر�سومة له ف�أ�ضيف ال�صف اجلامعي
الثالث يف العام الدرا�سي ،1976/1975وحتول ا�سم الكلية �إىل “جامعة بريزيت”.
وا�شتملت اجلامعة حينذاك على كليتني :كلية الآداب وكلية العلوم .ويف 11متوز
1976احتفلت اجلامعة بتخريج �أول فوج من حملة درجة البكالوريو�س يف
الآداب والعلوم.
هذا وكانت اجلامعة قد ُقبلت يف ني�سان 1976ع�ضوا ً يف احتاد اجلامعات العربية،
كما ُقبلت يف عام 1977ع�ضوا ً يف االحتاد العاملي للجامعات.
وا�ستمرارا ً لربنامج التطوير يف اجلامعة ،مت �إن�شاء كلية التجارة واالقت�صاد يف
العام الدرا�سي ،1979/1978وكلية الهند�سة يف العام الدرا�سي ,1980/1979كما
�أ�ضيف برنامج املاج�ستري يف الرتبية ابتدا ًء من العام الدرا�سي .1978/1977
165