Sei sulla pagina 1di 168

‫من �أقوال املجاهد عبداهلل الربغوثي هذه الكلمات‪:‬‬

‫ال تنسوا املهندس يف عتمة عزلته لقد كان فيكم للحريه عنوانا‬
‫ري ِّ‬
‫الظل ِ‬ ‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬
‫حقوق الطبع حمفوظة للم�ؤلف‬
‫الطبعة الأوىل‬

‫‪2012‬م ‪1433 -‬هـ‬


‫بريوت – لبنان‬

‫ت�صميم و�إخراج وطباعة‬


‫‪Golden Vision sarl +961 1 820434‬‬

‫‪4‬‬
‫فهر�س املحتويات‬

‫املق ِّدمة ‪7 .....................................................................................‬‬


‫‪8‬‬ ‫الإهداء ‪....................................................................................‬‬
‫ر�سالة من تاال‪� ،‬أ�سامة و�صفاء ‪9 ................................................................‬‬
‫ال�شهيد الق�سامي البطل عز الدين امل�رصي ‪61 ........................................................‬‬
‫�أبو علي ال�سلوادي ‪87 ..............................................................................‬‬
‫�صالح �شحادة ‪96 ..................................................................................‬‬
‫ال�شهيد جمد الربغوثي ‪110 ..........................................................................‬‬
‫زراعة العقيدة‪� ،‬سيد ال�شيخ قا�سم ‪117 ..............................................................‬‬
‫�أحالم التميمي ‪140 ...............................................................................‬‬
‫املهند�س حممود �رشيتح ‪143 ........................................................................‬‬
‫ال�شيخ الأ�سري جمال �أبوالهيجا ‪146 ................................................................‬‬
‫ال�شهيد القائد �أمين حالوة ‪148 .....................................................................‬‬
‫‪151‬‬ ‫امي �سيد ال�شيخ قا�سم ‪............................................................‬‬
‫الق�س ّ‬
‫ال�شهيد ّ‬
‫الق�سامي القائد بالل الربغوثي ‪154 .........................................................‬‬
‫املجاهد ّ‬
‫الق�سامي حممد وائل دغل�س ‪157 .............................................................‬‬‫الأ�سري ّ‬
‫الق�سامي الأ�سري �إبراهيم حامد ‪160 ...........................................................‬‬
‫القائد ّ‬
‫الأ�سري املحرر وليد اجنا�ص‪163 ....................................................................  ‬‬
‫جامعة بريزيت ‪164 ................................................................................‬‬

‫‪5‬‬
6
‫ِّ‬
‫املقدمة‬

‫تثور النار �إن اختنقت باحلطب‬


‫وحترق كل من للحق اغت�صب‬

‫ثرت مر ًة ب�إذن ربي على املحتل الغا�صب‪ ،‬وها �أنا �أثور اليوم �أي�ضا ً بعون ربي‬
‫وال�سجان لأكتب ق�صتي‪ ،‬ق�صة مقاوم ق�صد وجه ربه ورفع ال�سالح‬ ‫ّ‬ ‫على ال�سجن‬
‫بوجه الظلم‪ ،‬لعل ر�صا�صات احلق تعيد طريق الن�رص واحلرية‪.‬‬
‫عرب جوابي على ر�سالة ابنتي‪ ،‬وردي على ت�سا�ؤالتها‪ ،‬لعلي �أكون قد �أو�ضحت‬
‫مل �أنت؟‪ ..‬ولعلي‬‫لها ما يدور بذهني حول ذلك ال�س�ؤال الذي تردد كثريا ً ‪ :‬من �أنت و َ‬
‫�أكون عرب جتربتي املتوا�ضعة‪ ،‬قد �ساهمت ولو قليالً من خالل �صفحات هذا الكتاب‪،‬‬
‫ومن خالل مقاومتي للمحتل‪ ،‬ب�أن �أ�شعل �شمعة على درب احلرية‪ ،‬ف�أنا �أكره الظالم‬
‫و�أكره من ال يلعنون الظالم‪.‬‬

‫عبد اهلل غالب الربغوثي‬ ‫ ‬


‫«من زنزانة العزل االنفرادي التي ما زلت‬ ‫ ‬
‫�أمكث بها منذ عام ‪ 2003‬حتى اليوم»‬ ‫ ‬

‫‪7‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫الإهداء‬

‫�إىل والدي ووالدتي �أطال اهلل بعمرهما‪� ..‬إىل زوجتي و�أطفايل تاال و�أ�سامة و�صفاء‪..‬‬
‫�إىل كل من �ساعد و�ساهم لكي يرى هذا الكتاب النور‪..‬‬
‫لفل�سطني والقد�س والأق�صى‪..‬‬
‫للقدو�س والقد�س والق�سام‬

‫�أهدي كتابي هذا لهم جميعا ً ولكل من لعن االحتالل‪..‬‬


‫عبد اهلل الربغوثي‬ ‫ ‬
‫�أمري ال ِّظل‬ ‫ ‬

‫‪8‬‬
‫ر�سالة من تاال‪� ،‬أ�سامة و�صفاء‬

‫«�إىل �أبينا الغايل على قلوبنا‪ ،‬نكتب لك هذه الر�سالة‬


‫مبنا�سبة ذكرى دخولك املعتقل‪ ..‬هذه الذكرى‬
‫التي مر عليها ع�رشة �أعوام‪ ،‬و�أنت يا �أبانا خلف‬
‫الق�ضبان والأ�سوار خلف الق�ضبان بداخل غرفة‬
‫العزل االنفرادي‪ ..‬ال ترى �أحدا ً وال تكلم �أحداً‪.‬‬
‫�أبانا‪ ،‬بل �أبي ف�أنا ابنتك تاال التي تكتب هذه‬
‫أخوي �أ�سامة و�صفاء‪� ،‬أكتب‬ ‫الر�سالة نيابة عن � َّ‬
‫يا والدي معاتب ًة‪ ،‬حائر ًة مت�سائل ًة‪ ،‬ف�أنا ال �أدري‬
‫�إن كان يحق يل �أ�صالً �أن �أعاتبك و�أ�س�ألك تلك‬
‫الأ�سئلة التي تدور يف ذهني‪ ..‬ولكن حريتي؛‬
‫حريتي هي التي دفعتني لهذا ال�س�ؤال الذي مل �أجد عليه �إجابة من �أولئك الذين‬
‫من حويل‪ ..‬فكل واحد منهم يجيب �إجاب ًة خمتلف ًة جدا ً عن �إجابة الآخر‪ ،‬رغم �أن‬
‫ال�س�ؤال‪ ،‬مل يتغري ومل يتبدل‪.‬‬
‫�أبي الغايل‪� ،‬أبي احلبيب �أعلم �أن �صدرك وا�سع‪� ،‬أنك جتيب على �أ�سئلتي دائما ً قبل‬
‫�أن �أ�س�ألها �أ�صالً‪ ..‬ف�أنت الأب الذي ال يت�ضايق من �أ�سئلة �أبنائه ال�صغار‪ ،‬لكني اليوم‬
‫خل�صها لك ب�س�ؤال واحد‪ ،‬علِّي‬ ‫قد �أ�صبحت كبرية‪ ،‬وكربت معي تلك الأ�سئلة التي �أ ّ‬
‫�أجد عندك اجلواب ال�شايف عليه؛ وهو من �أنت؟‪ ..‬من �أنت يا �أبي؟‪� ..‬أ�أنت ذلك الطيب‬
‫احلنون كما تقول جدتي؟ �أم �أنت ذلك القا�سي منزوع القلب كما يقول جدي؟ هل �أنت‬
‫أنت‬
‫املحب العا�شق الذي جاء على ح�صانه الأبي�ض لي�أ�رس قلب �أمي فتقع يف حبك؟ �أم � َ‬
‫ذلك الذي جاء من املجهول وغادر �أي�ضا ً �إىل املجهول فك�رس قلب �أمي وجعلها تبكي‬
‫وتبكي ما �إن يذكر ا�سمك �أمامها‪ ..‬قالوا عنك جبار قوي ال ترحم‪ ،‬وقالوا �أي�ضا ً �أنك‬

‫‪9‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫متلك عقلني؛ ال عقالً واحدا ً مثل باقي الب�رش‪ ،‬فيقال �أنك ا�ستبدلت قلبك بعق ٍل �آخر‪..‬‬
‫ولكن ما يجري �أي�ضا ً يا والدي احلبيب �أنهم �أي�ضا ً يقولون �أنه لوال �أن قلبك كبري‪،‬‬
‫و�أنك حنون طيب ملا و�صلت �إىل ما و�صلت �إليه‪ ..‬ملا قاتلت وملا عني ابتعدت‪.‬‬
‫ال �أدري من �أنت‪ ..‬من �أنت؟ �أنت تلك ال�صورة التي كتبت عليها تلك اجلملة التي ال‬
‫�أفهم لها معنى ‪« :‬الأ�سري البطل»‪.‬‬
‫�أ�سري بطل!‪ ..‬كيف ي�صبح الأ�سري بطالً؟ �أم �أن ال�س�ؤال هو كيف ي�صبح البطل‬
‫�أ�سرياً‪ ..‬هل �أنت مقاوم بطل؟ �أم �أنك جمرد متهور‪ ،‬مندفع خا�ض حربا ً ال ناقة له بها‬
‫وال جمل‪ ..‬قل يل بربك يا عبد اهلل اجلمل من �أنت؟‪� ..‬ألي�س هذا هو ا�سمك قبل �أن ي�صبح‬
‫عبد اهلل الربغوثي �أو عبد اهلل الق�سام؟ من �أنت؟‪� ..‬أنت ذلك الظل الذي ال �أرى �صاحبه‬
‫ولكنه ميد يل يد امل�ساعدة دون �أن �أطلب‪ ..‬هل تعلم يا والدي احلبيب �أنك الأب الوحيد‬
‫الذي ال ين�سى ذكرى ميالد �أبنائه وذكرى ميالد من يحب؟‪ ..‬كل الآباء ين�سون �إال‬
‫�أنت فال تن�سى‪..‬وما دمت ال تن�سى‪ ،‬ملاذا غبت عنا طول هذه الأعوام؟ �أمل تكن تعلم �أن‬
‫من يقاتل يغيب ويبتعد عن من يحبهم؟‬
‫والدي �أجب على �س�ؤايل من �أنت؟ وملاذا تركتني طفلة �صغرية ال يتجاوز عمري‬
‫الثالثة �أعوام ملقاة ب�سيارة حتا�رصها الكالب من كل �صوب؟ ملاذا تركتني يف الربد‬
‫القار�س بعد �أن غبت ومل �أعد �أراك؟‬
‫باهلل عليك يا �أبي قل يل من �أنت؟ قل و�أجب على �أ�سئلتي �سوا ًء التي �س�ألتها �أم تلك‬
‫التي مل �أجتر�أ على �س�ؤالك �إياها‪ ..‬من �أنت يا �أمري الظل؟ من �أنت؟ »‪..‬‬
‫ ‬
‫ابنتك املحبه تاال‬ ‫ ‬

‫ابنتي احلبيبة على قلبي وعلى عقلي تاال‪ ،‬و�أحبتي �أ�سامة و�صفاء و�أبي وزوجتي‬
‫الغالية‪ ..‬ر�سالت ِك قد و�صلني قبلها وبعدها العديد من الر�سائل التي حتتوي على هذا‬
‫ال�س�ؤال من �أنت ؟ و�س�ؤال �آخر �أكرث تعقيدا ًوهو ذلك ال�س�ؤال الذي تكرر كثريا ًملاذا �أنت؟‪..‬‬
‫ابنتي احلبيبة ومالكي احلار�س ‪ :‬هذه الأ�سئلة والت�سا�ؤالت حتتاج �إىل �شخ�ص‬
‫فيل�سوف لكي يجيب عليها وي�رشح الأ�سباب‪ ،‬ويو�ضح الأمور لي�سهل علي ِك فهمها‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫علي �أن �أجيب على تلك‬‫�شخ�ص عادي‪ ،‬و�أقل من عادي‪ ،‬وي�صعب ّ‬ ‫ٍ‬ ‫�أما �أنا فمجرد‬
‫الأ�سئلة‪ ،‬ولكني �سوف �أق�ص علي ِك ق�صتي وق�صة حياتي‪ ،‬لعلك يا مالكي احلار�س‬
‫جتدين �أجوبة على �أ�سئلتكِ‪.‬‬
‫لعلك ت�ستطيعني �أنت يا ابنتي �أن تقويل يل من �أنا‪ ،‬وملاذا �أنا‪ ..‬حبيبتي ال�صغرية‬
‫قد بد�أت ق�صتي من هناك‪ ،‬هناك بعيد عن فل�سطني وعن التني والزيتون‪ ..‬هناك يف‬
‫ال�صحراء‪ ..‬فلقد ولدت بالكويت‪ ،‬و�أحببت الكويت وما زلت �أحبّها‪ ،‬و�أذكر الن�شيد‬
‫الوطني لها و�أردده‪.‬‬
‫وطني الكويت �سلمت للمجد‪ ،‬وعلى جبينك طالع ال�سعد‪.‬‬
‫ظللت �أردده طوال �أعوام طفولتي‪ ،‬حتى جاء اليوم الذي ما‬ ‫ُ‬ ‫ذلك الن�شيد الذي‬
‫عدت فيه طفالً �صغرياً‪ ..‬فلقد كربت فج�أة ودون مقدمات‪ ،‬وكان ذلك عندما اندلعت‬
‫انتفا�ضة احلجارة يف فل�سطني‪ ،‬عندما ا�ست�شهد ابن عمي حممود‪ ،‬وعمي �إ�سماعيل‪..‬‬
‫ا�ست�شهدا يف فل�سطني‪ ،‬و�أقمنا لهما يف الكويت عر�ساً‪ ..‬عر�س ال�شهداء‪.‬‬
‫مل �أكن اعلم �أن هناك �أعرا�سا ً تقام للموتى‪ ،‬للقتلى؛ ولكني علمت �أن هناك �أعرا�سا ً‬
‫تقام لل�شهداء‪ .‬من هم �أولئك ال�شهداء؟ وكيف �أ�صبحوا م�ضمخني بدمائهم �إىل‬
‫مثواهم‪� ،‬إىل جنة اخللد‪ ،‬من هم؟‪ ..‬مل �أرهم ومل �أكلمهم وحتى مل �أكن �أعلم عنهم‬
‫�أي �شيء‪� .‬س�ألت و�س�ألت‪ ،‬وجاءين اجلواب‪ :‬قالوا يل �أن حممود هو ابن عمي الكبري‪،‬‬
‫وقالوا �أن �إ�سماعيل هو �أ�صغر �أعمامي‪ ،‬ولقد كان االثنان قريبني يف العمر وقريبني‬
‫يف �صداقتهما‪ .‬بب�ساطة لقد �ألقوا احلجارة على قوات االحتالل ال�صهيوين التي كانت‬
‫تعيث خرابا ً يف قريتنا‪ ،‬ف�ألقت تلك القوات عليهم وابالً من الر�صا�ص فا�ست�شهدا‪.‬‬
‫قالوا يل‪� ،‬أعلم �أنك من هناك من فل�سطني‪ ،‬من قرية ا�سمها بيت رميا‪ ،‬وقالوا‬
‫�أي�ضا ً �أنت فل�سطيني‪ ..‬وهكذا يا ابنتي مل �أعد كويتيا كما كنت �أظن وكما كنت �أغنّي‪،‬‬
‫بل فل�سطينياً‪ ..‬ومنذ ذلك الوقت �أ�صبحت �أردد �أن�شودة �أخرى تتحدث عني وعن‬
‫فل�سطني‪ ،‬فل�سطني ال�شهداء‪ ،‬فل�سطني الأ�سرية‪ ..‬كانت تلك الأن�شودة تقول ‪:‬‬
‫«حممد جمجوم وف�ؤاد حجازي‪ ،‬جازي عليهم يا �شعبي جازي»‪� .‬أن�شودة تتحدث‬
‫عن �أبطال ثالثة هم «عطا الزير» و«حممد جمجوم» و«ف�ؤاد حجازي»‪� ،‬أُعدموا من‬
‫قبل القوات الربيطانية؛ تلك القوات التي ن�صبت لأبناء فل�سطني امل�شانق‪ ،‬و�أعطت‬

‫‪11‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫ال�صهاينة وعدا ً م�ش�ؤوما ً ا�سمه وعد بلفور‪ ..‬ذلك احلقري القذر الذي �أعطى من ال‬
‫ميلك �أ�صالً �إىل من ال ي�ستحق‪� ..‬أعطى �أطهر �أر�ض‪ ،‬فل�سطني‪� ..‬أعطاها �إىل �أقذر �شعب‪،‬‬
‫�إىل ال�صهاينة املحتلني‪.‬‬
‫ومن هنا يا مالكي احلار�س كربت ومل �أعد طفالً �صغرياً‪ ،‬كربت وكربت معي‬
‫فكرة املقاومة‪ ،‬وطرد االحتالل‪ ،‬وعقاب املحتلني على جرائمهم بحق فل�سطني‪ ،‬وحق‬
‫حممود‪ ،‬و�إ�سماعيل وبحق كل �شهيد‪.‬‬
‫كنت يا ابنتي احلبيبة ويا مالكي احلار�س �أ�شاهد على التلفاز كيف يقوم‬
‫جنود االحتالل بتك�سري عظام �أطفال فل�سطني‪� ،‬أطفال احلجارة‪ ،‬رجال االنتفا�ضة‬
‫و�صقورها‪ ..‬ولذلك قررت �أن �أ�صبح قوياً‪ ،‬قويا ً جدا ً حتى ال ُيك�رس عظمي‪ ،‬وحتى‬
‫�أدافع عن من �أحبهم‪ :‬عن القد�س والأق�صى وعن فل�سطني‪.‬‬
‫يف تلك الأثناء قدر اهلل �أن �أتعر�ض لل�رضب على يد عد ٍد من التالميذ يف املدر�سة‪،‬‬
‫كانوا �أكرث و�أقوى وكنت وحيدا ً و�أ�ضعف‪ .‬وعلى الفور ان�ضممت لنادي الريا�ضة‬
‫(اجلودو)‪ ،‬عند مدرب ا�سمه «منري �سميك»‪ ،‬وبد�أت تدريبي بنادي اجلهراء‪ .‬يف الكويت‬
‫كان املدرب فل�سطيني ولقد كان يدرب �أي�ضا ً فريق منظمة التحرير الفل�سطينية‬
‫مبدينة «حوليّ »‪ ،‬ب�صمت وبجد على فنون اجلودو‪ .‬ولكني مل �أكتف بذلك‪ ،‬فلقد �أردت‬
‫�أن �أكون قويا ً جداً‪ ،‬ف�أ�ضفت �إىل اجلودو التدريب على ريا�ضة املالكمة و�أي�ضا ً كمال‬
‫الأج�سام‪ .‬ولذلك كنت �أم�ضي كل �أوقاتي بعد الدرا�سة متنقالً بني قاعات التدريب‪ .‬مل‬
‫�أكن �أ�شارك بامل�سابقات ومل �أح�صل على امليداليات ؛ بل كنت �أ�شارك بامل�شاجرات‬
‫�سواء باملدر�سة �أو يف احلي الذي �أقطنه‪ ،‬و�أح�صل يف بع�ض الأحيان على الكثري‬
‫من الكدمات �أو الك�سور‪ .‬وقد قال يل املدرب بعد تلك الأعوام‪� :‬أين �سوف �أدربك‬
‫اليوم على احلركة الأخرية تلك احلركة التي �إن تعلمتها و�أتقنتها ف�سوف تكون‬
‫قادرا ً على قتل من يهاجمك‪ ،‬ف�إياك �أن ت�ستعملها �أبدا ً �أبداً‪ .‬وعندما �س�ألته كيف‬
‫تعلمني حركة قاتلة وتريد مني �أن �أتقنها وال �أ�ستعملها ال يف امل�شاجرات وال حتى‬
‫يف املباريات بداخل النادي ؟!‪ ..‬وهنا �أجاب قائالً �أل�ست فل�سطينياً؟ �أال تريد حترير‬
‫بلدك؟ قلت‪ :‬نعم‪ .‬قال‪� :‬إذا ً هناك يف فل�سطني و�ضد من احتلوا وطنك‪ ..‬ا�ستعملها‬
‫وا�ستعمل كل ما تعلمته هنا‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫«احلبيبة والبنني»‬
‫عيني تبكي وقلبي حزين‬
‫على فراق احلبيبة والبنني‬
‫فائدة التي الف�ؤاد واليا�سمني‬
‫�أنت �شمعة قلبي ال�سجني‬
‫بوجهك الب�سمة كل حني‬
‫ويف قلبك حبي الدفني‬
‫فانتِ حياتي وماء العني‬
‫يا وردتي و�أجمل الرياحني‬
‫�سيبقى حبي لك قوي متني‬
‫مهما فرقنا العدو اللعني‬

‫بعد ذلك بد�أت مرحلة جديدة من حياتي‪ .‬فقد بد� ُأت بالتدرب على ال�سالح‪ ،‬هناك‬
‫يف الكويت يف ال�صحراء‪� ،‬أما الأهم من ذلك فهو ما كنت �أعمله �أثناء العطل املدر�سية‬
‫�سواء عطلة ن�صف العام الدرا�سي �أو عطلة نهاية العام الدرا�سي‪ ،‬فلقد كنت �أم�ضي‬
‫تلك العطل منذ �أن �أ�صبح عمري اثني ع�رش عاما ً يعني �أ�صغر من عمركِ الآن بعام‬
‫واحد بالعمل يف حمل للأجهزة الكهربائية ميلكه عمي �أبو �أحمد‪� ،‬أو يف العمل يف كراج‬
‫للميكانيك بعد �أن كربت عدة �أعوام‪.‬‬
‫ف�أنا يا مالكي احلار�س مل �أمار�س الريا�ضة القتالية حبا ً بها �أبداً‪ ،‬ومل �أتعلم‬
‫ا�ستعمال ال�سالح لأين �أهوى ذلك‪ ،‬فلقد كانت هوايتي هي تفكيك الأ�شياء و�إعادة‬
‫تركيبها مرة �أخرى‪ ،‬وحماولة معرفة طريقة عملها‪ ،‬هذه هوايتي‪ :‬االلكرتونيات‬
‫وامليكانيك‪ ،‬الأ�شياء الدقيقة جدا ً وال�صغرية‪ ،‬والأ�شياء الكبرية والتي ميل�ؤها الزيت‬
‫وال�شحوم‪ ،‬وهذا ما دفعني الحقا ً �إىل درا�سة م�ساق الهند�سة االلكرتوميكانيكية‬
‫يف كوريا اجلنوبية‪� ،‬أما كيف و�صلت �إىل هناك فهي ق�صة �أرويها ل ِك بعد �أن �أكمل‬
‫حكايتي بالكويت �أوالً‪.‬‬
‫كنت متعلقا ً بالكويت كثريا ً جداً‪ ،‬حتى �أين عندما كان والدي ووالدتي و�أخوتي‬

‫‪13‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫يذهبون لق�ضاء العطلة ال�صيفية يف الأردن كنت �أف�ضل البقاء يف الكويت وحيداً‪ ،‬رغم‬
‫�أن عمري مل يكن يتجاوز ال�ستة ع�رش عاما ً لكي �أبقى يف عملي وهوايتي التي �أحب‪.‬‬
‫وهنا �أقول �أن الكويت لي�ست ال�صحراء �أو �آبار النفط‪ ،‬هي الكويت احلا�ضنة واملدر�سة‬
‫التي تعلمت منها كل �شيء‪ ،‬فلقد كنت �أتابع جملة العربي تلك املجلة التي عرفتني‬
‫بالق�ضية الفل�سطينية وحتى بالعامل �أجمع‪ ،‬وكنت �أتابع ال�صحف وخا�صة ر�سوم‬
‫الفنان املبدع �شهيد الإبداع ناجي العلي‪ ،‬الذي كان ير�سم بال�صحف الكويتية وعلى‬
‫ما �أذكر �أنه كان ير�سم يف �صحيفة القب�س الكويتية‪ ،‬ثم القب�س الدولية يف لندن‪ .‬الكويت‬
‫التي �أجنبت فهد الأحمد ال�صباح الذي قاتل من �أجل فل�سطني يف جبال عجلون يف‬
‫الأردن‪ ،‬فالكويت هي البلد امل�سلم الو�سطي ال املتطرف الأحمق‪ ،‬فلقد تعلمت ال�صالة‬
‫و�أداء العبادات منذ طفولتي الأوىل‪ ،‬كان والدي ي�صطحبني �إىل ال�صالة بامل�سجد كل‬
‫يوم‪ ،‬وحتى عندما كنت �أتدرب كان التدريب يتوقف لأداء ال�صالة‪ .‬وعندما كنت �أعمل‬
‫بامليكانيك �أو االلكرتونيات فلقد كنت �أوقف العمل من �أجل �أداء ال�صالة‪ ،‬فال�صالة‬
‫�أ�صبحت جزءا ً ال يتجز�أ من �أموري اليومية‪ .‬و�أذكر �أي�ضا ً �أن والدي كان ي�صطحبني‬
‫ل�سماع خطبة اجلمعة يف �أحد املدن املجاورة ملنطقة اجلهراء وذلك حلب والدي خلطب‬
‫م�شايخ الكويت‪.‬‬
‫بعد �أن حتررت الكويت‪ ،‬انتقلت مع �أ�رستي للعي�ش يف عمان العا�صمة‬
‫الأردنية حيث كان والدي ميلك هناك منزالً‪ ،‬ولكن مع انتقالنا بد�أت مرحلة‬
‫ق�صرية جدا ً لكنها مهمة جداً‪ ،‬فلقد كنا بعد خروجنا من الكويت �إىل الأردن بحالة‬
‫مادية �صعبة جدا ً ولذلك ورغم �أين كنت �أدر�س‪� ،‬إال �أنني كنت �أعمل �أي�ضا ً يف �أحد‬
‫كراجات املدينة لعلي �أ�ساهم ولو بالقليل من م�رصوف البيت‪ .‬ف�أنا يا مالكي‬
‫احلار�س يا ابنتي اجلميلة �أكرب �أخوتي مثل ِك متاماً‪.‬ولذلك حتولت هوايتي �إىل‬
‫عملي وحتى درا�ستي فلقد در�ست يف مدر�سة مهنية ق�سم امليكانيك‪ ،‬وما �إن‬
‫انتهيت من درا�سة الثانوية العامة حتى �أدركت عدم قدرة والدي على تعليمي‬
‫باجلامعة‪ .‬ولذلك قمت باال�ستدانة من �أحد �أقاربي مبلغا ً من املال ووعدته �أن‬
‫�أعيد املبلغ خالل عام واحد‪ ،‬ولقد قمت بافتتاح كراج خا�ص يل قبل �أن �أكمل‬
‫عامي الثامن ع�رش‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫عملت بجد دون كلل �أو ملل‪ ،‬لكن دون فائدة فلقد كانت الأردن متر يف تلك‬
‫الفرتة ب�أو�ضاع اقت�صادية �صعبة جداً‪ .‬وبعد مرور �أكرث من �ستة �شهور‪ ،‬ومل‬
‫يحدث �أي تقدم ومع اقرتاب موعد �سداد الدين‪ ،‬وموعد �إيجار الكراج وهو �إيجار‬
‫وجدت �أن الأبواب قد �أغلقت بوجهي ب�شكل كامل‪ .‬ففي‬ ‫ُ‬ ‫دفع مقدما ً ملدة عا ٍم كامل‪،‬‬
‫تلك الفرتة كنت قوي اجل�سد ف�أنا ما زلت �أتدرب على اجلودو بعمان ب�شكل منتظم‬
‫عند نف�س املدرب الذي كان يدربني يف الكويت‪ ،‬الكابتني «منري �سميك» فلقد ترك‬
‫هو �أي�ضا ً الكويت لي�ستقر يف الأردن وليدرب هناك‪ ،‬يف نادي مكة الريا�ضي‪ ،‬ولقد‬
‫كنت ميكانيكيا ً فنيا ً �إلكرتونيا ً ماهرا ً �أي�ضا ً فلقد مزجت الهواية بالدرا�سة ملدة‬
‫عامني باملدر�سة ال�صناعية‪ ،‬ورغم كل ذلك؛ �أي القوة اجل�سدية وقوة املعرفة‪� ،‬إال‬
‫�أين كنت ال �أ�ساوي �شيئاً‪ ،‬ال �أ�ساوي �شيئاً‪ .‬وذلك لأين كنت فقرياً‪ ،‬فقريا ً ومديوناً‪،‬‬
‫هل يعقل �أن تتجاوز ديوين اخلم�س �آالف دوالر ومل يتجاوز عمري الثامنة‬
‫ع�رشة بعد‪ ،‬وهذه التجربة املريرة من العوز املايل وعدم القدرة على م�ساعدة‬
‫والدي و�أخوتي ال�صغار جعلتني �أدرك �أهمية املال‪ .‬ولذلك وقبل حلول موعد‬
‫�سداد الدين بعدة �أ�شهر قررت �أن �أهاجر‪� ،‬أهاجر بعيدا ً لعلي �أح�صل على فر�صة‬
‫�أف�ضل ولعلي �أح�سن ظرويف املعي�شية‪ ،‬و�أيف بوعدي الذي قطعته على نف�سي وهو‬
‫�إعادة الدين مبوعده املحدد‪ ،‬و�إعالة عائلتي التي لوال ذلك املنزل الذي كنَّا منلكه‬
‫يف عمان لكنا قد ت�رشدنا يف الطرقات‪ ،‬فوالدي كان كبري ال�س ّن فلقد تزوج يف �س ٍّن‬
‫مت�أخر‪ ،‬و�أخوتي بد�أوا يكربون ويكرب م�رصوفهم وم�رصوف البيت‪ .‬قدر اهلل يل‬
‫يف تلك الفرتة �أن يكون يل �صديق ا�سمه �أحمد‪ ،‬له قريب يعمل يف كوريا اجلنوبية‪،‬‬
‫وكان �صديقي هذا قد قرر ال�سفر للعمل هناك عند قريبه‪ ،‬وهنا طلب مني �أحمد‬
‫�أن �أملأ له طلبا ً لت�أ�شرية الفيزا‪ ،‬فهو مل يكن يجيد اللغة االجنليزية وال حتى‬
‫العربية‪ ،‬ف�أحمد مل يكمل تعليمه‪ .‬ولذلك قمت مبلأ طلب الفيزا لأحمد‪ ،‬وطلب �آخر‬
‫يل �أنا‪ ،‬وما �إن جاءت املوافقة على الفيزا حتى قمت ببيع موجودات الكراج و�رشاء‬
‫تذكرة لل�سفر وعندها �أخربت �أحمد �أين �أريد ال�سفر معه لكوريا فرحب بذلك �أ�شد‬
‫ترحيب وذلك لعدة �أ�سباب ذكرها هو يل عندما �صعدنا �إىل الطائرة فلقد قال‪� :‬أنت‬
‫يا عبد اهلل قوي اجل�سد ويدك «طر�شا» ف�إذا حدثت معنا م�شكلة نحتاج للع�ضالت‬

‫‪15‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫ف�أنت موجود‪ ،‬و�إذا احتجنا ملرتجم ف�أنت موجود‪� ،‬أما الأهم ‪ -‬ح�سب ر�أي �أحمد‬
‫‪ -‬فهو قوله‪� :‬إذا ما تعطلت الطائرة باجلو ف�أنت موجود �أي�ضا ً كي ت�صلحها‪ ،‬ولقد‬
‫كان جادا ً يف ذلك‪.‬‬
‫قبل موعد ال�سفر بيوم واحد �أبلغت والدي عن نيتي بال�سفر �إىل كوريا للعمل‬
‫هناك‪ ،‬مل يعرت�ض بل بارك �سفري و�شجعني على الثبات والعمل اجلاد‪ ،‬فلقد كان‬
‫والدي يثق بي جدا ً ويعلم �أين ل�ست من النوع امل�ستهرت‪ ،‬فوالدي كان يتابع عملي‬
‫يف الكراج وتدريبي يف النادي‪ ،‬كان يراقب ويتابع �صامتاً‪ ،‬ويكرر تلك الكلمة التي‬
‫يرددها دائماً‪ :‬لقد كربت قبل �أوانك يا ابني‪.‬‬
‫ودعت �أهلي وانطلقت �إىل املطار مع �أحمد و�أنا ال �أحمل معي �سوى تذكرة ال�سفر‬
‫فقط ال غري؛ فلقد دفع �أحمد �أجرة التك�سي ور�سوم اخلروج من املطار‪� .‬أحمد كان قد‬
‫خطب ابنة عمته قبل عامني من �سفرنا فهو �أكرب مني عمراً‪ ،‬لكنه رغم كرب عمره �إال‬
‫�أنه كان من�سجما ً معي وكان ان�سانا ً طيبا ً جدا ً وب�سيطا ً جداً‪.‬‬
‫ما �إن �أقلعت الطائرة من مطار عمان حتى قال يل �أنه يريد العودة �إىل عمان مرة‬
‫�أخرى لقد تبدل حما�سه الكبري �إىل فتور وت�شا�ؤم‪ .‬حاولت �أن �أغيرّ ر�أيه لكنه �أ�رص‬
‫على العودة �إىل عمان رغم �أنه حتدى �أهله و�أهل خطيبته الذين كانوا يرف�ضون‬
‫�سفره‪ ،‬ورغم كل الإ�رصار �إال �أنه حول ذلك الإ�رصار �إىل �إ�رصار معاك�س م�رصا ً‬
‫على العودة وعدم ال�سفر‪ ،‬وما �إن و�صلت الطائرة �إىل كوريا بعد مرورها بالبحرين‬
‫وهونغ كونغ‪ ،‬حتى �أ�رص بكل ما �أوتي من قوة على العودة‪.‬‬
‫حاولت �أن �أحجز له تذكرة لكي يعود �إال �أين مل �أجد طائرة ت�سافر بذلك اليوم‪،‬‬
‫فانتظرنا يف املطار يومني حتى حجزت له تذكرة و�أو�صلته لبوابة املغادرين ليغادر‬
‫عائدا ً �إىل عمان دون �أن يرى كوريا‪ .‬غادر هو تاركا ً يل عنوان قريبه يف كوريا وودعته‬
‫�أنا بعد �أن قمت بعمل جنوين‪.‬‬
‫نعم يا مالكي احلار�س‪ ،‬فلقد �أر�سلت مع �أحمد جواز �سفري وتذكرة عودتي‬
‫�إىل عمان و�أر�سلت معه ر�سالة قلت بها لوالدي �أين لن �أعود قبل �أن �أحقق ما حلم‬
‫بتحقيقه‪ ،‬وطلبت من �أحمد �إي�صال الأمانة والطلب من والدي الدعاء يل واالحتفاظ‬
‫بجواز �سفري حتى �أطلبه منه‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫جيوبي خالية‪ ،‬فال مال لدي‪ ،‬وال تذكرة للعودة‪ ،‬وال جواز �سفر‪ ،‬كل ما معي هو‬
‫عنوان مكتوب على ورقة‪ ،‬و�إ�رصار بالنجاح ورغبة بالتحدي‪.‬‬
‫هنا يجب �أن �أقول �أن �أحمد قد عاد �إىل عمان لأنه كما قال يل عرب الهاتف فيما بعد‬
‫�أن عمته �أي حماته قد عملت له عمالً عند �إحدى ال�ساحرات‪ ،‬عمل مينع �أحمد من‬
‫�سئلت عن ر�أيي‪ ،‬ف�أقول اهلل‬
‫ُ‬ ‫ال�سفر‪ ،‬بعيدا ً عن خطيبته بعيدا ً عن بيته يف عمان‪� ،‬أما � ْإن‬
‫�أعلم عن ال�سبب احلقيقي لعودة �صديقي �أحمد لعمان‪.‬‬
‫عدت اىل جيوبي الفارغة و�أخرجت منها العنوان‪ ،‬و�س�ألت �أحد موظفي‬
‫اال�ستعالمات باملطار‪ ،‬ذلك املوظف الذي ر�سم يل العنوان على �إحدى اخلرائط‬
‫اخلا�صة بال�سياح فلقد قلت له �أين �أريد الذهاب ما�شيا ً على قدمي فر�سم يل العنوان‬
‫وانطلقت بعد �أن �أم�ضيت ليلتي نائما ً بحديقة املطار‪ ،‬نائما ً على الع�شب الرطب‬
‫م�ستيقظا ً على بخاخات املياه التي �سقت الع�شب �صباحاً‪ ،‬فا�ستيقظت و�رشبت من‬
‫تلك املياه‪ ،‬وبد�أت رحلتي �إىل الأمل‪ ،‬احللم الذي �أ�صبح حقيقة‪.‬‬
‫فلقد بقيت طوال ثالثة �أيام وليلتني �أ�سريا ً يف النهار‪ ،‬و�أنام يف الليل‪ ،‬وال �آكل وال‬
‫�أ�رشب‪ ،‬ولكني كنت �أ�رشب من املياه من احلدائق العامة حتى و�صلت �إىل العنوان‪،‬‬
‫و�صلت متعبا ً غارقا ً مبياه الأمطار‪� ،‬أ�شعر باحلر تار ًة وبالربد تار ًة �أخرى‪ ،‬و�صلت‬
‫�إىل العنوان الذي مل يكن �سوى عنوان م�صنع لق�ص الأ�شجار يف �إحدى الغابات‪ ،‬كان‬
‫قريب �أحمد قد ترك العمل بامل�صنع منذ مدة طويلة‪ ،‬وانتقل �إىل مكان �آخر ولكن حل�سن‬
‫احلظ �أنه كان هناك عمال �أجانب يعني عمال غري كوريني‪ ،‬عمال باك�ستانيني م�سلمني‪.‬‬
‫رحب بي �أحدهم‪ ،‬و�أوجد يل عمالً بنف�س اليوم مب�صن ٍع جماور‪ ،‬هناك يف تلك الغابة‬
‫ومب�صنع الأخ�شاب هذا عملت طوال خم�سة و�أربعني يوماً‪ ،‬قبل �أن �أ�ستلم �أول ٍ‬
‫راتب‬
‫يل فلقد كان النظام هناك �أن نعمل �شهرا ً كامالً و�أن نرتك ت�أمينا ً ملدة خم�سة ع�رشة‬
‫يوما ً لدى امل�صنع‪.‬‬
‫عملت و�أنا ال �أملك املال ل�رشاء الطعام‪ ،‬فلقد كنت �أتناول وجبة ُتقدم من امل�صنع يف‬
‫ال�ساعة العا�رشة وهي وجبة خفيفة جدا ً ووجبة �أخرى تقدم �ساعة الظهرية للغداء‪،‬‬
‫عملت ب�صمت و�أتقنت ما �أعمل‪.‬‬
‫كنت �أدون الكلمات الكورية و�أحفظ معانيها لكني مل �أكن �أملك املال ل�رشاء‬

‫‪17‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫القامو�س‪ ،‬لكني كنت �أمتلك �شيئا ً �آخر‪ .‬فلما ّ كنت �أنام بتلك الفرتة ب�أحد الغرف امللحقة‬
‫كنت بعد انتهاء العمل �أحاول اقتحام جهاز الكمبيوتر املوجود بغرفة‬ ‫بامل�صنع‪ ،‬فقد ُ‬
‫ا�ستطعت اقتحام ذلك الكمبيوتر ومعرفة كلمة‬
‫ُ‬ ‫اال�ستقبال؛ وبعد حماوالت طويلة‪،‬‬
‫املرور‪ ،‬وبد�أت من خالل ذلك اجلهاز بتعلم اللغة الكورية عرب �أحد مواقع اجلامعات‬
‫الكورية‪ ،‬ف�أنا �أجيد اللغة الإجنليزية ب�شكل جي ٍد جدا ً وذلك �س َّهل علي تعلم اللغة‬
‫الكورية عرب اللغة االجنليزية!!‬
‫كنت بعد ذلك �أجول بحرية يف ال�شبكة العنكبوتية التي كانت يف تلك الفرتة �أي‬
‫عام واحد وت�سعني ما تزال �صغرية جدا ً وحمدودة �أي�ضاً‪ .‬و�أعتقد �أن ذلك هو ما كان‬
‫الدافع بالإ�ضافة للملل لكي �أبد�أ باقتحام املواقع االلكرتونية ولكني مل �أكتف بذلك‬
‫�أي�ضاً‪ ،‬فلقد كنت بعد مرور ما يقارب الثالثني يوما ً على و�صويل �إىل كوريا وعلى‬
‫عملي يف امل�صنع‪ ،‬قد ا�شتقت لالت�صال بوالدتي ووالدي لالطمئنان عليهما وخا�صة‬
‫بعد عودة �أحمد‪.‬‬
‫ولأنني ال �أملك املال الالزم ل�رشاء كرت هاتف االت�صال فلقد قررت �أن �أقتحم‬
‫�رشكة االت�صاالت الكورية وخالل خم�سة �أو �ستة �أيام متكنت من فك �شفرة‬
‫االت�صاالت الكورية ولقد �أ�صبحت �أجري املكاملات الهاتفية ب�شكل جماين طول فرتة‬
‫تواجدي بكوريا �أي طوال �ستة �أعوام حتى عندما حت ّولت ال�رشكة �إىل النظام الرقمي‬
‫بدل النظام ال�سابق فلقد ا�ستطعت �أن �أفك تلك ال�شفرة �أي�ضاً‪ ،‬ومل � ِ‬
‫أكتف بذلك بل قمت‬
‫بفك �شفرة الهواتف اجلوالة ؛ وهنا حتولت احلاجة �إىل املال �إىل �سبب دخويل عامل‬
‫جديد علي وهو عامل (قر�صنة الكمبيوتر)؛ «الهاكرز»‪ ،‬بعد �أن �أمتمت خم�سة و�أربعني‬
‫يوماً‪ ،‬ت�سلمت راتبي وكان كبريا ً جدا ً يعادل راتب ثمانية موظفني يعملون يف الأردن‪.‬‬
‫�إال �أنني مل �أ�رصف من ذلك املبلغ �سوى القليل جدا ً على �رشاء بع�ض الطعام واملالب�س‬
‫واحتفظت بالباقي‪ ،‬وما �إن جاء ال�شهر الثاين والراتب الثاين حتى كنت قد جمعت‬
‫مبلغ اخلم�سة �آالف دوالر‪ ،‬وقمت على الفور ب�إر�ساله �إىل والدي مع مبلغ �آخر‬
‫م�رصوف للعائلة‪ ،‬وهنا �سددت ديوين وبد�أت �أر�سل كل ما بقي معي من مال �إىل‬
‫والدي‪ ،‬مما جعل و�ضع عائلتي يتح�سن ب�شكل كبري جداً‪ ،‬بحمد اهلل‪.‬‬
‫وهنا �أقول احلمد هلل لأين طوال فرتة وجودي يف كوريا كنت �أحافظ على �صالتي‬

‫‪18‬‬
‫و�صومي وعبادتي بف�ضل اهلل ع ّز وج ّل‪ ،‬وكنت �أي�ضا ً �أحافظ على �إبقاء لياقتي البدنية‬
‫على �أح�سن حال من خالل التدريب املكثف الذي كنت �أمار�سه بعد �صالة الفجر‬
‫ب�شكل يومي حلني موعد العمل‪.‬‬
‫بعد عدة �أ�شهر على هذا احلال قررت ترك العمل يف ق�ص الأ�شجار واملنجرة‪،‬‬
‫والتوجه للعمل مبكان �أمار�س فيه هوايتي �أي امليكانيك‪ ،‬فعملت مب�صنع لل�صناعات‬
‫البال�ستيكية وبعد فرتة �أ�صبحت عامالً وميكانيكيا ً للآالت يف امل�صنع‪.‬‬
‫�أما يف �أوقات ما بعد الع�رص فلقد �أردت �أن �أكمل هذه الهواية يف �أوقات ما بعد الدرا�سة‪،‬‬
‫فقمت بالت�سجيل يف �أحد معاهد الهند�سة ودر�ست تخ�ص�ص االلكرتوميكانيكا؛ �أي‬
‫االلكرتونيات وامليكانيك‪.‬‬
‫وهنا يا ابنتي احلبيبة ويا مالكي احلار�س �أقول ل ِك �أين كما يقال ل ِك مل �أكن‬
‫�أملك قلبا ً �أبدا ً �أبداً‪ ،‬بل كنت �أملك عقلني اثنني‪ :‬عقل يتقن جمع املال‪ ،‬وعقل �آخر‬
‫أ�صبحت قر�صان كمبيوتر وقر�صان �شبكات‬ ‫ُ‬ ‫من�صب على حتدي القانون‪ ،‬فلقد �‬
‫االت�صاالت‪ ،‬ولكن الأهم هو ذلك العقل الذي خ�ص�صته لفل�سطني فلقد تعلمت‬
‫املتفجرات والعبوات النا�سفة؛ تعلمت ذلك من م�صادره الأ�صلية ‪ :‬من املواقع‬
‫الع�سكرية املوجودة يف �شبكة الإنرتنت‪ .‬فتعلمت الكثري‪ ،‬وحولت تلك املعرفة �إىل‬
‫خربة عملية‪ .‬فلقد كنت �أم�ضي عطلة نهاية الأ�سبوع يف كوريا هناك يف الغابات‬
‫تار ًة �أفجر عبوة وتار ًة �أجرب مادة حارقة جديدة‪ ،‬وهنا ا�ستطعت �أن �أدمج ما بني‬
‫�صناعة املواد املتفجرة و�صناعة املواد االلكرتونية الالزمة لتفجري تلك املواد‪،‬‬
‫ف�أ�صبحت خبريا ً بكلتي الناحيتني ف�أنا من ي�صنع املواد املتفجرة‪ ،‬و�أنا �أي�ضا ً من‬
‫ي�صنع الأدوات االلكرتونية اخلا�صة بها‪.‬‬
‫كان ذلك �صعبا ً جدا ً ومعقدا ً جدا ً لكني كنت �أحبه جدا ً فهو �أ�صبح هوايتي‬
‫يف بالد الغربة كوريا‪� .‬أما ريا�ضة اجلودو فلقد تطورت معي هي الأخرى فلقد‬
‫بد�أت �أتدرب بنا ٍد خا�ص وجمعت تدريبي على اجلودو بالتدرب على التايكواندو‪،‬‬
‫فالكوريون ال يحبون ريا�ضة اجلودو لأنهم ب�شكل عام ال يحبون اليابانيني‪،‬‬
‫فاجلودو ريا�ضة يابانية‪ ،‬واليابان كانت قد احتلت كوريا لفرتة طويلة جداً‪ ،‬ولذلك‬
‫فالكوريون ال يحبون �أي �شيء ي�أتي من اليابان مهما كان حتى الريا�ضة‪ ،‬حتى‬

‫‪19‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫اجلودو حبيبتي مل يكونوا يحبونها فلذلك تعلمت التايكواندو فهي ريا�ضة كورية‬
‫�أ�صلية‪ ،‬فتعلمتها وبخا�صة تلك املراحل اخلا�صة بقتال ال�شوارع �أو ما يعرف‬
‫بقتال القوات الع�سكرية اخلا�صة‪.‬‬
‫وبد�أت بالرتدد على النوادي املخت�صة مبو�ضوع القن�ص على ال�سالح‪ ،‬ورغم �أنها‬
‫مكلفة جدا ً �إال �أين ا�ستفدت منها ب�شكل جيد جيداً‪.‬‬
‫وهنا يا ابنتي �أكملت احللقة ب�شكل كامل من العبوات املتفجرة �إىل القن�ص �إىل قتال‬
‫التايكواندو‪ :‬قتال القوات اخلا�صة‪� .‬أما �إن �س�ألتني عن دافعي لذلك كله ف�أقول ل ِك �أن‬
‫الدافع كان جدتكِ‪� :‬أمي‪ .‬ففي تلك الفرتة كانت االنتفا�ضة قد �شارفت على نهايتها‬
‫(انتفا�ضة احلجارة)‪ ،‬وكان بالل ابن عمي الذي تربى معي يف الكويت قد �سافر مع‬
‫�أهله �إىل فل�سطني فقد كان ميلك هوية فل�سطينية‪� ،‬أما �أنا و�أهلي فلم نكن منلك تلك‬
‫الهوية ولذلك بقينا يف عمان‪.‬‬
‫يف فل�سطني �أ�صيب بالل‪ ،‬ابن عمي و�صديقي والنا�شط بكتائب عز الدين الق�سام‪،‬‬
‫�أ�صيب بر�صا�صة ببطنه �أفقدته �إحدى كليتيه‪ ،‬ولقد مكث يف امل�ست�شفى فرتة طويلة‬
‫جدا ً ولأن االت�صاالت كانت مقطوعة بني الدول العربية وبني فل�سطني املحتلة فلقد‬
‫كنت حلقة الو�صل بني �أبناء عائلة الربغوثي وبخا�صة �أمي‪ ،‬و�أعمامي بعمان‪ ،‬وبني‬
‫فل�سطني املحتلة ولذلك كنت �أتابع �أخبار بالل امل�صاب الذي كاد �أن ي�ست�شهد وكدت‬
‫�أن �أفتح له بيت عر�س لل�شهادة يف كوريا‪ .‬بالل كان قد فقد ابن عمه‪ ،‬وعمه �شهداء يف‬
‫بداية االنتفا�ضة الأوىل وها �أنا �أكاد �أن افقده بنهاية نف�س االنتفا�ضة‪.‬‬
‫فكان ذلك هو دافعي الذي حولني �أول مرة من طفل �إىل �شاب م�صمم على مقاومة‬
‫االحتالل وهو �أي�ضا ً ما دفعني بعد �أن �أ�صبحت �شابا ً �أن �أ�صبح رجالً ال هدف عنده‬
‫�سوى مقاومة ذلك االحتالل‪ ،‬فاالحتالل هو �سبب ت�رشد عائلتي‪ ،‬وهو �أي�ضا ً �سبب‬
‫فقري فلو كنت �أحيا بفل�سطني ملا كنت م�رشدا ً فقرياً‪ ،‬الجئاً‪� ،‬أو نازحا ً يف �إحدى‬
‫خميمات ال�شتات‪.‬‬
‫وهنا ال �أحتدث عني �أنا عبد اهلل الربغوثي بل عن كل فل�سطيني ت�رشد وعا�ش‬
‫م�أ�ساة املجتمعات بال�شتات وبالغربة‪ ،‬كان كرهي لالحتالل يكرب ويكرب فلقد تركت‬
‫العمل مب�صنع البال�ستيك و�أ�صبحت �أعمل مرتجما ً للغة الكورية ب�إحدى ال�سفارات‬

‫‪20‬‬
‫العربية و�أ�صبحت �أتاجر بال�سيارات امل�ستعملة عرب ت�صديرها للأردن و�إىل اليمن‪.‬‬
‫�أ�صبحت ثريا ً و�أ�صبح يل عقالن لكني بال قلب‪ ،‬قلب يحب ويع�شق رغم �أن الفتيات‬
‫كن يطاردنني‪ ،‬وكن ي�سبّنب يل احلرج ال�شديد‪ ،‬وذلك لأين كنت �أ�صدهن عني ب�شتى‬
‫الو�سائل وال�سبل‪ ،‬واهلل �إن �صد الفتاة �أ�صعب �ألف مرة من ا�ستمالتها‪.‬‬
‫ولذلك قررت �أن �أتزوج‪� ،‬أتزوج بال حب وبال م�شاعر‪ ،‬فتزوجت فتاة كورية‬
‫كانت تدر�س الآداب والفنون اجلميلة‪ ،‬تزوجتها وبقيت على حايل �أعمل و�أتدرب على‬
‫هواياتي التي �أحب‪ :‬هواياتي التي �أق�سمت �أن تكون و�سيلتي لتحرير بالدي‪ ،‬لتحرير‬
‫القد�س والأق�صى لتحرير الإن�سان من جربوت االحتالل‪ .‬مل ي�ش�أ اهلل �أن تبقى الأمور‬
‫على حالها فلقد اندلعت مواجهات بني طلبة جامعة �سي�ؤول وبني قوات ال�رشطة‬
‫ف�شاركت‬
‫ُ‬ ‫الكورية على خلفية اغت�صاب عدد من اجلنود الأمريكيني لفتاة كورية‬
‫بتلك ال�صدامات وبد�أت ب�إلقاء قنابل امللتوف احلارقة‪ ،‬فاعتقلت ولوال تدخل ال�سفري‬
‫مت �إبعادي �إىل الأردن‪ ،‬مكبالً بالقيود‪ ..‬لقد ركبت‬ ‫اليمني ملا خرجت من املعتقل‪ ،‬و ّ‬
‫الطائرة طوال الرحلة و�أنا مكبل اليدين والقدمني حتى و�صلت �إىل عمان‪.‬‬
‫ولقد كانت زوجتي الكورية (مي �سن �أوكي) ‪�-‬أ�سميتها �أنا (�إ�رساء)‪ -‬قد و�صلت‬
‫قبلي �إىل عمان‪ ،‬ومت احلجز على ما كنت �أملكه من مال يف البنوك الكورية ما يقارب‬
‫عدت فقريا ً مرة �أخرى‪ ،‬عدت‬ ‫العامني‪ ،‬ولذلك فرغم ما �أملكه من مال يف البنك �إالّ �أين ُ‬
‫بال مال‪ ،‬كما �سافرت‪.‬‬
‫ي�شهد اهلل �أين و�صلت لعمان ومل يكن معي قر�شا ً واحداً‪ .‬هناك كان �صديقي �أحمد‬
‫�شويا�ش ينتظرين مع زوجتي ووالدي ووالدتي لي�أخذين ب�سيارته �إىل منزل �أهلي‪.‬‬
‫�أحمد كان قد تزوج و�أجنب عدة �أطفال‪� ،‬أما �أنا فلم تكن زوجتي «مي �سن» قد �أجنبت‪.‬‬
‫فلقد كانت تعاين من م�شكلة يف الإجناب وبعد عدة �أعوام من املحاولة يف كوريا ويف‬
‫عمان ا�ستمرت �ستة �أعوام وب�سبب ال�ضغوط الكبرية التي مور�ست علي من قبل‬
‫من هم حويل با�ستثناء �أمي و�أبي‪ ،‬فهما مل ي�ضغطا علي �أبدا ً �أبدا ً يف هذا املو�ضوع‪� ،‬أما‬
‫خاالتي فلم يق�رصن بال�ضغط علي وحتى بال�ضغط على �أمي‪.‬‬
‫بعد مرور عامني ا�ستطعت عن طريق ال�سفارة الكورية يف عمان �أن �أح�صل كل‬
‫ما كنت �أملكه بكوريا من اموال و�أن �أبد�أ عدة �أعمال ناجحة يف عمان؛ فا�ستطعت �أن‬

‫‪21‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫�أمتلك م�سكني اخلا�ص و�سيارة‪ .‬وكنت يف تلك الفرتة �أحيا و�أعي�ش ببحبوحة كاملة‪،‬‬
‫مما كثف ال�ضغوط علي لإيجاد حل مل�شكلة عدم �إجناب زوجتي‪ ،‬فقررت �أن �أتزوج‬
‫عجزت عن �إيجاد عالج‬ ‫ُ‬ ‫عليها‪ .‬وي�شهد اهلل �أين مل �أقدم على هذه اخلطوة �إال بعد �أن‬
‫لها‪ ،‬فلقد كنت حمتاجا ً �إىل الأبناء والبنات ليكملوا فرحتي‪.‬‬
‫يف تلك الفرتة كنت قد جتاوزت اخلام�سة والع�رشين‪ ،‬حاولت �أن �أقنع «مي �سن»‬
‫�إال �أنها رف�ضت ذلك ب�شكل قاطع وكانت تلك هي املرة الأوىل والوحيدة طوال فرتة‬
‫زواجنا التي امتدت ما يقارب �ستة �أعوام ال ترف�ض يل طلبا ً رغم تفهمها للأ�سباب‪،‬‬
‫�إال �أنها رف�ضت‪« ،‬فمي �سن» كانت تعتربين جزءا ً منها ال ميكنها اال�ستغناء عنه‬
‫�أبد�أً‪ ،‬فعندما كنت �أتدرب يف النادي كانت ترافقني �إىل النادي وجتل�س على �أحد‬
‫املقاعد �صامتة وتراقبني‪ ،‬كانت دائما ً حويل ومعي تعد يل �أف�ضل و�أجود الطعام‪،‬‬
‫ت�سهر على راحتي وترعاين وك�أين ابنها �أو �أبوها الكبري‪ ،‬كانت حتبني‪ ،‬نعم كانت‬
‫حتبني جداً‪ ،‬بل حتبني �أكرث من �أي �شي ٍء �آخر بهذه الدنيا‪ ،‬فلقد قالت يل كيف‬
‫�أ�ستطيع �أن �أقت�سم دنياي مع زوجة �أخرى‪� ،‬أما �أنا فال �أدري �إن كنت �أحبها‪ ،‬فكما‬
‫قلت‪ ،‬مل يكن عندي �أ�صالً قلب لأحب‪ ،‬لكنني تعودت عليها وتعودت على وجودها‬
‫يف حياتي‪ ،‬فهي زوجة �صاحلة هادئة مطيعة‪ ،‬و�أنا مل �أق�رص معها ب�أي �شيء طوال‬
‫فرتة زواجنا‪ ،‬فهي كانت ترى �أنه ال يوجد �أي اهتمام عندي بالن�ساء‪ ،‬فكل اهتمامي‬
‫حم�صو ٌر بالعمل والتدرب‪.‬‬
‫ال�رس الوحيد الذي كنت �أخفيه عنها هو هوايتي ب�صناعة العبوات النا�سفة‪ ،‬فتلك‬
‫رسا ً مق ّد�سا ً مل �أ�رشك به �أحدا ً طوال تلك الفرتة‪.‬‬
‫الهواية كانت �رسية جداً‪ ،‬كانت � ّ‬
‫هي رف�ضت �أن �أتزوج عليها و�أنا �أ�رصرت‪ ،‬فانف�صلنا‪ ،‬وكان هذا االنف�صال‬
‫غريباً‪ ،‬غريبا ً جداً‪ ،‬انف�صلنا ك�أ�صدقاء‪ ،‬حتى �أين ذهبت �إىل �أحد حمالت املجوهرات‬
‫وا�شرتيت لها عدة �أطقم من الذهب ومن املالب�س ومن الهدايا لوالدتها ووالدها‪،‬‬
‫و�أو�صلتها �إىل املطار مودعا ً �إياها حزينا على الفراق‪ .‬بقيت على هذا احلال عدة‬
‫�أ�شهر ال �أكلم �أحدا ً وال �أطيق �أحداً‪� ،‬أم�ضي وقتي يف العمل‪ ،‬العمل وال �شيء �سوى‬
‫العمل‪ ،‬حتى فل�سطني فلم �أكن ب�شوق لها بل مل �أكن �أبايل ب�أخبارها �أبداً‪� .‬أما �سبب‬
‫ذلك فهو دخول �سلطة الف�ساد والإف�ساد �سلطة �أو�سلو‪ ،‬تلك ال�سلطة التي ت�ضم‬

‫‪22‬‬
‫جمموعة من الفا�سدين القذرين املرت�شني‪� ،‬أولئك الل�صو�ص الذين مل يكتفوا ب�أن‬
‫�رسقوا مال الثورة والثوار بل �رسقوا دماء �شهداء االنتفا�ضة الأوىل‪ ،‬انتفا�ضة‬
‫احلجارة فباعوا دماء ال�شهداء من �أجل �أن يعودوا بف�سادهم �إىل فل�سطني‪،‬‬
‫يعودوا ليدن�سوها‪.‬‬
‫�صببت اهتمامي على �أعمايل وجتارتي التي بد�أت تكرب ف�أ�صبحت ال �أدخل بيتي‬
‫�إال من �أجل النوم‪ ،‬فكل وقتي يف العمل طوال �أيام الأ�سبوع ال�سبع‪ ،‬فلقد كنت حزينا ً‬
‫بل تائها ً نوعا ً ما؛ تائها لأنني ال �أعلم ماذا �أفعل مبو�ضوع الزواج‪ ،‬ف�أنا كنت �أعي�ش‬
‫حياة �سعيدة جدا ً مع زوجتي ال�سابقة‪ ،‬رغم عدم حبي لها‪ .‬كنت �أرى من هم حويل‬
‫من �أخوال و�أعمام و�أ�صدقاء مل ال يعي�ش احد منهم مبثل تلك ال�سعادة التي ع�شتها‬
‫بل �إن كثريا ً منهم كانوا تع�ساء‪ ،‬رغم �أن عندهم الكثري من الأوالد‪ .‬كنت �أخ�شى �أن‬
‫�أتزوج ف�أ�صبح واحدا ً مثلهم‪� ،‬أخ�شى �أن ت�صبح زوجتي هي القيد الذي يقيدين‪،‬‬
‫ولذلك قررت �أن �أ�سافر �إىل �إ�سبانيا ‪ :‬بر�شلونة حتديدا ً حيث يعي�ش ابن خايل وهو‬
‫ٌ‬
‫ورفيق يل‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫�صديق‬ ‫يحمل اجلن�سية الإ�سبانية وهو �أي�ضا ً‬
‫يف تلك الفرتة بد�أت ب�إعداد الأوراق الالزمة لل�سفر‪ ،‬وبد�أت �أ�صغر �أعمايل يف‬
‫الأردن‪ ،‬حتى جاءت العا�صفة بل حتى الت�سونامي الذي ال ميكن لأحد ال�صمود‬
‫بوجه ذلك الت�سونامي وتلك العا�صفة ‪ :‬انها �أمي‪� ،‬أمي الهادئة الطيبة احلنونة التي‬
‫تبكي �إذا ما �شاهدت م�شهدا ً حزينا ً على التلفاز‪� ،‬أمي �أ�صبحت عا�صفة هوجاء بكل ما‬
‫حتمل الكلمة من معنى‪.‬‬
‫فقد علمت عن طريق ال�صدفة من زوجة خايل �أين �أرتب لل�سفر عند ابنها يف �إ�سبانيا‪،‬‬
‫فجن جنونها‪ ،‬فذهبت �إىل منزيل‪-‬الذي مل تكن قد دخلته منذ طالقي للكورية‪-‬‬
‫فوجدت �أن منزيل على حاله مل يتغري عليه �شي ٌء �أبداً‪ ،‬ف�صور الكورية متلأ املنزل‬
‫ومالب�سها ‪� -‬أو ما بقي من تلك املالب�س‪ -‬متلأ اخلزائن‪ ،‬وجدت كل �شيء على حاله‪،‬‬
‫وكنت بعملي فارا ً من تلك الذكريات‪ ،‬وهنا قامت العا�صفة‪ ،‬فبد�أت �أمي بجمع كل‬
‫ما ميت للكورية ب�صلة‪ :‬ال�صور املالب�س وحتى الطعام الكوري‪ ،‬البهارات الكورية‬
‫الكتب الكورية و�أ�رشطة الفيديو الكورية والأجنبية حتى �ألبوم �صور الزواج جمعت‬
‫كل ذلك بعدة �أكيا�س للقمامة و�ألقته‪� ،‬ألقته يف القمامة‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫عدت بعد منت�صف الليل لأجد �أمي تنتظرين يف البيت‪ ،‬البيت الذي مل �أعرفه‬
‫عندما دخلته فلقد حولته �إىل بيت فل�سطيني �أ�صيل‪ ،‬متلأ اجلدران �صور القد�س‬
‫وخرائط فل�سطني اخل�شبية‪ ،‬تلك اخلرائط اخل�شبية التي كنت �أ�صنعها قبل �أن‬
‫�أ�سافر �إىل كوريا‪ ،‬فلقد كنت بعد عودتي من الدرا�سة والعمل‪� ،‬أدخل �إىل غرفتي‬
‫لأ�صنع جم�سمات جت�سد القد�س وجت�سد خارطة فل�سطني وكنت �أوزع تلك‬
‫املج�سمات على منازل �أخواتي و�أعمامي و�أ�صدقائي‪ ،‬مل تكن جميلة ولكنها‬
‫كانت فل�سطينيَّة �أ�صيلة ت�صنع من خ�شب الزيتون وي�صنعها عا�شق لفل�سطني‪،‬‬
‫وحمب للقد�س‪.‬‬
‫نظرت حويل فلم �أجد املا�ضي القريب‪ :‬مل �أجد كوريا‪ ،‬بل وجدت املا�ضي البعيد‬
‫فل�سطني‪ ،‬وجدتها معلقة على جدران منزيل‪ ،‬لكني مل �أجد نف�سي‪ ،‬مل �أجد عبد اهلل‬
‫اجلمل‪ ،‬حتى بدلة اجلودو اخلا�صة بي فلقد ا�ستعملتها �أمي كمم�سحة وو�ضعتها‬
‫على الباب اخلارجي‪ .‬وعندما �س�ألتها قالت يل‪� :‬أنها قدمية جداً‪ ،‬ا�شرت غريها‪ ،‬بل‬
‫ال ت�شرت غريها‪ ،‬ا�سمع يا عبد اهلل‪� ،‬أق�سم باهلل العظيم �أين �سوف �أغ�ضب عليك ولن‬
‫�أر�ضى �أبدا ً ولي�شهد ربي علي �إن مل متتنع عن ال�سفر و�إن مل تتزوج فوراً‪ .‬قل يل الآن‬
‫ما هي موا�صفات الزوجة التي تنا�سبك قل وال تخ�شى‪ ،‬اذكر موا�صفاتها و�أنا �سوف‬
‫�أجدها لك‪ ،‬كل ما عليك �أن تقول و�أن تن�سى الكورية‪ ،‬ف�أنا �أي�ضا ً كنت �أحب الكورية‬
‫فلقد كانت مبثابة ابنة يل كانت طيبة وحنون لكن هذا كان قدرها‪ ،‬قل يل يا ولدي ما‬
‫هي املوا�صفات وال توجع قلبي‪.‬‬
‫كنت �أعلم �أن قلب �أمي مري�ض‪ ،‬بل مري�ض جداً‪ ،‬فلقد �أجرت قبل فرتة عملية به‪،‬‬
‫�أمي التي تقول �أنها �سوف تغ�ضب علي �إن مل �أمتنع عن ال�سفر و�إن مل �أتزوج‪.‬‬
‫�آه يا �أمي‪� ،‬ألي�ست اجلنة حتت قدميكِ‪ ،‬فكيف �سوف �أقبل �أن �أغ�ضبكِ‪.‬‬
‫�أماه ال تغ�ضبي مني‪� ،‬أماه ال تغ�ضبي علي‪ ،‬ف�أنا املطيع فار�ضي علي‪ ،‬وار�ضي‬
‫على ما قدمته يدي‪.‬‬
‫�صمت قليالً وقلت ح�سنا ً لن �أ�سافر‪ ،‬فنظرت �إيلَّ وقالت‪ :‬ماذا عن الزواج؟‬
‫قلت ن�ؤجله قليالً حتى‪ ،..‬قالت‪ :‬حتى ماذا‪ ،‬حتى تن�سى يا ولدي؟ ال ينا�سبك �إال‬
‫الزواج‪ .‬قلت ح�سنا ً لكن ح�سب �رشوطي‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫�أوالً‪� :‬أريدها من هناك من فل�سطني‪ ،‬ثانياً‪� :‬أريدها من عائلتنا برغوثيّة �أبا ً عن جد‪،‬‬
‫ثالثاً‪� :‬أريدها متعلمة (يف جمال تربية الأطفال) ف�أنا ال خربة يل وال جلد عندي على‬
‫الأطفال‪ ،‬رابعاً‪ :‬ال �أريدها �أن تعمل‪ ،‬ف�أنا والأطفال �سنكون عملها و�شغلها ال�شاغل‪،‬‬
‫خام�ساً‪ :‬وهو الأهم �أريد من �أبيها �أن يكون هو رجل املنزل ال �أمها‪ ،‬ف�أنا ال �أريد زوجة‬
‫قوية حتول حياتي �إىل جحيم من امل�شاكل ؛ وال�سالم ختام‪.‬‬
‫نظرت يل �أمي وقالت‪� :‬شقراء وبي�ضاء‪ ،‬طويلة وممتلئة‪ ،‬جميلة �أال يوجد �شيء‬
‫من ذلك؟ ف�ضحكت وقلت‪ :‬ال �أبدا ً �أبداً‪ ،‬ف�أنا يا �أمي كنت حزينا ً يف بداية طالقي‬
‫للكورية على الكورية‪ ،‬ولكن فيما بعد �أ�صبحت حزينا ً على نف�س الأ�شياء �أخاف �أن‬
‫ال �أجد فتاة مثلها‪.‬‬
‫وهذا هو �سبب رغبتي بال�سفر للخارج حتى �أتعرف على فتاة �أعرفها و�أفهمها ثم‬
‫�أتزوجها‪� ،‬أما هنا بعمان فهذا �صعب علي �أو بالأحرى �أنا ال �أريده‪ ،‬فلم �أجد يف عمان‬
‫من تنا�سبني بعد الكورية‪.‬‬
‫تركتني والدتي وعادت �إىل املنزل‪ .‬والدي مل يكن هناك بل كان يف فل�سطني‪ .‬فلقد‬
‫قرر والدي منذ مدة �أن يزور فل�سطني لر�ؤية الأهل والأقارب‪ ،‬ولكنه بعد ذلك قرر �أن‬
‫يطيل زياراته لفل�سطني لرعاية �أرا�ضيه التي ورثها عن جدي‪.‬‬
‫وال �أدري �أكان وجود والدي يف فل�سطني يف تلك الفرتة من �سوء حظي او من‬
‫ح�سنه‪ ،‬فبمجرد �أن ات�صلت �أمي ب�أبي يف تلك الليلة حتى وجدت �أمي تقف على‬
‫ر�أ�سي يف ال�صباح الباكر‪ ،‬لتوقظني وتقول يل �أنها وجدت يل العرو�س املنا�سبة‪،‬‬
‫باهلل يا �أمي خالل �أقل من خم�س �أو �ست �ساعات وجدت عرو�سا ً مبوا�صفاتي التي‬
‫كنت �أظن �أنها تعجيزية؟ فلقد تركت �أمي منزيل يف ال�ساعة الثانية ليالً وعادت �إليه‬
‫يف ال�ساعة ال�سابعة �صباحاً‪ ،‬فمنزيل ومنزل والدي يف نف�س العمارة‪� ،‬أمي وجدت يل‬
‫عرو�ساً‪ ،‬قلت ح�سناً‪ .‬قالت �أعطني جواز �سفرك واذهب به لتح�صل على فيزا لكي‬
‫ت�سافر �إىل فل�سطني‪.‬‬
‫قلت وما زال النعا�س يطاردين‪� :‬أتريدين جواز ال�سفر �أم ماذا؟ قالت‪ :‬ال �أريد‬
‫جواز ال�سفر‪� .‬أريد �أن تذهب الآن لتح�صل على فيزا وت�سافر لدى العرو�س‪ ،‬هناك‬
‫يف فل�سطني‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫باهلل �سوف �أذهب لفل�سطني التي مل �أعد �أحبها �أمل �أقل يف �إحدى الأيام عندما �س�ألت‬
‫عن حال فل�سطني بعد دخول ال�سلطة ‪:‬‬
‫معتوهة جمنونة تلك البالد‬
‫ُظل ٌم قت ٌل وبيوت ا ِ‬
‫حلداد‬
‫عاثوا بها خرابا ً وا�ستبدادا ً‬
‫قتلوا الأم والطفل الوليد‬

‫هذه فل�سطني التي ال �أحب‪ ،‬فل�سطني التي ال �أريد‪ ،‬كيف �أذهب لفل�سطني التي ما‬
‫عدت �أحب‪ ،‬لكي �أبحث عن فتاة �أحب‪� ..‬أعني يا اهلل‪.‬‬
‫ما هي �إال عدة �أيا ٍم حتى ح�صلت على ت�أ�شرية للزيارة‪ ..‬ودعت �أمي وقلت لها �أين‬
‫ذاهب يف رحلة مع �أ�صدقائي‪ ،‬وبعد عودتي �سوف �أذهب �إىل فل�سطني‪.‬‬
‫مل �أذهب برحل ٍة خارج فل�سطني‪ ،‬بل ذهبت برحلة �إىل فل�سطني‪ ،‬فلقد كان يل �صديق‬
‫مقد�سي ثري انتظرين هناك على املعرب‪� ،‬أو كما ي�سمونه على اجل�رس‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وهو تاجر‬
‫عربت اجل�رس �إىل فل�سطني‪ ،‬لكني مل �أ َر فل�سطني بل ر�أيت �أعالم ال�صهاينة متلأ �أرجاء‬
‫املكان‪ .‬و�صلت مت�أخرا ً رغم �أين خرجت مبكرا ً فلقد ا�ستوقفني املحتلون ليخ�ضعوين‬
‫لال�ستجواب عن �أحوايل وعن ماذا كنت �أعمل‪ ،‬وبخا�صة �أنها �أول زيارة يل لفل�سطني‪.‬‬
‫كانوا يتحدثون معي باللغة العربية املك�رسة نوعا ً ما‪ ،‬فرف�ضت �أن �أجيب بالعربية‬
‫وبد�أت �أحتدث بالإجنليزية مما جعلهم يح�رضون مرتجما ً للغة الإجنليزية‪� ،‬أال‬
‫يكفي �أنهم احتلوا �أر�ضي وقد�سي ويريدون �أن يحتلوا لغتي؟ �سوف �أحدثكم‬
‫بلغة ذلك الوغد احلقري بلفور الذي م ّكنكم عرب وعده امل�ش�ؤوم من احل�صول على‬
‫�أر�ضنا املباركة‪ ..‬لكن لن ميكنكم من احل�صول على لغتي‪ ،‬حتى �أن املرتجم حاول‬
‫�أن يتحدث باللغة العربية �إال �أين مل �أنطق حرفا ً واحدا ً بتلك اللغة وقلت له‪� :‬إن كانت‬
‫اللغة االجنليزية �صعبة عليك‪ ،‬ابحث عن مرتجم للغة الكورية‪ .‬غ�ضب هو‪� ،‬أما �أنا‬
‫فلم �أغ�ضب بل كنت �سعيدا ً و�سعيدا ً جدا ً لأين �أغ�ضبته فلقد �شعر بالإهانة‪� .‬أم�ضيت‬
‫عدة �ساعات حتى جاء امل�ساء وعندها وبدون مقدمات �أعطوين جواز �سفري وقالوا‬
‫يل اعرب‪ ،‬فعربت �إىل فل�سطني‪ .‬مرحبا ً قال يل �صديقي لقد ت�أخرت‪ ،‬ح�صل خري �شو‬

‫‪26‬‬
‫ر�أيك تروح على «فيلتنا» التي ب�أريحا فهي قريبة جدا ً خم�س دقائق من هنا‪ ،‬مل �أتكلم‬
‫واكتفيت بهز ر�أ�سي باملوافقة‪.‬‬
‫فيال جميلة جداً‪ ،‬وم�سبح كبري و�أ�شجار فاكهة رائعة‪ ،‬هناك �أم�ضيت ليلتي‬
‫الأوىل يف �أريحا‪� ،‬أريحا و�أي �أريحا ر�أيت‪ ،‬طلبت من �صديقي �أن ي�صطحبني بجولة‬
‫بداخل مدينة �أريحا‪� ،‬أريحا «غزة �أو�سلو»‪ .‬ر�أيت بها قرية مهجورة حمرومة من‬
‫احلداثة‪ ،‬قرية ال �أكرث فلم تكن �أريحا ً مدينة �أبداً‪ ،‬ر�أيت بها قطيعا ً من ع�ساكر �سلطة‬
‫�أو�سلو‪ :‬قطيعاً‪ ،‬يقوده ذئب‪ .‬بعد ذلك عدنا �إىل الفيال فطلب مني �صديقي �أن �أغري‬
‫مالب�سي‪ ،‬و�أن �أرتدي �أجملها‪ ،‬بل �أغالها ثمناً‪ ،‬قبل �أن �أ�س�أله عن ال�سبب قال‪� :‬إياك‬
‫�أن ت�س�أل‪ .‬باهلل عليك يا عبد اهلل �أن تفعل ما �أطلبه منك‪ .‬فعالً ما هي �إال عدة دقائق‬
‫وكنت �أرتدي �إحدى بديل‪ ،‬تلك البدل التي كنت �أف�صلها هناك يف كوريا عدم �أمتالكي‬
‫ثمن الطعام واملوا�صالت عندما و�صلت �إىل كوريا عندما م�شيت من املطار �إىل غابة‬
‫الأ�شجار‪� ،‬أ�صبحت ثريا ً اقوم بتف�صيل بدالتي وقم�صاين‪ ،‬حتى �أين واهلل كنت‬
‫�أف�صل تلك الباليز التي ترتدي حتت القم�صان‪ ،‬كنت �أُف�صل ربطات العنق من‬
‫احلرير ال�صيني الفاخر‪.‬‬
‫ارتديت �إحدى تلك البدل‪ ،‬و�صعدت ب�سيارة �صديقي تلك ال�سيارة التي ال يقل‬
‫ثمنها عن ن�صف مليون‪� .‬صعدت و�صعد هو �أي�ضا ً فقاد ال�سيارة‪ ،‬عدة دقائق و�صل‬
‫�إىل فندق فخم جدا ً جداً‪ ،‬يف البداية مل �أ�صدق مثل وجود هذا الفندق يف مدينة �أريحا‬
‫�أق�صد يف قرية �أريحا‪ ،‬لكن الفندق كان �ضخما ً وفخما ً ومبا �أين �أحمل جواز �سفر‬
‫�أجنبي‪ ،‬ومبا �أن �صديقي ميلك هوية مقد�سية فلقد دخلنا هناك مثل دخول الفاحتني‪.‬‬
‫ما هي �إال عدة دقائق حتى علمت �أين يف كازينو �أريحا (يف ملهى ليلي ومرتع‬
‫للقمار والف�ساد)‪ ،‬ر�أيت ذلك ب�أم عيني‪ ،‬كازينو ب�أريحا قمة الف�ساد والإف�ساد يف �أول‬
‫مدينة ت�سيطر عليها ال�سلطة!!‬
‫قلت بنف�سي ح�سبي اهلل‪ ،‬ح�سبي اهلل ونعم الوكيل‪ ،‬قلت احلمد هلل �أن ذلك الكاتب‬
‫الفل�سطيني مريد الربغوثي الذي كتب كتاب ر�أيت رام اهلل مل يدخل �إىل هنا‪ ،‬مل ي�شاهد‬
‫ما �شاهدته يف ذلك الوكر‪ ،‬مل يكن القمار وال العاهرات‪� ،‬إمنا العاهرون رجال جهاز‬
‫الأمن الوقائي رجال جربيل الرجوب الذين يتولون حرا�سة الكازينو والإ�رشاف‬

‫‪27‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫الأمني عليه‪ ،‬فلقد كلف بطل الأبطال جربيل الرجوب بت�شكيل جهاز حتت ا�سم‬
‫جهاز الأمن الوقائي‪ ،‬ال اخت�صا�ص له �سوى حماية ال�صهاينة من املقاومة وحماية‬
‫الفا�سدين من الثائرين‪.‬‬
‫ظن �صديقي ب�أنيِّ لن �أطيل ال�سهر هناك‪ ،‬ولكنه كان خمطئا ً فلقد �أطلت ال�سهر‪،‬‬
‫لي�س بلعب القمار‪ ،‬وال مراق�صة العاهرات‪ ،‬و�إمنا وا�صلت ال�سهر‪ ،‬موجها ً ل�صديقي‬
‫ال�س�ؤال تلو ال�س�ؤال عن ما يدور هنا يف الكازينو وهناك يف رام اهلل وغزة‪.‬‬
‫قبل الفجر عدنا �إىل الفيال‪ .‬و�ضعت حقائبي يف ال�سيارة وانطلقنا لن�صلي بالأق�صى‬
‫بالقد�س‪ .‬انطلقنا من الكازينو وكر ف�ساد ال�سلطة �إىل القد�س املحتلة‪ .‬ما �إن و�صلت‬
‫هناك حتى عادت يل روحي‪ ،‬وعادت احلياة تدب بج�سدي من جديد �أ�صبحت حياً‪،‬‬
‫حيا ً �أرزق‪ ،‬بالقد�س عادت يل ذاكرتي وحبي لفل�سطني ورغبتي يف القتال وعقاب‬
‫املحتل‪ .‬هناك يا ابنتي احلبيبة هناك يا مالكي احلار�س‪� ،‬شعرت برغبة باحلياة‪.‬‬
‫لي�س للقد�س و�صف؛ رائحتها جميلة‪ ،‬فلقد مررنا على خمبز ي�صنع الكعك املقد�سي‬
‫فا�شرتينا و�أكلنا ونحن نعرب �أزقة املقد�س‪ .‬بعد �أن عربنا �أ�سوارها �أكلت الكعك فلقد‬
‫كنت جائعا ً فلم �آكل هناك بوكر الف�ساد بالكازينو‪ ،‬ومل �أ�رشب حتى املاء‪ ،‬رف�ضت �أن‬
‫�أدن�س ج�سدي بطعامهم ومائهم‪� .‬أما كعك القد�س فواهلل كان �أحلى و�أروع ما �أكلته‬
‫طوال عمري‪ ،‬فرغم �أين كنت �أتناول الطعام يف �أفخم املطاعم يف كوريا وعمان ورغم‬
‫حبي لطعام �أمي لكني �أقول‪ :‬ال �شيء يعلو على كعك القد�س‪ ،‬يبقى قد�سا ً ال ي�ستطيع‬
‫�أحد �أن يدن�سه فهو الأق�صى املبارك به وحوله‪.‬‬
‫كان ذلك اليوم يا ابنتي هو �صباح يوم اجلمعة‪ ،‬فطلبت من �صديقي �أن يرتكني‬
‫�أم�ضي يومي باملدينة‪ ،‬وقلت له �أننا �سوف نعود �إىل منزله الثاين املوجود يف �أحد‬
‫�أحياء القد�س بعد ال�صالة‪� ،‬أحلحت عليه فوافق‪ ،‬ودعته على �أمل �أن �ألقاه بعد ال�صالة‬
‫عند باب العامود‪ ،‬فبد�أت �أجتول يف �ساحات القد�س ثم يف �أزقة القد�س‪ ،‬تلك القد�س التي‬
‫�أحبها والتي طاملا حلمت ب�أن �أ�صلي بها‪ ،‬ر�أيت امل�ستوطنني‪ ،‬ر�أيت املحتلني ر�أيت الأم‬
‫الفل�سطينية ر�أيت القد�س‪ ،‬رغم كل غ�ضبي على املحتلني �إال �أن غ�ضبي على ال�سلطة‬
‫والف�ساد والإف�ساد كان �أكرب و�أعظم‪.‬‬
‫بد�أت �أبيات ال�شعر يف تلك اجلولة املقد�سية حتوم حويل ك�أنها �رسب من ال�صقور‬

‫‪28‬‬
‫فقلت الأبيات التالية‪ ،‬ال �أدري �أهي �شعر �أم �أي �شي ٍء �آخر‪.‬‬
‫�أظن �أن امل�شاعر �أ�صبحت كلمات ال �أكرث وال �أقل؛ ف�أنا يا ابنتي ل�ست �شاعرا ً وحتى‬
‫�أين ال �أخفي ِك �رسا ً �إن قلت لك �أين ال �أحب ال�شعر �أ�صالً‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫يف القد�س ماعاد لالنتظار مكان‬
‫يف القد�س ما عاد باملكان ان�سان‬
‫يف القد�س غر�ست انياب الطغيان‬
‫يف القد�س غر�س ال�صهاينة واال�ستيطان‬
‫يف القد�س ما عاد للحجارة ثمن‬
‫يف القد�س ما عاد ي�سمع �صوت االذان‬
‫يف القد�س غر�س املحتل احلزن‬
‫يف القد�س وغر�سه قاطعي الزيتون‬
‫يف القد�س ما عاد للقباب ملعان‬
‫يف القد�س ما عاد حي �سلوان‬
‫يف القد�س غر�س الظالم واجلنون‬
‫يف القد�س غر�س عط�ش الظم�آن‬
‫يف القد�س ما عاد زيت وزيتون‬
‫يف القد�س ما عاد امل�صلون ي�ؤمون‬
‫يف القد�س غر�س ظلم بال قانون‬
‫يف القد�س غر�س ق�ضاة ظاملون‬
‫يف القد�س ما عاد يطحن طحني‬
‫يف القد�س ما عاد عنب ورمان‬
‫يف القد�س غر�س الكره ال الغفران‬
‫يف القد�س غر�س اجلهل والطغيان‬
‫يف القد�س ما عاد هناك اديان‬
‫يف القد�س ما عاد هناك م�صلون‬

‫‪29‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫يف القد�س غر�س اعداء غيالن‬


‫يف القد�س غر�س وح�ش جمنون‬
‫يف القد�س ما عاد الأبي�ض لون‬
‫يف القد�س ما عاد بال�سماء �ألوان‬
‫يف القد�س غر�س قلب حزين‬
‫يف القد�س غر�س �أعمى بال عيون‬
‫يف القد�س ما عاد للمكان تكوين‬
‫يف القد�س ما عاد يقر�أ الق ـ ــر�آن‬
‫يف القد�س غر�س اجلن واجلان‬
‫يف القد�س غر�س من الكفر دان‬
‫يف القد�س ما عاد هناك فل�سطينيون‬
‫يف القد�س ما عاد �سوى بني �صهيون‬
‫يف القد�س غر�س جثمان املجاهدين‬
‫يف القد�س غر�س القيد ب�أيدي امل�أ�سورين‬

‫قلت تلك الأبيات يا ابنتي احلبيبة ويا مالكي احلار�س بعد �أن �صليت يف القد�س‪،‬‬
‫فقد �سمح يل بال�صالة يف الأق�صى لأين �أحمل جواز �سفر �أجنبي ومل ي�سمح‬
‫للفل�سطينيني ال�شباب بالدخول لل�صالة قلت تلك الكلمات بعد �أن ر�أيت �أول �شهيد‬
‫ي�صلى عليه‪� ،‬شهيدا ً ارتقى للعال على يد م�ستوطن حمتل قام بطعنه ب�أحد �شوارع‬
‫القد�س‪ ،‬ف�صلوا عليه و�صليت‪ ،‬وكربوا وهللوا فكربت وهللت‪ ،‬قلت اهلل �أكرب اهلل �أكرب‪.‬‬
‫ولكن �أحدهم قال جملة �أ�صبحت هي حمور حياتي القادمة قال ذلك الفتى االنتقام‬
‫االنتقام يا كتائب الق�سام‪ ،‬االنتقام االنتقام يا كتائب الق�سام‪ ،‬فكررت من بعده وكرر‬
‫كل من كانوا هناك‪.‬‬
‫غ�ضبت وع�شقت و�صليت وذقت لأول مرة احلب‪ ،‬فلقد �أحببت القد�س وقبة‬
‫ال�صخرة امل�رشفة من �أول نظرة‪ ،‬بل ع�شقتها من �أول كعكة‪.‬‬
‫ت�أخرت على �صديقي لكنه بقي ينتظرين عند باب العامود �إحدى بوابات القد�س‬

‫‪30‬‬
‫ال�رشيف‪ ،‬كان قلقا ً ب�سبب حادثة ا�ست�شهاد ال�شاب املقد�سي‪ ،‬كان قلقا ً علي لكني كنت‬
‫قلقا ً على فل�سطني‪ ،‬ذهبنا �إىل منزله الكائن ب�أحد �ضواحي القد�س‪ ،‬فتناولنا الطعام‬
‫وبعد ذلك طلبت منه �أن يرتكني لكي �أنام‪ ،‬ف�أنا مل �أكن قد منت منذ ليلة البارحة‪.‬‬
‫منت حتى امل�ساء‪ ،‬ويف امل�ساء �أخذين لزيارة بيت حلم‪ ،‬فتجولت بها وبكني�سة امليالد‬
‫و�أ�ض�أت �شمع ًة هناك على املذبح‪ ،‬فامليالد مثل القد�س والقد�س مثل امليالد عندي‪،‬‬
‫بعد ذلك عدنا باجتاه اخلليل و�أم�ضينا ليلتنا هناك عند �أحد �أ�صدقائنا‪ .‬بقيت طوال‬
‫فرتة ال�سهرة �أ�س�أل عن �أحوال فل�سطني و�أحوال اخلليل خليل الرحمن عن ق�صة ذلك‬
‫امل�ستوطن الذي قتل امل�صلني باحلرم الإبراهيمي ال�رشيف‪ ،‬ق�صوا علي الق�صة‪.‬‬
‫�أهم ما قالوا مل يكن القاتل الذي قتل �شهداءنا يف تلك املجزرة الب�شعة‪ ،‬وتلك‬
‫اجلرمية الدنيئة‪ ،‬بل كان من ذلك املقاوم املهند�س يحيى عيا�ش‪ ،‬ذلك املهند�س‬
‫الق�سامي الذي ث�أر وعاقب ال�صهاينة من خالل عملياته اال�ست�شهادية‪ ،‬ومن خالل‬
‫مقاومته للمحتلني امل�ستوطنني‪ .‬لقد �أحببت يحيى عيا�ش مثلما �أحببت القد�س متاماً‪،‬‬
‫فعيا�ش ذلك املهند�س الق�سامي �أعاد يل من خالل حديثهم عنه روح املقاومة وروح‬
‫الت�صدي للظلم والطغيان‪.‬‬
‫يف ال�صباح الباكر ذهبنا �إىل مدينة رام اهلل لكني وجدتها نائمة‪ ،‬ظننت �أين �سوف‬
‫�أرى املظاهرات تخرج �ضد االحتالل ب�سبب ا�ست�شهاد ال�شاب املهند�س‪ ،‬لكني مل �أرى‬
‫�سوى قطيع �أغنام الأجهزة الأمنية‪� ،‬أجهزة �أو�سلو التي متنع النا�س من اخلروج‬
‫للتظاهر �ضد االحتالل ون�رصة ال�شهيد‪..‬‬
‫قلت معاتبا ً مدينة رام اهلل وراثيا ً‬
‫وهنا يا ابنتي اجلميلة ويا مالكي احلار�س‪ُ ،‬‬
‫حالها‪:‬‬
‫رام اهلل قومي ا�ستيقظي �أرجوكِ‬
‫و�أيقظي كل من �أحبوكِ‬
‫�أحزينة �أنتِ ف�أبك ــوكِ‬
‫على ال�شهداء الذين ودعوكِ‬
‫وحتالفوا مع املحتل فبالظهر طعنوكِ‬
‫رام اهلل قومي ا�ستيقظي �أرجوكِ‬

‫‪31‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫بعد �أن جتولت قليالً يف مدينة رام اهلل‪� ،‬ضاق �صدري مبواكب احلرا�سات‬
‫الفل�سطينية التي حتر�س كبار ال�شخ�صيات وهي جتول وت�صول يف املدينة امل�سلوبة‬
‫املنهوبة من قبلهم‪� ،‬أال يكفي �أن �سلبها املحتل ال�صهيوين‪� ،‬أال يكفينا ما حل بها‪� ،‬أم‬
‫هي بحاجة لأن يدخلها �أبطال �أو�سلو لكي ميار�سوا بطولتهم عليها ويزيدوا من‬
‫جراحها جراحا ً ؟‬
‫وهنا طلبت من �صديقي �أن ي�صطحبني بعيدا ً جدا ً �إىل البحر واىل املدن املحتله ‪:‬‬
‫هناك اىل يافا وحيفا و�إىل اللد والنا�رصة‪ .‬زرت تلك املدن التي رغم �أنها حمتلة ب�شكل‬
‫كامل �إال �أنها كانت خالية من قوات االحتالل‪ ،‬فهي �أ�صبحت الآن من امل�سلمات بعد �أن‬
‫تنازل عنها املفاو�ض الفل�سطيني‪ ،‬ذلك املفاو�ض الذي مل يفو�ضه �أحد لكي يبت ب�أمر‬
‫فل�سطني‪ ،‬فاو�ض وباع وتنازل عن كل تلك الأرا�ضي التي احتلت قبل عام ‪،1948‬‬
‫ذلك املفاو�ض الذي ح�رص مطالبه يف ال�ضفة والقطاع وبع�ض ال�شوارع املجاورة‬
‫ملدينة القد�س‪.‬‬
‫ح�سبي اهلل ونعم الوكيل على كل من باع ذرة تراب من تراب فل�سطني‪ ،‬فل�سطني‬
‫القد�س والأق�صى‪ ،‬فل�سطني الفاحت عمر بن اخلطاب‪ ،‬فل�سطني التحرير �صالح الدين‪،‬‬
‫باعوها وح�صلوا على «بطاقات ال�شخ�صية املهمة ‪ »VIP‬بدالً منها‪ .‬ح�صلوا على‬
‫املواكب املرافقة‪ ،‬وملأوا جيوبهم وح�ساباتهم البنكية؛ قب�ضوا ثمن كل قطرة دم‬
‫نزفت على تراب فل�سطني‪.‬‬
‫هناك يف النا�رصة زرت كني�سة الب�شارة و�أ�شعلت �شمعة فيها‪ .‬ف�أنا يا ابنتي‬
‫تعودت �أن �أزور الأماكن التاريخية‪ ،‬ولقد اكت�سبت هذه العادة من خالل درا�ستي‬
‫للأدب الكوري‪ .‬فلقد زرت كل املعابد يف كوريا‪ :‬معابد وكنائ�س وم�ساجد‪ .‬ولذلك‬
‫�أ�صبحت �أرغب بالتعرف على الآخر‪ ،‬على احل�ضارة وعلى العادات والتقاليد‪� .‬أما‬
‫على ال�شاطئ وعندما حل موعد الغداء فلقد �أكلت ال�سمك وما �إن اختلطت رائحة‬
‫ال�سمك امل�شوي مع رائحة مياه البحر‪ ،‬حتى قلت كلمة‪ ،‬بل جملة جعلت �صديقي يفر‬
‫من كر�سيه راجيا ً �إياي بال�سكوت‪.‬‬
‫لقد قلت �أق�سمت باهلل �أن �أحرر فل�سطني كل فل�سطني‪� ،‬أق�سم �أن �أجرد ال�صهاينة‬
‫منها‪ ،‬و�أق�سم �أن �أجرد �أ�شباه رجال �أو�سلو منها‪ ،‬وكررت ذلك خماطبا ً البحر‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫كررت ما قلت وكان �صوتي يعلو ويعلو‪� ،‬أما �صديقي املقد�سي فكان يرجوين‬
‫ب�أن �أ�سكت‪ ،‬مل �أ�سكت بل كررت ب�صوت �أعلى و�أعلى‪ ،‬ولكني قلت تلك اجلمل بلغة ال‬
‫يفهمها �صديقي �أو من كانوا باملكان‪ ،‬قلتها باللغة الكورية لغتي التي تعلمتها عندما‬
‫در�ست وعملت بكوريا‪ ،‬فتحولت تلك اجلمل �إىل ما ي�شبه حلن ن�شيد جميل‪ ،‬فل�سطني‬
‫كل فل�سطني‪ ،‬وال �شيء �سوى كل الكل يف فل�سطني‪.‬‬
‫بعد �أن انق�ضى النهار وحل امل�ساء‪ ،‬كانت �أول املدن ال�ساحلية الفل�سطينية تزداد‬
‫جماالً وت�ألقاً‪ ،‬تناولت ع�شائي وطلبت من �صديقي �أن يو�صلني لقريتي‪� ،‬إىل بيت‬
‫رميا حيث منزل والدي حيث العرو�س تنتظرين‪.‬‬
‫يف الطريق �إىل القرية كنت �صامتا ً غارقا ً بالتفكري‪ ،‬فلقد قررت �أنه مبجرد ر�ؤيتي‬
‫للعرو�س �أن �أقول ال و�ألف ال‪ ،‬هذه العرو�س ال تنا�سبني �أبداً‪ .‬هكذا قررت‪ ،‬وعلى‬
‫هذا نويت‪.‬‬
‫و�صلنا القرية بعد منت�صف الليل‪ ،‬كنت �أظن �أين �سوف �أجد �صعوبة‬
‫بالو�صول ملنزل والدي‪ ،‬ولكني وجدت والدي ينتظرونني على مدخل القرية‬
‫ومعه عد ٌد من �أبناء عمي‪ ،‬ينتظرين منذ �أيام‪ ،‬فلقد �صادف �أن والدة �صديقي‬
‫املقد�سي زارت �أمي يف عمان‪ ،‬و�أخربتها �أين هناك يف فل�سطني منذ عدة �أيام‪،‬‬
‫والدي كان يعتقد �أين قد اعتقلت من قبل قوات االحتالل على احلدود �أنا‬
‫و�صديقي املقد�سي الذي كان ينتظرين على اجلانب الآخر من احلدود لأننا‬
‫طوال تلك الأيام مل نت�صل ب�أحد عرب الهاتف �أو اجلوال‪ ،‬فلقد �أطف�أت جهازي‬
‫وطلبت من �صديقي �أن يطفئ هو الآخر جهازه حتى ال يزعجنا �أحد خالل‬
‫رحلتنا يف ربوع فل�سطني الأ�سرية‪ .‬والدي كان غا�ضبا ً‪ ،‬بل غا�ضبا ً وم�رسور ا ً‪،‬‬
‫فلقد ر�آين �ساملا ً و هذا ما كان يهمه‪ .‬فربغم �أين جتولت وزرت عدد ا ً كبري ا ً جد ا ً‬
‫من دول العامل �إال �أنها املرة الوحيدة طوال عمري التي يقلق بها والدي علي‪،‬‬
‫ف�أنا زرت معظم دول �آ�سيا مثل كوريا وهونغ كونغ وتايوان وال�صني واليابان‬
‫وحتى �أين زرت ماليزيا واندوني�سيا وتايالند‪� ،‬أما عربيا ً فزرت معظم دول‬
‫اخلليج العربي والعراق و�سوريا‪ ،‬مل يقلق علي والدي �أبداً‪� ،‬أما هذه املرة فلقد‬
‫قلق جدا ً وغ�ضب جداً‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫وعندما �س�ألته قال ‪ « :‬يف تلك الدول هناك قانون و�رشائع �أما هنا ف�رشيعة الغاب‬
‫هي التي حتكم‪� ،‬رشيعة ال�صهاينة خونة العهود وناكثي الوعود‪ ،‬هنا �رشيعة �سلطة‬
‫قلقت عليك يا ولدي‪،‬‬
‫الف�ساد والإف�ساد التي تقوم على الر�شوة والعمالة للمحتل‪ ،‬لذلك ُ‬
‫اعلم �أنك كبري وواع ٍ و�أنك قوي جبار يا ابني الغايل‪ ،‬لكني �أعلم �أنهم كفرة فجرة ال‬
‫ذمة لهم وال دين‪ ،‬دير بالك على حالك بكرة ان �شاء هلل �سوف ترى العرو�س وبعد‬
‫ذلك تعود �إىل عمان‪� ،‬أنت يا ولدي مثل ال�سيف ونحن ل�سنا بحاجة ل�سيف يف فل�سطني‪،‬‬
‫فال�سلطة باعت والعدو ا�شرتى‪ ،‬وال مكان لل�سيوف هنا‪ ،‬هنا مكان للمحاريث التي‬
‫حترث الأر�ض �أو ما بقي من الأر�ض‪ ،‬حماريث حترث و�أنا�س يزرعون وال ميكن �أن‬
‫ي�صبح ال�سيف حمراثا ً �أبداً»‪.‬‬
‫�آه منك يا والدي ويا معلمي الأول‪ ،‬يا من تعلم وال اعلم ويا من ترى ما ال �أرى‪،‬‬
‫رغم �أنك مل تدر�س ورغم �أنك �إن�سان طيب ب�سيط جداً‪� ،‬إال �أنك عميق الفكر والتفكري‪.‬‬
‫�أم�ضيت تلك الليلة يف منزل والدي‪ ،‬بل �أق�صد منزل جدي الذي ورثه عن‬
‫جد جد جده‪ ،‬مل يكن منز الً بل كان عبارة عن �شيء �آخر ي�سمونه العاليل‪،‬‬
‫�أو القلعة �أو الق�رص‪ ،‬كان �شيئا ً قدميا ً جدا ً تبلغ �سماكة جدرانه من مرتين يف‬
‫بع�ض الأماكن �إىل مرت ون�صف يف �أماكن �أخرى‪ ،‬كبري وجميل لكنه بحاجة‬
‫ما�سة للإ�صالح والرتميم‪.‬‬
‫يف تلك الليلة مل �أ�سلم من البعو�ض الذي �أقلق منامي‪ ،‬رغم �أن احلداثة قد‬
‫دخلت �إىل قريتنا منذ زمن طويل �إال �أن والدي بعد �أن عاد �إىل فل�سطني مل‬
‫يف�ضل �إدخال احلداثة �إىل تلك القلعة التي ورثها عن �أبيه وجدوده‪َّ ،‬‬
‫ف�ضل‬
‫�أن يعي�ش على م�صباح ي�ضاء بالكاز‪ ،‬ومل يكن ميلك �أي �شيء ميت للحداثة‬
‫ب�صلة يف ذلك املنزل‪ .‬رغم �أن منزله يف عمان �أ�شبه مبا يكون مبحل للأدوات‬
‫الكهربائية االلكرتونية والكهربائية فمثالً‪ ،‬بعد �أن عدت من كوريا قمت‬
‫برتكيب �صحن القط هو ا لأكرب على م�ستوى ا لأردن‪ ،‬فكان حجمه قائما ً‬
‫مكتمالً يتجاوز ا لأربعة �أمتار ون�صف‪ ،‬وعندما كنت يف كوريا كنت �أر�سل‬
‫لأخوتي �أحدث ا لأجهزة الكهربائية والكمبيوترات‪ ،‬ولكن هنا يف القلعة مل‬
‫يكن �سوى احلجارة والبعو�ض‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ا�ستيقظت مبكرا ً على �صوت امل�ؤذن‪ ،‬فلقد كان امل�سجد القدمي يقع بجوار منزل‬
‫والدي‪� ،‬صلى والدي بامل�سجد و�صليت �أنا متيمما ً لأين مل �أجد املاء فلقد �أخذ والدي‬
‫امل�صباح معه لريى الطريق �إىل امل�سجد‪ .‬بعد �أن عاد تو�ض�أت و�صليت‪ .‬و�أعد يل والدي‬
‫الفطور؛ طعا ٌم �أق�سم �أن طعمه ما يزال يف فمي للآن‪ ،‬رغم �أين مل �أترك �صنفا ً من‬
‫�أ�صناف الطعام �إال وتناولته خارج فل�سطني‪� ،‬إال �أن ما �أعده يل والدي كان له طع ٌم‬
‫خا�ص ورائحة قد�سية �أخرى‪.‬‬
‫عندما �أح�رض والدي �صينية الق�ش التي و�ضع عليها �أطباق الطعام وجدت مقالة‬
‫مليئة بزيت الزيتون وبها عدة بي�ضات مقلية‪ ،‬كانت البي�ضات غارقات بالزيت‪.‬‬
‫وكانت على �صينيه الق�ش عدة حبات من البندورة و�صحن للزيت و�صحن مليء‬
‫باجلبنة البي�ضاء‪.‬‬
‫�أنا اكره الزيت و�أكره الدهون كثرياً‪ ،‬فلقد تعودت على الأ�صناف امل�سلوقة يف‬
‫كوريا وامل�شوية‪� ،‬أما الزيت فال‪ ،‬و�ألف ال‪ ،‬هذا ما قلته لنف�سي ولكني جتاوبت مع‬
‫�إحلاح والدي فبد�أت بتناول الطعام‪ ،‬ومل �أتوقف �إال بعد �أن م�سحت الأطباق فلقد‬
‫أحببت القلعة‪ ،‬بل �إين �أ�صبحت جزءا ً من تلك‬‫ُ‬ ‫�أحببت خبز الطابون والزيت والزعرت‪� .‬‬
‫القلعة وتاريخها‪.‬‬
‫�أم�ضيت يومي م�ستقبالً املهنئني بو�صويل �ساملا ً غامنا ً كما يقولون‪� .‬أهم املهنئني‬
‫كان بالل‪ :‬بالل ابن عمي الذي فقد كليته قبل �أعوام طويلة عندما كنت يف كوريا‪،‬‬
‫وكان هو يلقي احلجارة يف طرقات فل�سطني‪ .‬بالل ي�صغرين بعدة �أعوام ما زال‬
‫يدر�س باجلامعة علم االجتماع وعلم النف�س‪ ،‬تلك اجلامعة‪ ،‬جامعة املهند�س يحيى‬
‫عيا�ش جامعة بريزيت‪ .‬مل نتمكن من احلديث طويالً فلقد كان املهنئون ُكرثاً‪ ،‬م�ضيت‬
‫يومي الأول على هذه احلال وجزءا ً من اليوم الثاين‪ ،‬وعندما حل م�ساء اليوم الثاين‬
‫توجهت مع والدي لر�ؤية العرو�س ح�سب موعد م�سبق‪.‬‬
‫يف ذلك اليوم ق ّدراهلل يل �أن �أرى �أجمل و�أحلى عيون بحياتي‪� ،‬أحببت عيونها بل‬
‫�سحرتني بعيونها اخلجولة‪ ،‬فطلبت يدها على الفور‪.‬‬
‫بعد ذلك عدت �إىل عمان لأعد لأمور الزواج هناك وما هي �إال �أ�شهر قليلة حتى‬
‫جاءت لعمان‪ ،‬وتزوجتها هناك‪ ،‬كانت بف�ضل اهلل زوجة كاملة متكاملة‪ ،‬هادئة‬

‫‪35‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫و�صامتة‪ ،‬ذات فكر نا�ضج وعقل وا�سع‪ ،‬وهنا �أقول ل ِك يا مالكي احلار�س �أين للمرة‬
‫الأوىل بحياتي قد وقعت باحلب وذقت طعمه‪..‬‬
‫رغم �أين عندما �سافرت �إىل فل�سطني �أردت �أن �أقول «ال» لذلك الزواج ومل �أ�سافر �إال‬
‫�إر�ضا ًء لوالدتي الكبرية املري�ضة‪� ،‬شفاها اهلل‪� ،‬إال �أين وقعت يف احلب من �أول نظرة‪ ،‬هل‬
‫كان ذلك �سحر احلب‪� ،‬أم �سحر فل�سطني ؟ ل�ست �أدري ! وال �أريد �أن �أدري ! ما يهمني‬
‫هو �أين ع�شت وما زلت �أعي�ش رغم مرور �أعوام طويلة بحالة من احلب امل�ستمر‪ ،‬حبَّا ً‬
‫عماده االحرتام والتفاهم‪ ،‬حبَّا ً ال غالب فيه وال مغلوب‪ .‬طوال تلك الأعوام مل حتدث‬
‫م�شكلة واحدة �أبداً‪ ،‬ال عندما كنت ثريا ً وال عندما �أ�صبحت فقريا ً معدما‪ ،‬ال عندما‬
‫كنت حرا ً طليقا ً �أجول معها بجوالت �سياحية يف �أجمل الفنادق‪ ،‬وال عندما �أ�صبحت‬
‫�أنا وهي مطاردين بال م�أوى‪ ،‬وال عندما �أ�رست‪ ،‬فهدمت وفجرت القلعة‪.‬‬
‫ظل احلب هو عماد عالقتنا وما زال‪ ،‬لكن هناك حبَّا ً �آخر بد�أ يكرب وينمو بداخلي‪،‬‬
‫حبَّا ً للجهاد واحلجر‪ ،‬حبَّا ً للرتاب وال�شجر‪ ،‬حبَّا ً لفل�سطني والقد�س‪ ،‬وذلك ما �إن‬
‫حملت زوجتي حتى ودعتها بعد �أن �ضيقت �أعمايل التجارية يف عمان‪ ،‬وعدت �إىل‬
‫هناك �إىل فل�سطني ال بل �إىل القد�س‪ .‬هناك عملت يف �إحدى ال�رشكات املقد�سية التي‬
‫ميلكها �صديق يل وكانت تلك ال�رشكة تعمل يف جمال الفوالذ امل�صهور‪ ،‬ومن هنا ابتد�أ‬
‫امل�شوار واحلكاية‪ ،‬حكاية مهند�س على الطريق‪،‬وحكاية �أمري الظل‪ ،‬حكاية �صاحب‬
‫�أعلى حكم بتاريخ الق�ضية الفل�سطينية‪ ،‬حكاية املحكوم ب�سبع و�ستني م�ؤبداً‪،‬‬
‫وخم�سة �آالف ومائتي عام‪ .‬حكاية �صاحب �أكرب ملف �أمني بتاريخ دولة االحتالل‬
‫ال�صهيوين‪ ،‬حكاية عبد اهلل الربغوثي‪.‬‬

‫ابنتي احلبيبة ومالكي احلار�س‪:‬‬


‫عندما دخلت �إىل فل�سطني مل يكن هديف العمل وجمع املال فلقد كنت �أملك من املال‬
‫ما يكفيني ويكفي �أمي �أ�ضعاف �أ�ضعاف ما ميكن �أن �أ�رصفه طوال حياتي‪ ،‬ومل �أبحث‬
‫عن احلب �أو الزواج فلقد كنت قد احببت وتزوجت‪ .‬دخلت فل�سطني لأين �أق�سمت باهلل‬
‫�أن �أعمل على حتريرها من املغت�صبني ال�صهاينة ومن فا�سدي �سلطة �أو�سلو‪ ،‬كيف؟‬
‫ال �أعلم‪ .‬كل ما كنت �أعلمه هو �أين حملت بداخلي الأمل و�إخال�ص النية على حتقيق‬

‫‪36‬‬
‫هديف‪ ،‬فحولت �أملي وحلمي �إىل واقع ملمو�س كر�ست لأجله كل طاقاتي و�إمكانياتي‪.‬‬
‫بعد اهلل ا�ستعنت بالكتمان وال�صمت لعلي �أ�صل �إىل طريق احلرية والتحرر‪.‬‬
‫عندما اتخذت ذلك القرار كانت فل�سطني هادئة جداً‪ ،‬وكانت املفاو�ضات ت�سري بال‬
‫انقطاع‪ .‬كان التن�سيق الأمني بني قوات االحتالل ال�صهيوين وقوات الأمن الوقائي‬
‫واملخابرات الفل�سطينية‪ ،‬على �أعلى م�ستوى‪ .‬وكم فوجئت عندما علمت �أثناء زيارتي‬
‫الأوىل لفل�سطني �أن هناك اثنني من �أبناء قريتي وعائلتي معتقالن على نف�س الق�ضية‬
‫وهي االنتماء حلركة حما�س‪ ،‬و�أن االثنني حمكومان بعدة �أعوام‪ ،‬هذا غري مهم‪.‬‬
‫املهم �أن �أحدهما معتقل وحمكوم عند ال�صهاينة‪ ،‬والآخر معتقل وحمكوم عند كالب‬
‫ال�صهاينة‪ :‬عند ال�سلطة الفل�سطينية‪ .‬قاوما معا ً ف�سجنا عند املحتل‪ ،‬وكلب املحتل‪،‬‬
‫لذلك �أخذت من الكتمان والعي�ش بعيدا ً بالظل و�سيلة يل لعلي �أ�صل لغايتي‪.‬‬
‫قبل دخويل لفل�سطني يف زيارتي الثانية �أدخلت كل ما يلزمني من �أدوات و�أجهزة‬
‫خا�صة ت�ساعدين على مقاومة املحتل‪ ،‬وعندما �أقول كل ما يلزمني �أعني ذلك بكل ما‬
‫حتمل الكلمة من معنى ‪ :‬الإ�شارات الال�سلكية و�أجهزة الكرتونيه و�أدوات كهربائيه‬
‫ومواد كيماوية ت�ستعمل لتنفجر والكثري الكثري‪ ،‬دخلت دون �أن ينتبه �أحد‪ ،‬خمب�أة‬
‫بداخل �أجهزة كهربائية عادية‪ ،‬وذلك ب�سبب قوة ومتانة التن�سيق الأمني بني �أعدائي‬
‫و�أعدائي‪� .‬أدخلت ما �أريد �إدخاله من �أمام عيونهم فكل واحد منهم كان يفهم �أن الآخر‬
‫�سوف يقوم مبهمة التفتي�ش نيابة عن الآخر‪ .‬اللهم �أ�رضب الظاملني بالظاملني‪.‬‬
‫وما �إن ا�ستقررت بعملي بالقد�س حتى ا�شرتيت عددا ً من �أجهزة احلا�سوب‬
‫الكمبيوترية‪ ،‬لأدجمهما و�أوحد قوتها لكي �أمتكن من اقتحام �شبكة االنرتنت‪.‬‬
‫و�أ�صبحت كما كنت يف كوريا �أدخل املواقع التي �أريدها‪� ،‬أرى حمتواها و�آخذ منه ما‬
‫�أريد والأهم من ذلك هو الكتمان‪� ،‬أدخل بهدوء‪ ،‬و�أخرج بهدوء‪ .‬ومل يكن ق�صدي‬
‫التخريب بل كان ق�صدي وهديف �أن �أعرف الآخر‪� ،‬أعرف عدوي و�أعرف قدراته‪،‬‬
‫مل �أكتف بذلك بل وخالل مدة ق�صرية ا�ستطعت اقتحام �شبكة االت�صاالت اخللوية‬
‫ال�صهيونية �رشكة «�سلكم» و�رشكة «موتوروال» و�رشكة «�أوراجن»‪ ،‬تلك ال�رشكات‬
‫العاملة يف جمال االت�صال يف الكيان ال�صهيوين املعادي‪� .‬أما عند �سلطة الف�ساد‬
‫والإف�ساد فكان هناك �رشكة واحدة هي �رشكة جوال‪ ،‬فاقتحمتها هي الأخرى‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫مكنتني تلك االقتحامات من ال�سيطرة ب�شكل كامل على املكاملات الواردة‬


‫وال�صادرة‪� .‬أما املهم فكان �سيطرتي على ا�سرتاق ال�سمع من تلك ا لأجهزة‬
‫وهي يف حالة �سكون‪� ،‬أي �أ�ستمع ملا يجري من حديث يف املكان املوجود به �أي‬
‫من تلك الأجهزة‪.‬‬
‫بعد ذلك بد�أت ب�إعداد الأدوات االلكرتونية واملواد الكيماوية الالزمة ل�صناعة‬
‫العبوات املتفجرة والنا�سفة مبختلف �أنواعها و�أ�شكالها‪ ،‬كل ذلك مت ب�صمت‪.‬‬
‫بقيت على هذه احلال �أ�شهر عدة بحيث �أعمل يف ال�رشكة من ناحية‪ ،‬و�أقوم بالإعداد‬
‫أكتف باجللو�س خلف �أجهزة احلا�سوب بل �أ�صبحت‬ ‫ملعركتي من ناحية �أخرى فلم � ِ‬
‫�أم�ضي �أيام العطل �أجول يف مدن فل�سطني املحتلة من �أق�صى اجلنوب �أي من �أم‬
‫الر�رشا�ش ‪� -‬أو كما ي�سمونها ‪� -‬إىل اجلوالن وبحرية طربيا‪ .‬وبذلك عرفت عن الطرق‬
‫وكيفية التنقل‪ .‬و�أكرث ما �ساعدين هو جواز �سفري الأجنبي ولغتي االجنليزية ذات‬
‫اللكنة الأمريكية‪ ،‬ف�أ�صبحت �أعرف فل�سطني املحتلة عام ‪� 1948‬أف�ضل مما �أعرف مدن‬
‫ال�ضفة الغربية‪.‬‬
‫مل �أكن �أزور القرية �إال نادرا ً رغم �إحلاح والدي الذي ما زال هناك فوالدي �أ�صبح‬
‫يف�ضل البقاء يف القرية وال يعود �إىل الأردن �إال يف املنا�سبات‪ .‬ولكن هذا احلال مل يدم‬
‫طويالً �أكرث من �أ�شهر معدودة‪� ،‬أما ال�سبب فهو �أنك‪ ،‬يا مالكي احلار�س يا ابنتي احلبيبة‪،‬‬
‫قد اقرتب موعد مولدك‪ ،‬و�أحببت �أن تولدي هنا يف فل�سطني‪ ،‬ولذلك كان لزاما ً علي �أن‬
‫�أ�صلح و�أرمم قلعة جدكِ القدمية ف�أ�صلحتها و�أعدت لها رونقها وجمالها و�أدخلت عليها‬
‫كل �أ�سباب الراحة فمثال‪ ،‬الحظت �أن الكهرباء تنقطع با�ستمرار بعد �أن �أو�صلتها للقلعة‬
‫وكان ال�سبب هو رداءة ال�شبكة الكهربائية يف القرية‪ ،‬ولذلك قمت برتكيب نظام طاقة‬
‫�شم�سية فوق �سطح القلعة وهكذا �أ�صبحت �أملك الكهرباء ب�شكل دائم وم�ستمر ومل‬
‫�أترك �أداة وو�سيلة من و�سائل الراحة �إال وا�شرتيتها‪ ،‬وو�ضعتها يف القلعة‪ ،‬و�أن�ش�أت‬
‫القلعة بالإن�شاء احلديث اجلميل ولكني مل �أكن �أبيت يف القرية بل كنت �أقود �سيارتي‬
‫عائدا ً �إىل �شقتي يف القد�س‪ ،‬حيث �أم�ضي الليل متعقبا ً وم�ستطلعا ً لعدوي‪.‬‬
‫وقبل موعد مولدكِ ب�شهر واحد �أ�صبحت القلعة جاهزة فطلبت من والدت ِك‬
‫احل�ضور من عمان �إىل فل�سطني ومل تكن تعلم ما قمت به فظنت �أننا �سوف ن�سكن يف‬

‫‪38‬‬
‫القد�س‪� ،‬أو رام اهلل ولكنها ر�سمت مالمح احلزن عندما قلت لها �أننا �سوف ن�سكن يف‬
‫بيت والدي يف القرية‪ ،‬فهي ظنت �أن القلعة على حالها‪ ،‬جمرد كومة من احلجارة كما‬
‫تركتها قبل �أن ت�سافر لعمان‪ ،‬ولكن �رسعان ما تغريت مالمح احلزن ِلت�صبح مالمح‬
‫فرح و�رسور عندما وجدت البيت ب�أحلى حلة و�أف�ضل حال‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ويف يوم ‪ 1999/9/27‬تلقيت ات�صاالً من �أحد �أخوال ِك يبلغني فيه �أنه نقل والدت ِك‬
‫�إىل امل�شفى يف رام اهلل لتلدكِ ‪ ،‬فح�رضت م�رسعا ً من القد�س‪.‬‬
‫ابنتي تاال‪ ،‬هذا هو اال�سم التي �أ�سميتك �إياه قبل �أن تولدي مل �أكن �أحظى ب�أي وقت‬
‫للفراق عندي �إال ل�شيء واحد وهو متابعة �أعدائي‪� ،‬أما بعد �أن ولدتِ و�أ�صبحتِ حقيقة‬
‫وواقعاً‪ ،‬انقلبت حياتي ر�أ�سا ً على عقب‪ .‬فلقد �أ�صبحت ومنذ اليوم الأول لوالدت ِك ال‬
‫�أذهب �إىل عملي يف القد�س �أو �إىل �شقتي هناك ملتابعة ما كنت �أقوم به‪.‬‬
‫�أ�صبحت �أُم�ضي معظم وقتي يف القرية برعايتي ل ِك ورعاية �أم ِك التي �أحب‪ .‬تاال‬
‫هل تعلمني �أنك ارتديت مائة ف�ستانٍ و�أكرث يف �أول مائة يوم ل ِك يف هذه احلياة‪ ،‬فلقد‬
‫كنت ال �أكف عن �رشاء املالب�س ل ِك وال الألعاب وال الهدايا وال كل ما �أراه منا�سبا ً ل ِك‬
‫�أو حتى غري منا�سب‪.‬‬
‫تاال‪� ،‬أنت ولدتِ بعد حرمان طويل‪ ،‬حرمان مل �أكن �أ�شعر به و�أح�س‪ ،‬ولكن عندما‬
‫�أم�سكت ب ِك بعد والدت ِك بثوانٍ من يد الطبيبة التي ولدتكِ‪ ،‬حتى �شعرت مبدى ذلك‬
‫احلرمان من نعمة الأوالد والأطفال‪.‬‬
‫فكما قال رب العاملني «املال والبنون زينة احلياة الدنيا»‪� .‬صدق اهلل العظيم‬
‫املال كنت �أملك منه الكثري والكثري‪� ،‬أما البنون ف�أنتِ �أول البنني يا مالكي‬
‫احلار�س‪ ،‬هل تعلمني �أن ا�سم الطبيبة التي كانت ت�رشف على حالة �أم ِك يف �شهرها‬
‫الذي �أم�ضته يف فل�سطني كانت فل�سطني؟ نعم فل�سطني‪ ،‬هو ا�سم الطبيبة التي ر�أيتِ‬
‫على يدها النور‪.‬‬
‫قالت يل «فل�سطني»‪� :‬أنك �أول �أب �أراه بداخل فل�سطني طوال عملي كطبيبة يدخل‬
‫غرفة الوالدة ويحت�ضن طفلته قبل �أن حت�ضنها �أمها‪ ،‬وقبل �أن جنري لها الفحو�ص‬
‫الالزمة‪ .‬فقلت‪ :‬ما دامت فل�سطني هي من ولّدت زوجتي على �أر�ض فل�سطني فال‬
‫�شيء غريب �أو عجيب‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫افتتحت‬
‫ُ‬ ‫هنا يا ابنتي �شعرت �أن القرية بحاجة �إىل بع�ض امل�شاريع التجارية ولذلك‬
‫حمالًَ �آخر لل�سوبر ماركت‪ ،‬و�أ�صبحت �أمار�س التجارة‬ ‫حمالًَ للأدوات الكهربائية و ًّ‬
‫ًّ‬
‫مرة �أخرى‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل عملي يف القد�س بل �أنني و�سعت هذه التجارة ف�أ�صبحت‬
‫�أ�ستورد ال�سيارات امل�ستعملة من كوريا عن طريق عمان و�أتاجر بها‪.‬‬
‫�أ�صبحت �أتاجر بالعقارات‪ ،‬فلقد �أعدتني حلياتي ال�سابقة من جتارة ومناف�سة‬
‫بال�سوق‪ ،‬و�أبعدتني عن هديف الذي كنت �أ�سعى �إليه‪ .‬بقيت طوال عا ٍم تقريبا ً على هذا‬
‫احلال‪ ،‬وقبل موعد ميالدكِ الأول جاء موعد قطف الزيتون‪ ،‬ولذلك عملت على �أن‬
‫ت�سري �أعمايل التجارية عن طريق من يعملون معي وتفرغت لق�ضاء عدة �أ�سابيع يف‬
‫قطف الزيتون‪ ،‬وكنت �أ�صطحب ِك مع جدكِ و�أم ِك �إىل كروم الزيتون اخلا�صة بجدك‬
‫لنتعاون على قطف الزيتون‪.‬‬
‫هناك تعلمت امل�شي و�رستِ �أول خطوات ِك يف جبال بيت رميا‪ .‬يف تلك الأيام �أعدت‬
‫أدركت �أنني ما عدت عبد اهلل �أمري الظل بل �أ�صبحت جمرد‬ ‫ُ‬ ‫تن�سيق فكري مرة �أخرى و�‬
‫تاجر مهند�س يهمه جمع املال‪ ،‬املال الذي مل �أكن بحاجة �إليه �أ�صالً‪.‬‬
‫مل �أعد مهند�سا ً على الطريق بل جمرد مهند�س ي�سخره عمله لإجناح م�شاريعه‪،‬‬
‫لكن ذلك مل يدم فما �أن �أكملت عام ِك الأول �أي بتاريخ ‪ 2000/9/27‬حتى قام ذلك‬
‫القذر �شارون بتدني�س امل�سجد الأق�صى‪ ،‬واندلعت االنتفا�ضة الثانية‪ ،‬وكنت �أنا هناك‬
‫يف جبال بيت رميا �أقطف الزيتون و�أراقب بهدوء‪ ،‬حتى �أقرر ماذا �سوف �أفعل‪.‬‬
‫كنت حمتارا ً ف�أنا وحدي ال �أ�ستطيع مقاومة االحتالل‪ ،‬فبد�أت �أفكر دون جدوى‪،‬‬
‫دون �أن �أ�صل �إىل طريق �أو �إىل نقطة بداية �أبد�أ من عندها‪ ،‬ف�أنا تكاد تكون عالقتي مع‬
‫حميطي مقطوعة‪� ،‬أو �شبه مقطوعة‪ ،‬فلم �أكن طوال وجودي بفل�سطني �أبني و�أقيم‬
‫العالقات مع �أي �أحد وال حتى مع بالل‪ ،‬بالل ابن عمي و�صديقي فلقد كان هو بعامله‬
‫اخلا�ص و�أنا كنت بعاملي اخلا�ص‪.‬‬
‫مبر�ض‬
‫ٍ‬ ‫بعد �أيام قليلة على اندالع االنتفا�ضة‪ ،‬ق ّدر اهلل �أن ت�صابي يا ابنتي‬
‫عجز عن عالجه �أطباء القرية‪ ،‬ومل يكن من ال�سهل نقل ِك �إىل رام اهلل؛ لأن قوات‬
‫االحتالل حا�رصت قريتنا‪ ،‬وو�ضعت حواجز ترابية على الطرقات منعت تنقل‬
‫ال�سيارات اخلا�صة‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫فانطلقت �إىل �إحدى القرى املجاورة ب�سيارتي ومن هناك ركبت مع والدت ِك ومع ِك‬
‫ب�أحد البا�صات لكي ن�صل �إىل رام اهلل‪ .‬ق ّدر اهلل ل ِك �أن متر�ضي ولكنه قدر يل �أن �أرى‬
‫بداية الطريق‪ ،‬طريق اجلهاد طريق عز الدين الق�سام‪ ،‬طريق يحيى عيا�ش‪.‬‬
‫يف منت�صف الطريق وقبل �أن ي�صل البا�ص ملدينة بريزيت توقف‪ ،‬وتوقفت �أمامه‬
‫الكثري من البا�صات و�أغلقت الطريق‪ ،‬فنزلت لكي �أرى ما امل�شكلة و�أعرف �سبب‬
‫اغالق الطريق‪ ،‬هناك وجدت با�صني يرف�ض �أحدهما ال�سماح للآخر باملرور قبله‪،‬‬
‫ووجدت �شخ�صني فاجرين هما ال�سائقني فلقد كانا يكيالن ال�سباب وال�شتائم للذات‬
‫الإلهية‪ .‬كانا يكفران ب�أ�شنع الألفاظ‪ ،‬بل كانا يتقنان لفظ كفرهما‪.‬‬
‫عند ذلك املوقف ابت�سمت‪ ،‬نعم يا ابنتي ابت�سمت؛ ف�رش البلية ما ي�ضحك‪ ،‬ابت�سمت‬
‫وعدت �إىل البا�ص الذي كنت �أ�ستقله مع ِك �أنتِ و�أم ِك لكني مل �أعد لأ�صعد يف البا�ص؛‬
‫بل عدت لأنتزع ربطة عنقي وجاكيتي و�ساعتي‪ ،‬فنزعتهما و�شمرت عن ذراعي‬
‫وانطلقت عائدا ً �إىل ال�سائقني الفاجرين‪ .‬التقطت الأول من عنقه وقلت له‪ :‬كيف ت�سب‬
‫ربي يا �أيها الكافر الفاجر‪� ،‬أال تعلم �أن الذي ت�سبه هو ربي �أنا‪ :‬رب عبد اهلل الربغوثي‬
‫؟ قبل �أن يجيب انهلت عليه باللكمات وال�رضبات حتى �أدميته بني ذراعي و�ألقيت به‬
‫�إىل وا ٍد بجوار با�صه‪ ،‬وتوجهت فورا ً �إىل ال�سائق الآخر الذي ما �إن تلقى اللكمة الأوىل‬
‫حتى وىل هاربا ً �إىل الوادي الآخر‪� ،‬صعدت ببا�صه وقدته بعد �أن �أنزلت ركابه لي�سقط‬
‫يف الوادي‪ ،‬وفعلت ذات ال�شيء بالبا�ص الآخر‪.‬‬
‫مل يتجر�أ �أي من الركاب على �س�ؤايل عما فعلت‪ ،‬فلقد كانت قوتي مفرطة ونظرات‬
‫عيوين قاتلة‪ ،‬عندها �صحت قائالً‪� :‬أنا عبد اهلل الربغوثي من كان له حق عندي فلي�أتِ‬
‫�إىل قريتي �إىل بيت رميا لي�أخذ حقه‪ ،‬ولكني �أق�سم باهلل العلي العظيم �أن ال �أجعله يخرج‬
‫حيا ً من بني يدي‪ ،‬فمن ي�سب الذات الإلهية ال مكان له عندي �سوى القرب‪.‬‬
‫تركتهم بذهولهم بعد �أن عادت حركة البا�صات �إىل جمراها الطبيعي‪ ،‬ولكن هناك‬
‫يد �أم�سكت بيدي وقال �صاحبها‪ :‬ما �شاء اهلل حديد‪ ،‬حديد اهلل يقويك يا ابني‪ ،‬كان من‬
‫ري يف ال�سن ظل مم�سكا ً بيدي ويكرر‪ :‬حديد ما �شاء اهلل حديد‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫�شيخ كب ٌ‬ ‫�أم�سك بيدي‬
‫�صعدت �إىل احلافلة و�إذا به ي�صعد معي فلقد كان هو الآخر من ركاب نف�س احلافلة‪،‬‬
‫بل كان من �أبناء عائلة الربغوثي‪ ،‬عائلتي الذين ي�سكنون بتلك القرية املجاورة‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫قبل �أن ن�صل �إىل احلافلة كان اخلرب قد و�صل‪ ،‬فلقد ق�ص �سائق احلافلة‪ ،‬الق�صة‬
‫دون �أن ينتبه �أنها ق�صة �أحد الركاب الذين يركبون معه بنف�س احلافلة فما �إن و�صلت‬
‫مع ال�شيخ حتى قال‪ :‬هذا هو‪ ،‬ومل يكمل‪� ،‬أما زوجتي فقالت ‪� :‬أمل يكفك ما فعلته يف‬
‫عمان؟ بعمان هناك بعد �أن تزوجت بعدة �أ�سابيع‪ ،‬ذهبت ملقابلة �أحد مدراء ال�رشكات‬
‫التي �أتعامل معها‪ .‬وكان ي�سب �أحد املوظفني عنده‪ ،‬ولكن ما �أثارين هو جتر�ؤه على‬
‫الذات الإلهية فطلبت منه �أن يكف عما يقول‪� ،‬إال �أنه حول تلك ال�شتائم يل �أنا وربي‬
‫وديني �أنا‪ ،‬فما كان مني �إالَّ �أن انهلت عليه �رضبا ً مربحاً‪ ،‬فك�رست له فكه وواحدة من‬
‫عظام �صدره ويده‪ ،‬مما جعله يرقد بامل�شفى ملا يقارب ال�شهرين‪ ،‬وجعلني مطاردا ً‬
‫من قبل قوات الأمن الأردين‪� .‬أعلم �أين كنت قا�سيا ً �أو حتى كما قال �سائق احلافلة‬
‫فلقد قال �أنه ر�أى وح�شا ً غا�ضبا ً ينهال بال�رضب على ال�سائقني‪� ،‬أعلم �أين ٍ‬
‫قا�س؛‬
‫ولكن �أعلم �أي�ضا ً �أن تربيتي الدينية بدولة الكويت تركت بداخلي �أثرا ً كبريا ً جدا ً من‬
‫ناحية رف�ضي مثل هذه الت�رصفات التي �أ�صنفها كفرا ً ال �أكرث وال �أقل‪ ،‬فمن ي�شتم اهلل‬
‫ور�سوله هو كافر مرتد‪.‬‬
‫بعد �أن �أ�صبحت مطلوبا ً ومطاردا ً من قبل قوات �أجهزة الأمن الأردنية‪ ،‬حاول‬
‫عدد من �أقاربي و�أ�صدقائي التو�سط يل مع ذلك املدير الذي كان ما زال يرقد يف‬
‫امل�شفى‪� ،‬إال �أنه رف�ض وتوعد‪ ،‬بل �أنه عاود �شتم الذات الإلهية راف�ضا ً �أي و�ساطة‬
‫متوعدا ً مهدداً‪ ،‬لكن ذلك مل يطل كثريا ً ففي �إحدى الليايل وقبل طلوع الفجر �أيقظته‬
‫من نومه يف امل�شفى‪� ،‬أيقظته و�أنا �أ�ضع يف فمه فوهة م�سد�س وقلت له‪ :‬اعلم �أين مل‬
‫�أ�رضبك �إال ن�رصة هلل ع َّز وج َّل واعلم �أين �سوف �أقتلك �إن مل تتنازل عن الق�ضية ف�أنا‬
‫ال �أتوعد وال �أهدد �أنا جئت لأخربك فقط ما الذي �سوف �أفعله �إن مل تفعل ما �أمرتك‬
‫به‪� .‬سحبت فوهة امل�سد�س من فمه وابت�سمت له وتركته يكمل نومه‪ ،‬هذا �إن نام‪ ،‬وما‬
‫�إن طلع ال�صبح حتى كان قد توجه �إىل �أحد مراكز ال�رشطة لي�سحب البالغ �ضدي‬
‫وي�سحب �شكواه‪.‬‬
‫وما هي �إال �أيام معدودة حتى و�صلت عن طريق �أحد �أقاربي لقا�ض ٍ �أ�سقط عني‬
‫املطاردة واحلق العام‪ ،‬ف�أنا �أ�ؤمن �إميانا ً قاطعا ً �أن من يوجه عمله هلل فال غالب له‪.‬‬
‫ما �إن انطلقت احلافلة حتى انطلقت �أ�سئلة ذلك ال�شيخ الربغوثي ال�س�ؤال تلو‬

‫‪42‬‬
‫ال�س�ؤال‪ ،‬كان ي�س�أل بحما�س وقوة وخا�صة عندما علم �أين مهند�س‪ .‬بعد ذلك �سارت‬
‫احلافلة نحو رام اهلل‪ ،‬و�أنزلتنا عند �أحد احلواجز الرتابية وما هي �إال عدة خطوات‬
‫حتى علقت بحذائي �سل�سلة ذهب كبرية معلقا ً بها قطعة ذهب جميلة‪.‬‬
‫رفعت ال�سل�سلة وزوجتي تراقب يدي اللتني ارتقتا �إىل ال�سماء‪ ،‬فلقد رفعت يدي‬
‫خماطبا ً ربي �شاكرا ً �إياه على هذه العطية وهذه اللفتة اجلميلة‪ ،‬ف�أنا من عادتي �أن‬
‫�أخاطب اهلل ع َّز وج َّل دون تكليف ودون حواجز‪ ،‬ف�أنا عبده وهو ربي ومل �أخلق �إال‬
‫لأعبده‪ ،‬بهذه الب�ساطة �أتعامل مع اهلل عز وجل‪ .‬و�ضعت �إعالنا ً عن ال�سل�سة الذهبية‬
‫يف مدينة رام اهلل‪ ،‬لكن مل يطلبها �أحد فبقيت معلقة يف رقبة زوجتي ولكنها حتولت‬
‫من ذهب �إىل ر�صا�ص بقدرة قادر‪ ،‬و�أ�صبحت جزءا ً من وقود املعركة التي ملَّا تبد�أ‬
‫بعد‪ .‬وبعد هذه احلادثة ا�ست�شهد �أحد �أقاربي يف القرية املجاورة فذهبت �إىل هناك مع‬
‫والدي لن�شارك يف جنازة ال�شهيد‪.‬‬
‫�صلينا الظهر وانطلقنا للمقربة ونحن نكرب ونهلل ونهتف ونتوعد باالنتقام‪ .‬بعد‬
‫�أن ووري جثمان ال�شهيد الطاهر الرثى‪ ،‬بد�أ �أبطال ال�سيا�سة ب�إلقاء اخلطب الع�صماء‪،‬‬
‫فرتكتهم وتوجهت ل�سيارتي هناك كان موعدي مع �أبي لكني مل �أجده؛ يبدو �أنه‬
‫ف�ضل �سماع ال�سيا�سيني وكالمهم الذي ال يروي عط�شان‪ ،‬فهو مثل ماء البحر املالح‪:‬‬
‫ال يزيد �شاربه �إال عط�شاً‪.‬‬
‫عند ال�سيارة وجدت ال�شيخ الذي �سبق �أن ر�أيته يوم مر�ض ابنتي تاال‪ ،‬قال يل‪ :‬ما‬
‫ر�أيك ب�أن تذهب معي لنتناول طعام الغداء معاً؟ قلت له‪� :‬أين م�ستعجل‪ .‬قال‪ :‬ما رح‬
‫�أ�ؤخرك �أكرث‪ ،‬بدي �أغديك و�أعطيك �أمانة تو�صلها ل�صاحبها‪.‬‬
‫ما �إن و�صلت لبيته حتى طلعت يل زوجته احلاجة‪ ،‬كانت ب�شو�شة فرحة بقدومي‪.‬‬
‫أنت تذكرين بولدي‪،‬‬ ‫�سلمت علي وقبلت ر�أ�سي‪ ،‬ر�أ�سي �أنا قبلته تلك احلاجة‪ ،‬قالت يل‪َ � :‬‬
‫هو هناك بعيدا ً يف املعتقل‪ ،‬فهو معتقل منذ �أعوام طويلة منذ االنتفا�ضة الأوىل‪.‬‬
‫و�ضعت احلاجة الطعام ف�أكلت و�أنا م�شغول بالإجابة عن �أ�سئلة ال�شيخ‪� ،‬أ�سئلة‬
‫كثرية فلقد قال يل مثالً‪� :‬إذا دخل علينا جندي �صهيوين ماذا �سوف تفعل؟ قلت‪� :‬آكله‬
‫حيا ً فال داعي للطعام الذي �أعدته احلجة‪ ،‬قال‪ :‬باهلل عليك‪ ،‬قلت‪ :‬واهلل هذا ما �سوف‬
‫�أفعله‪� .‬أ�سئلة من هذا النوع ومن نوع �آخر‪ .‬نوع مل �أجب عليه لكني اعتقد �أن اهلل جعل‬

‫‪43‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫احلاج يعرف الإجابة رغم �أين مل �أجب‪.‬‬


‫بعد �إنتهاء الطعام �شكرته و�شكرت زوجته وهممت مبغادرة منزله‪ .‬ظل �صامتا ً‬
‫لكني ما �إن اجتزت جزءا ً من حديقة املنزل حتى �صاح علي وطلب مني العودة فعدت‪.‬‬
‫خريا ً يا عمي احلج ؟ قال‪� :‬أمل َ‬
‫تن�س الأمانة؟ �أمل �أقل لك �أين �سوف �أعطيك �أمانة لكي‬
‫تو�صلها ل�صاحبها؟ ظللت �صامتا ً فقال يل‪ :‬اتبعني واحمل معك هذا الف�أ�س‪ ،‬حملت‬
‫الف�أ�س و�رست خلفه حتى و�صلت �إىل جوار �أحد �أ�شجاره فقال‪ :‬احفر هنا‪ ،‬احفر‬
‫بهدوء حتى ال تتلف ما بداخل الأر�ض‪ ،‬بد�أت �أحفر �صامتا ً حمتاراً‪� ،‬أجن هذا ال�شيخ‬
‫�أم �أين �أنا املجنون‪ ،‬حتى �أتبعه �إىل هنا واحفر يف املجهول؟‬
‫لكي�س �أ�سو َد وهنا قال يل‪ :‬احفر بحذر‪ ،‬فقلت له‪ :‬ملاذا‬‫ٍ‬ ‫بعد مرور فرتة و�صلت‬
‫بحذر؟ قال‪ :‬واهلل يا ابني ال �أدري �إمنا احفر بهدوء وحذر‪ .‬وا�صلت احلفر و�أخرجت‬
‫كي�سا ً �أ�سو َد كبريا ً جداً‪ ،‬وبداخله وجدت حقيبة جلدية معلقة‪ ،‬فقال يل‪ :‬ارفعها و�ألق‬
‫ِ بالكي�س بعيداً‪ ،‬واترك احلفرة ف�أنا �سوف �أعود فيما بعد و�أعاود ردمها‪ .‬قال يل‪:‬‬
‫ا�سبقني �إىل البيت وال تدع �أحدا ً يراك ف�أنا يا ولدي بطيء احلركة كما ترى‪� ،‬أ�رسع‬
‫باهلل عليك‪� .‬أ�رسعت وو�صلت‪ ،‬وو�صل هو �أي�ضاً‪ .‬قلت له‪ :‬ملن �أو�صل هذه احلقيبة‬
‫هذه الأمانة؟ قال يل‪� :‬أو�صلها ل�صاحبها‪ ،‬فقلت له‪ :‬باهلل عليك يا عمي احلج ال ت�رص‬
‫علي ف�صربي بد�أ ينفد فمن �صاحب احلقيبة؟ قال �أو�صلها للمهند�س‪.‬‬
‫�أي مهند�س يا عمي احلج؟ قال‪ :‬وهل يوجد مهند�س بفل�سطني �سوى املهند�س‬
‫يحيى عيا�ش! فقلت له‪ :‬عيا�ش قد ا�ست�شهد‪ .‬قال‪� :‬أعلم لكنها حقيبته و�ضعها عندي‬
‫�أمانة قبل �أن يرتك ال�ضفة ويتوجه �إىل قطاع غزة‪ ،‬قبل �أن ت�صل له يد الغدر واخليانة‬
‫قبل �أن ي�ست�شهد‪ ،‬خذها و�أو�صلها له‪.‬‬
‫ظللت �صامتا ً حائراً‪ ،‬فقال‪� :‬أل�ست مهند�ساً؟ �أل�ست �أنت من غ�ضب هلل وغ�ضب‬
‫لكرامة نبيه حممد (�صلى اهلل عليه و�سلم) قبل �أيام؟ �أمل تقل �أنك �سوف ت�أكل اجلندي‬
‫ال�صهيوين حيا ً وبدون ملح؟ خذها يا ولدي ف�صاحبها ا�ست�شهد منذ زمن وابني يف‬
‫الأ�رس منذ �أعوام طوال وحمكوم عليه ب�أعوام طويلة‪ ،‬خذها باهلل عليك فهي لك �أنت‪،‬‬
‫�أنت �صاحبها وهي �صاحبتك‪ ،‬خذها و�رس على درب املهند�س عيا�ش‪ ،‬حرام �أن تبقى‬
‫مدفونة يف الأر�ض بعد �أن اندلعت االنتفا�ضة وبعد �أن بد�أنا نودع ال�شهيد تلو ال�شهيد‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫كان يتحدث والدموع جتري من عينيه‪ ..‬حملتها وقبلت ر�أ�سه مودعا ً هائما ً يف‬
‫ملكوت اهلل‪ ،‬عندما و�صلت �إىل �سيارتي مل �أجد والدي فلقد ت�أخرت عليه كثرياً‪ ،‬فذهب‬
‫مع �أحد �أقاربنا عائدا ً للبيت‪� .‬أما �أنا فقدت ال�سيارة وو�ضعت احلقيبة يف �أحد حمايل‬
‫التجارية الفارغة التي كنت �أملكها يف القرية‪.‬‬
‫مل �أجتر�أ على فتحها ور�ؤية ما بها‪ .‬كنت �أخ�شى من تلك الكلمة «الأمانة»‪� ،‬أمل‬
‫يحمل الإن�سان الأمانة وكان جهوالً بعد �أن رف�ضتها اجلبال؟‬
‫�أ�أحمل حمالً فوق طاقتي‪ :‬حمل ال�شهيد و�أمانته؟ بقيت احلقيبة «االمانة» هناك‬
‫�أ�سابيع و�أ�شهر قبل �أن �أح�سم �أمري و�أفتحها‪ .‬خالل تلك الفرتة بد�أت �أعيد توطيد‬
‫عالقتي مع بالل ابن عمي‪ ،‬وكانت �أ�سئلتي كلها عن عيا�ش وكان هو يحب �أن يتحدث‬
‫عن عيا�ش كثرياً‪ ،‬فعيا�ش كان طالبا ً يف جامعة بريزيت‪ ،‬وهي جامعة بالل يف تلك الفرتة‪.‬‬
‫كان بالل نا�شطا ً باحلركة الطالبية الإ�سالمية التابعة حلركة حما�س‪ ،‬ي�شارك بكل‬
‫الفعاليات‪ ،‬وكان �أي�ضا ً بعامه الأخري ومل يتبقَ على تخرجه �سوى عدة �أ�شهر فقط‪.‬‬
‫كل هذه الأحداث جرت قبل �أن تكمل االنتفا�ضة �شهرها الأول‪ ،‬يف تلك الأثناء كنت‬
‫�أردد كلمات مت�شابكة جت�سد حالتي التي و�صلت �إليها يف حرية من يبحث عن النور‬
‫يف �آخر النفق؛ ذلك النور الذي �سوف �أ�ستدل به على طريقي وبداية امل�شوار‪.‬‬
‫فقلت الكلمات املت�شابكة التي تعبت من تردادها على نف�سي ب�صمت‪ ،‬قلتها هذه‬
‫املرة ب�صوت عالٍ و�أنا �أقف على �إحدى التالل املطلة على قريتي‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫غالب حمامة ب�رسب حمام‬ ‫ال تكن يا ابن ٍ‬
‫فهذا هو الذل واخلزي واال�ست�سالم‬
‫وكن �صقرا ً يحلق كالق�سام‬
‫ب�سماء العزة و�أر�ض الإ�سالم‬
‫كن فار�سا ً جوادا ً مقاوما ً‬
‫وعزيزا ً ذا نخوة كاملعت�صم‬
‫�أ�رضب عدوك بقوة وداهم‬
‫كل وك ٍر من �أوكار الظالم‬

‫‪45‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫ف�أنت نور احلق الهمام‬


‫و�أنت �شيخ املنرب والإمام‬
‫اجعل عدوك يتجرع ال�سم‬
‫فلقد عاث بالدنيا ف�سادا ً وظلم‬
‫كن لأخوتك عونا ً رحيما ً‬
‫وكن على عدوك كنار اجلحيم‬
‫ال ترحمه واجعله يت�أمل‬
‫فلقد قتل ال�شيخ والطفل والأم‬
‫اجعل القر�آن ب�صدرك ختم‬
‫واقتدي بنبيك �سيد الكرام‬
‫�إن عز الزيت وانعدم‬
‫زيت يا ابن الق�سام‬‫فدمك ٌ‬
‫دمك نورا ً يا عز الإ�سالم‬
‫قاوم عدوك بقوة وال تنهزم‬
‫تقدم ال�صفوف وكن بالإمام‬
‫ف�أنت امل�صلي القائم تقدم‬
‫تقدم ا�رضب عدوك وهاجم‬
‫وكن عليه بالر�صا�ص كرمي‬
‫ف�أنت اجلواد ابن الكرام‬
‫وهو املاكر الغادر اللوام‬
‫ثق بن�رص ربك فهو قادم‬
‫وال تخ�ش من عدوك فهو مهزوم‬
‫كرب وهلل يا ابن الق�سام‬
‫و�رسعلى درب العيا�ش يحيى الهمام‬
‫ف�إن ا�ست�شهدت اجلنة لك مقام‬
‫و�إن انت�رصت فالعزة لك يا ابن الق�سام‬

‫‪46‬‬
‫عقدت العزم على �أن �أبد�أ املقاومة و�أن �أ�رس حامالً لواء املهند�س‪ .‬نزلت عن التلة‬
‫وتوجهت �إىل منزل عمي لأقابل بالالً ولكي �أبد�أ م�شواري‪.‬‬
‫عندما و�صلت �إىل منزل عمي و�س�ألت عن بالل قيل يل �أنه مل ي�أتِ �إىل البيت منذ �أيام‬
‫طويلة و�أنه مي�ضي وقته بني اجلامعة مبدينة بريزيت ومدينة رام اهلل القريبة منها‪،‬‬
‫وال ي�أتي للقرية لأن الطرق مقطوعة من قبل قوات االحتالل‪ ،‬واملوا�صالت �صعبة‬
‫جداً‪.‬‬
‫كان �إيجاد بالل يف تلك الفرتة م�شكلة بحد ذاتها؛ فهو ال ميلك جهاز ات�صال نقال‪،‬‬
‫وال مكان ثابت ي�سكن فيه‪ ،‬ولأن بالال ً كان يح�رص عالقاته يف اجلامعة مع �أبناء‬
‫القرية ب�شكل عام‪ .‬لكني ولأين قد ح�سمت �أمري بقتال ال�صهاينة كان واجبا ً علي �أن‬
‫�أجده للأ�سباب التالية‪:‬‬
‫�أولها‪� :‬أن بالال ً ينتمي لكتلة حما�س الطالبية يف اجلامعة وهو �شخ�ص هادئ‬
‫و�صامت‪ ،‬و�صادق‪ ،‬ثانيها‪ :‬لأين �أثق به من الناحية الأمنية والأخالقية‪ ،‬فبالل مل‬
‫يكن له �أي اهتمامات �سوى الدرا�سة والعمل التنظيمي‪ ،‬وثالثها‪ :‬وهو الأهم والأقوى‬
‫هو �أين ا�ستطعت �أن �أم�سك بالال ً متلب�سا ً وهو يقوم ب�إحد �أعمال املقاومة‪.‬‬
‫ففي �أول �أيام االنتفا�ضة قام بالل مع جمموعة من �أن�صار حركة حما�س بكتابة‬
‫�شعارات على جدار القرية و�أ�سوارها‪ .‬ولكن ما مل يكن يف ح�سابهم هو �أنه رغم‬
‫قيامهم بهذه الفعلة يف جوف الليل‪� ،‬إال �أن �إحدى كامريات املراقبة املثبتة ب�شكل غري‬
‫ظاهر على �أحد املحال التجارية التابعة يل قد �صورتهم‪ ،‬ورغم �أنهم ملثمون �إال‬
‫�أنهم كانوا يتحدثون ويذكرون �أ�سماء بع�ضهم البع�ض‪ .‬ول�سوء حظ بالل �أنه كان‬
‫امل�س�ؤول عن تلك املجموعة‪ ،‬وكان ذا ج�سد �ضخم ب�شكل وا�ضح مما جعلني �أتعرف‬
‫عليه �صور ًة و�صوتا ً وا�سماً‪.‬‬
‫ولذلك كنت �أريد بالال ً و�أريد ما ميلكه‪� ،‬أما ما ميلكه فلم �أكن �أملكه �أنا ومل �أ�ستطع‬
‫امتالكه حتى بعد �سنوات من قتايل للعدو ال�صهيوين‪.‬‬
‫وهنا عدت �إىل منزيل‪ ،‬قلعة �أبي‪ :‬جدكِ ‪ ،‬ال�ستبدال �سيارتي ب�سيارة �أخرى قادرة‬
‫على امل�شي يف طرق جبلية وعرة وطرق ترابية لأمتكن من الو�صول �إىل رام اهلل‪.‬‬
‫ما ال تعلمينه يا ابنتي احلبيبة ويا مالكي احلار�س هو �أين كنت �أملك يف تلك الفرتة عددا ً‬

‫‪47‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫من ال�سيارات املتنوعة‪ ،‬فال�سيارات كانت �إحدى هواياتي �سواء ب�إ�صالحها وحتديثها‬
‫�أو قيادتها‪ ،‬وعندما �أقول قيادتها �أعني ال�رسعة واال�ستعرا�ض‪ ،‬فلأين كنت �أعمل‬
‫ميكانيكيا ً يف طفولتي‪ ،‬ولأين كنت �أمتلك كراجا ً ل�صيانة ال�سيارات بعد �إنهائي للدرا�سة‬
‫الثانوية امليكانيكية‪ ،‬فقد كنت �أم�ضي �أوقات فراغي من العمل الذي كان قليالً جدا ًيف تلك‬
‫الفرتة‪ ،‬كنت �أم�ضيه مبمار�سة هواية �سباق ال�سيارات املعروفة با�سم (‪،)Speed Test‬‬
‫وال �أذكر �أنه مر �شه ٌر واحد علي دون �أن �أتعر�ض للمخالفات املرورية ب�سبب ال�رسعة‬
‫الزائدة �أو ب�سبب قيادتي ب�شكل متهور كما كانوا ي�سجلون علي املخالفات‪.‬‬
‫�أما الأهم يف مو�ضوع قيادة ال�سيارات فهو �أين �أ�صالً مل �أكن يف تلك الفرتة �أملك‬
‫رخ�صة لقيادة ال�سيارة‪ ،‬فلقد كان عمري ما بني اخلام�سة ع�رش والثامنة ع�رش‪،‬‬
‫ولكني وب�سبب حبي للقيادة قمت بتزوير �أول بطاقة يف حياتي وهي بطاقة رخ�صة‬
‫القيادة‪ ،‬مل يكن تزويرا ً �صعبا ً ولكنه مل يكن �سهالً �أي�ضاً‪ ،‬ولكني ما �إن بلغت عامي‬
‫الثامن ع�رش حتى ا�ستخرجت بطاقة لرخ�صة القيادة املحلية والدولية �أي�ضاً‪ ،‬ومع‬
‫ذلك كنت يف بع�ض الأحيان �أ�ضطر ال�ستعمال �إحدى الرخ�ص املزورة‪ ،‬عندما يتم‬
‫حجز رخ�صتي القانونية ب�سبب طريقة قيادتي‪.‬‬
‫ففي بداية عام ‪ 2000‬قمت ب�رشاء �سيارة حديثة �صنعت يف نف�س العام ولكني‬
‫بدل �أن �أقودها �أبقيتها ملا يزيد عن �شهر ون�صف يف �أحد حمايل التجارية وهو‬
‫حمل ي�شبه الكراج كنت �أقوم به ب�صيانة �سياراتي‪ .‬وبعد م�ضي ال�شهر والن�صف‬
‫كنت �أنهيت تعديالتي على حمرك تلك ال�سيارة وحولته �إىل طاقة ح�صانية �أعلى‬
‫و�أقوى‪ ،‬وا�ستبدلت عددا ً من قطع تلك ال�سيارة اجلديدة التي مل ت�رس على ال�شارع‬
‫بعد‪ ،‬بقطع �أخرى حتولها من �سيارة عادية �إىل �سيارة ريا�ضية قوية جداً‪ ،‬لكنها‬
‫خفيفة الوزن �أي�ضاً‪ ،‬فلقد �أزلت منها عددا ً من القطع التي اعتربتها ثانوية وثقيلة‬
‫وت�ضعف املحرك‪ .‬مثل مكيف ال�سيارة وكامل جتهيزات التدفئة‪ .‬ول ِك �أن تتخيلي‬
‫كيف �أ�صبحت ال�سيارة‪.‬‬
‫هنا يا ابنتي العزيزة �أجد نف�سي �أقفز من ذكريات قدمية �إىل ذكريات �أقدم‪.‬‬
‫فمو�ضوع ال�سيارات وقيادتها كان هو ال�سبب والدافع وراء تعلمي و�إتقاين للتزوير‪.‬‬
‫يف البداية كان تزوير رخ�صة القيادة ولكني بعد ذلك وعندما �سافرت �إىل كوريا‬

‫‪48‬‬
‫�أدركت �أن جواز �سفري الأردين غري مرحب به يف العديد من الدول ولكي ال �أبقيه‬
‫عائقا ً �أمام رغبتي يف النجاح يف املجال التجاري فلقد دخلت عامل تزوير الأوراق‬
‫والبطاقات واجلوازات‪ .‬ولأين كنت ال �أثق ب�أحد فلقد �أخذت على عاتقي القيام بذلك‬
‫لوحدي ومب�ساعدة �أف�ضل الأجهزة االلكرتونية اخلا�صة بذلك املجال‪.‬‬
‫قمت باالجتار بتلك الأوراق والهوايات ف�أقول ل ِك ال و�ألف ال‪،‬‬ ‫�أما �إن �س�ألتني هل ُ‬
‫فكل ما كنت �أ�سعى �إليه من خالل تلك الأوراق املزورة هو �سهولة احلركة والتنقل‪،‬‬
‫وما �ساعد ذلك هو �إجادتي لأربع لغات �إجادة �أبعدت عني ال�شكوك‪ ،‬و�سهلت علي‬
‫انتحال تلك ال�شخ�صيات ذات اجلن�سيات واللغات املختلفة واملتنوعة‪.‬‬
‫�أعود بك يا مالكي احلار�س من تلك الذكريات البعيدة جدا ً �إىل البحث عن ذكريات‬
‫�أقرب وهي البحث عن بالل‪ .‬ا�ستبدلت �سيارتي ب�أخرى وانطلقت ب�أخذ الطرق‬
‫اجلانبية الرتابية الوعرة باجتاه مدينة رام اهلل‪ .‬و�صلت ليالً فما كان مني �سوى‬
‫التوجه ملدينة القد�س �إىل �شقتي هناك التي كنت ما �أزال �أحتفظ بها حتى تلك اللحظة‪.‬‬
‫رغم الدمار واخلراب الذي �شاهدته بطرق و�شوارع مدينة رام اهلل �إال �أن مدينة القد�س‬
‫مل يكن بها من ذلك اخلراب �شي ٌء‪.‬‬
‫�أم�ضيت ليلتي �ساهرا ً ومبحرا ً يف ال�شبكة العنكبوتية منطلقا ً ومتلم�سا ً متاهاتها‬
‫ومكت�شفا ً مواقع العدو ال�صهيوين من خالل تلك ال�شبكة ومن خالل اقتحام مواقع‬
‫�رشكات االت�صال‪.‬‬
‫منت عدة �ساعات وتو�ض�أت متجها ً �إىل الأق�صى لأ�صلي �صالة الفجر‪ .‬و�صلت‬
‫ولكني مل �أ�صل‪ ،‬و�صلت للبوابة تلو البوابة لكني منعت من الدخول لل�صالة رغم‬
‫جوازي الأجنبي‪ .‬قالوا‪ :‬ال �صالة للم�سلمني اليوم‪� ،‬أغرب عن وجهنا‪ .‬حاولت‬
‫وجادلت و�أ�رصرت ولكنهم رف�ضوا وب�أعقاب البنادق على ج�سدي انهالوا‪ ،‬ورغم‬
‫قوتي اجل�سدية �إال �أن بنادقهم املوجهة نحوي مهدد ًة �إياي‪ ،‬و�أعقاب بنادق �أخرى‬
‫تخط �آثارها على ج�سدي‪ ،‬فما كان من ذلك اجل�سد �إال �أن �سقط �أر�ضا ً من �شدة الأمل‬
‫‪�:‬سقط م�رضجا ً بالدماء‪.‬‬
‫حملني بع�ض من كانوا يف املكان ممن مل ي�سمح لهم بالدخول لل�صالة‪ ،‬حملوين‬
‫لبيت قريب ف�ضمدوا جراحي‪ ،‬وتوقفت دمائي عن النزف‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫بعد �ساعات قليلة ودعتهم رغم �أمل اجل�سد‪ ،‬لعلي �أمتكن من عقاب املحتل‬
‫ال�صهيوين على �أمل النف�س والروح‪� ،‬أمل الكرامة �أمل �إن �أ�رضب و�أمنع من �أداء‬
‫�صالتي لربي‪.‬‬
‫وهنا يا ابنتي احلبيبة �سوف �أ�ضيف �إىل قامو�س كلماتي وقامو�سي كلمات‬
‫املقاومة‪ ،‬كلمة خا�صة بي �أنا وهي الكلمة التي اعتربها الو�صف الكامل املتكامل ملا‬
‫قمت به بل هي الدافع املجهول بالواجب اجلهادي‪.‬‬
‫تلك الكلمة قد متر عند البع�ض مرور الكرام‪ ،‬فهي تعترب �ضعيفة وال تعترب من‬
‫الكلمات الرنانة التي ترددها �أل�سنة الثوار واملواطنني مثل كلمة االنتقام‪ ،‬وكلمة الث�أر‬
‫وكلمة الإبادة وال�سحق‪ ،‬كلمة كانت �أب�سط من ذلك بكثري و�أعمق من ذلك بكثري‪.‬‬

‫العقاب‬
‫ت�صف ما �أريد القيام به جتاه عدوي‪ .‬ال �أريد �أن �أث�أر‬ ‫ُ‬ ‫العقاب هو تلك الكلمة التي‬
‫لنف�سي وال للجرحى وال�شهداء‪ ،‬وال �أريد �أن �أنتقم فاالنتقام �أعمى ويعمي �صاحبه‪.‬‬
‫والث�أر �أعني ما هو �إال رد فعل �رسيع متهور‪.‬‬
‫وهنا �أقول �أن كل الثورات متر بعدة مراحل‪:‬‬
‫�أولها‪ :‬البداية‪ ،‬ويطلق البداية عادة �إما �شخ�ص جمنون متهور �أرعن و�إما �شخ�ص‬
‫عبقري حكيم‪.‬‬
‫ثانيها‪ :‬الوقود‪ ،‬فوقود الثورة �إما �أن يكون من �أ�شخا�ص �شجعان ذوي ر�ؤية‬
‫واقعية بالثورة واملقاومة‪ ،‬و�إما �أن يكون من �أنا�س ب�سطاء م�شوا مع املوج دون �أن‬
‫يدروا و�إذا بهم وقود للثورة وهذا هو حال الأغلبية‪.‬‬
‫ثالثها‪ :‬اخلامتة‪ ،‬وتختتم الثورة عاد ًة من قبل نوع واحد فقط ال غري‪ .‬نوع ال ثاين‬
‫�أو ثالث له‪ .‬وهو النوع االنتهازي املت�سلط النوع الذي كان يرق�ص على دماء ال�شهداء‬
‫من خالل ت�رصيحاته النارية �صباحاً‪ ،‬و�سكرا ً وعربد ًة ليالً‪.‬‬
‫ولذلك قررت �أن �أ�سلك طريق العقاب‪ .‬رحت �أدمج بني املرحلة الأوىل والثانية‪ ،‬و�أن‬
‫�أدعو اهلل �أن �أ�ست�شهد قبل �أن �أ�صل �إىل املرحلة الثالثة وهي نهاية الثورة واملقاومة‪.‬‬
‫عدت �إىل �شقتي بالقد�س‪ ،‬ومكثت فيها عدة �أيام حتى الت�أمت جراحي نوعا ً ما‪ .‬طوال‬

‫‪50‬‬
‫تلك الأيام كنت �أجل�س على �رشفة ال�شقة �صامتا ً هائما ً يف ملكوت اهلل‪� ،‬أفكر ب�أي نوع‬
‫من العقاب لأنزله بذلك العدو املحتل‪ .‬مل �أقرتب من جهاز احلا�سوب‪ ،‬وال من �أي‬
‫جهاز �آخر‪ .‬كل ما فعلته هو �أين اقرتبت من نف�سي �أكرث ف�أكرث فعرفت مكامن قوتي‬
‫ومكامن �ضعفي‪ ،‬ف�أدركت �أن املال والعلم والقوة اجل�سدية ال تكفي وحدها لبدء‬
‫املقاومة ولبدء ال�سري على طريق املهند�س‪.‬‬
‫عدت �إىل رام اهلل باحثا ً عن بالل‪ ،‬علمت �أنه هناك مبنطقة ا�سمها “البالوع “ ب�أحد‬
‫طرق رام اهلل‪ ،‬هناك كان يلقي احلجارة هو وعدد من �أ�صدقائه يف اجلامعة‪ .‬هناك‬
‫مبنطقة البالوع كان مئات ال�شبان وال�شابات والأطفال يلقون احلجارة‪.‬‬
‫�أوقفت �سيارتي على �إحدى التالل املطلة على ذلك املوقع ف�شاهدت كم نحن‬
‫الفل�سطينيون طيبون م�ساكني‪ ،‬بل كم نحن طيّبون لدرجة البالهة وال�سذاجة‪ .‬يف ذلك‬
‫جال�س يف داخلها‬
‫ٌ‬ ‫اليوم وب�سبب ما �شاهدته قررت ور�سمت من داخل �سيارتي و�أنا‬
‫ج�سديا ً وخارجها روحياً‪ ،‬قررت �أ�صول املعركة‪.‬‬
‫يف ذلك اليوم كان ملقوا احلجارة عدة مئات يلقون ويلقون �أما اجلنود فكانوا عددا ً‬
‫قليالً جدا ً ال يتجاوز االثنى ع�رش جنديا ً فقط‪ ،‬يحيطون بالتالل بجيبات ع�سكرية‪.‬‬
‫مل يكن احلجر قادرا ً على الو�صول لأولئك اجلنود رغم قوته وقوة من يقذف به‪،‬‬
‫فامل�سافة بينهم كانت بعيدة جداً‪� .‬أما ر�صا�ص قنا�صة االحتالل فكانت ت�صل‪،‬‬
‫في�سقط الع�رشات جرحى وقتلى‪ ،‬دون �أن ي�صاب جندي واحد‪ .‬ومن خالل جهاز‬
‫املنظار الذي كان بحوزتي �أق�سم �أين كنت �أ�شاهد اجلنود ي�ضحكون وميرحون‬
‫و�شباب احلجارة يت�أملون ويقتلون‪.‬‬
‫ومرهق‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫حلّت �ساعات امل�ساء فتفرق ال�شباب بني �شهيد وجريح وبني ٍ‬
‫تعب‬
‫وعادوا �إىل بيوتهم بعد �أن �أق�سموا على الرجوع يف اليوم التايل‪.‬‬
‫مل �أر بالال ًلكني ر�أيت قريبا ً يل مي�شي مع عد ٍد من �أ�صدقائه؛ ف�س�ألته عن بالل فقال‬
‫يل �أنه مل ي�أت اليوم كعادته؛ بل عاد �إىل القرية لي�ستجمع قواه فلقد تعب من املواجهة‬
‫عر�ضت عليه �أن �أو�صله للقرية فقال يل �أنه يريد البقاء‬
‫ُ‬ ‫امل�ستمرة منذ عدة �أ�سابيع‪.‬‬
‫مبدينة رام اهلل فودعته وانطلقت عرب طريق فرعي ترابي وعر عائدا ً وحدي �إىل قريتي‬
‫بيت رميا‪ ،‬متوجها ً �إىل منزل عمي‪ .‬هناك وجدته جال�سا ً لوحده هائما ً مبلكوت اهلل‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫جل�ست بجواره وبدون مقدمات‪ ،‬قلت له‪� :‬أمل تتعب من �إلقاء احلجارة طوال‬
‫االنتفا�ضة الأوىل عندما كنت طفالً وعندما �أ�صبت وفقدت �إحدى كليتيك؟ �أو �أنك‬
‫تريد موا�صلة �إلقاء احلجارة بهذه االنتفا�ضة �أي�ضاً؟ �أال تريد �أن تعاقب من �سلب‬
‫منك �أر�ضك؟ �صمت قليالً‪ ،‬وقال‪� :‬أنت يا عبد اهلل م�سكني‪ ،‬جئت من خارج فل�سطني‬
‫وال تدرك كم نعاين من نق�ص يف كل �شيء بل حتى �أننا ال منلك �شيئا ً من �أجل مقاومة‬
‫االحتالل �سوى احلجارة‪ .‬احلجارة فقط هي ما منلكها وال �شيء �سواها‪ .‬قلت‪ :‬قل‬
‫يل ماذا تق�صد ب�سواها؟ �صمت وقال‪ :‬كل �شيء كل �شيء‪ .‬قال هل تعلم �أنه رغم �أين‬
‫بعامي الرابع والأخري من درا�ستي يف اجلامعة ال �أملك ثمن �أجرة البا�ص للو�صول‬
‫�إىل جامعتي و�إىل رام اهلل لألقي احلجارة؟ كيف تعلم و�أنت متلك بدل ال�سيارة ثالثا ً‬
‫بل �أربعاً!‬
‫�صمت قليالً و�أكمل‪ :‬نريد قائدا ً يعد اخلطط وير�سمها ويقود املقاومني �إىل دروب‬
‫اجلهاد واملقاومة‪� .‬صمت طويالً جداً‪ ،‬فقلت له‪ :‬ح�سنا ً ماذا متلك �أنت؟ فكرر‪ :‬قلت لك‬
‫ال �شيء ال �شي َء �أبدا ً �أبداً‪.‬‬
‫قلت له‪� :‬أال متلك الرجال؟ الرجال القادرين على مواجهة املحتل ب�صدور عارية‪،‬‬
‫�أمل تكن قبل �أ�سابيع تقود �أولئك ال�شبان لتملأوا جدران القرية بال�شعارات ليالً؟‬
‫�صمت‪ ،‬فقلت له‪ :‬لقد ر�أيتك �أنت من قادهم ومن ملأ جدران القرية ب�أقوى ال�شعارات‬
‫التي تنادي باملقاومة امل�سلحة‪� ،‬أمل تكتب �أن بركان الق�سام قادم؟‬
‫و َّدعته بعد �أن طال بنا النقا�ش‪ ،‬وبعد �أن �أدركت �أن بالل الربغوثي هو الرجل‬
‫املنا�سب لكي �أ�ضع يدي بيده ولكي يبد�أ امل�شوار‪ .‬مل �أعد لبيتي يف تلك الليلة ومل �أعد‬
‫طوال عدة ليالٍ �أخرى �أم�ضيتها و�أنا �أعمل ليالً نهارا ً ب�أحد حمايل التجارية بعد �أن‬
‫�أغلقت بابه علي ومكثت بداخله لأبد�أ امل�شوار‪ ،‬م�شوار املهند�س عبد اهلل الربغوثي‪،‬‬
‫لأبد�أ من تلك النقطة التي ا�ست�شهد منها �سيد مهند�سي فل�سطني‪ ،‬يحيى عيا�ش‪.‬‬
‫يحيى عيا�ش‪ ،‬رحمة اهلل عليه‪ ،‬ا�ست�شهد عندما فجر جهاز ال�شاباك ال�صهيوين‬
‫هاتف نقال كان يتحدث به عيا�ش‪ ،‬فجر هذا الهاتف بعد �أن �سمع �صوت عيا�ش وهو‬
‫يتكلم‪ ،‬فجر عن بعد‪ ،‬وكان هذا الهاتف قد و�صل للمهند�س عيا�ش عن طريق �صديق‬
‫ح�صل عليه عن طريق �شخ�ص �آخر كان عميالً جلهاز ال�شاباك‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫تلك التفا�صيل مل تكن تهمني‪ ،‬ما يهمني هو جهاز الهاتف النقال‪ .‬كان جهازا ً‬
‫كبريا ً �ضخما ً ثقيل الوزن وكان هذا هو حال تلك الأجهزة بتلك الفرتة الزمنية‪ ،‬لذلك‬
‫ح�صلت على �أ�صغر جهاز متداول من الهواتف النقالة‪ ،‬عرب �إح�ضاره من دبي لكي‬
‫�أحاول تفخيخه وجعله يتفجر عندما �أ�سمع �صوت من يتحدث به‪ ،‬لكني مل �أجنح بل‬
‫�إين زدتها تعطالً قبل �أن �أمتكن من �إخ�ضاع ِه لأوامري‪ .‬وكلمة �إخ�ضاع هي الكلمة‬
‫املنا�سبة لهذه احلالة‪ ،‬وكما هي العادة مل �أك َّل ومل �أم َّل بل قمت ب�رشاء عد ٍد �آخر من‬
‫نف�س نوع اجلهاز وب�رشاء �أجهزة من نوع خا�ص ي�ستعمل من قبل ال�رشكات امل�صنعة‬
‫لذلك اجلهاز من �أجل الفح�ص وال�صيانة‪.‬‬
‫ما هي �إال �أيام حتى متكنت من �إخ�ضاع جهاز الهاتف النقال لأوامري وطلباتي‪،‬‬
‫متنوع من العبوات النا�سفة والألغام املتفجرة والقنابل‬ ‫ٍ‬ ‫وبعد ذلك قمت ب�صناعة عد ٍد‬
‫اليدوية وعد ٍد من العبوات النا�سفة امل�ستعملة يف عمليات االغتيال‪.‬‬
‫وهكذا حولت ما قد كتبت على ورق من معلومات‪ ،‬وما كان بداخل عقلي من‬
‫خربة �سابقة وحولت تلك الأدوات التي �أدخلتها معي �إىل داخل فل�سطني قبل قرابة‬
‫العامني عندما و�صلت‪ ،‬حولت كل ذلك �إىل واقع ملمو�س‪.‬‬
‫طوال تلك الفرتة من العزلة بداخل امل�ستودع الذي مل �أكن �أتركه �إال من �أجل‬
‫�رشاء �أدوات �أو معدات وطعام و�رشاب‪ .‬كانت عيناي ت�رسقان النظر من بعيد �إىل‬
‫حقيبة املهند�س يحيى عيا�ش التي كانت مو�ضوعة على �أحد الرفوف العالية يف‬
‫امل�ستودع‪ ،‬ودون مقدمات وجدت نف�سي �أنزلها من هناك و�أفتحها‪ ،‬بعد �أن �سميت‬
‫با�سم اهلل الرحمن الرحيم‪ ،‬فتحتها كان بداخلها عبوتان نا�سفتان م�صنوعتان من‬
‫احلديد ال�صلب وكانتا معلَّقتني يف جوانب مبادة اال�سمنت الأ�سود‪ ،‬وكان يخرج من‬
‫�أحد �أطرافها �سلك زوجي �أبي�ض م�صنوع من النحا�س الذي قد ت�آكل وتلف‪ ،‬ب�سبب‬
‫الرطوبة وطول مدة التخزين‪ ،‬وكان هناك ورقة تدل على طريقة اال�ستعمال‪� ،‬أما‬
‫الأهم فهو القر�آن الكرمي‪ ،‬كان هناك كتاب قر�آن كرمي‪ ،‬قد كتب على �صفحته الأوىل‬
‫كن مع اهلل وال تبال ِ‪.‬‬
‫قمت بتفكيك العبوات النا�سفة بحذر بعد �أن عملت على جتميدها بوا�سطة‬
‫ثالجة لتجميد اللحوم‪ ،‬كانت موجودة لدي بامل�ستودع‪ ،‬وبعد ذلك فككت العبوتني‬

‫‪53‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫النا�سفتني‪ ،‬فوجدت بداخل كل واحدة منها ما يلي‪ :‬جمموعة من امل�سامري بكل طرف‬
‫من الأطراف‪ ،‬ويف املنت�صف وجدت كي�سا ً بال�ستيكيا ً مملوءا ً مبادة تعرف با�سم �أم‬
‫العبد‪ ،‬عرفت ا�سمها فيما بعد‪.‬‬
‫يف �أحد الأيام التي ق�ضيتها يف امل�ستودع �صليت الفجر مب�سجد القرية‪ ،‬وعندما‬
‫كنت عائدا ً وجدت حمارا ً �أبي�ض اللون‪ ،‬حمارا ً �سبق �أن �أحرقه �أحد ال�صبية قبل �أ�شهر‬
‫عندما �أ�شعل النار بذنبه ف�أ�صبح بال ذنب‪ ،‬وما �إن اندلعت االنتفا�ضة حتى كتب �أحد‬
‫الفتيان كلمة املوت ل�شارون على كال جانبيه ف�أ�صبح ا�سم ذلك احلمار منذ ذلك اليوم‬
‫حمار �شارون‪.‬‬
‫ملعت بر�أ�سي فكرة ف�أم�سكت بها و�أم�سكت بحمار �شارون‪ ،‬وذهبت مع احلمار‬
‫�إىل امل�ستودع ومن هناك �أخذت �أحد الهواتف النقالة املفخخة وذهبت راكبا ً احلمار‬
‫�إىل �إحدى قطع الأر�ض التي ميتلكها والدي وهي �أر�ض على �أطراف القرية املزروعة‬
‫ب�شجر الزيتون واللوز‪ ،‬الكثري الكثري من اللوز‪ ،‬هناك و�ضعت الهاتف على ر�أ�س‬
‫�شارون احلمار وثبتّه جيدا ً ومن هاتف �آخر ات�صلت به ففتح اخلط ب�شكل تلقائي‪،‬‬
‫وبعد �أن ابتعدت عن �شارون احلمار‪� ،‬أق�صد حمار �شارون ا�ستمعت ل�صوت �أنفا�سه‬
‫عرب اجلهاز الآخر الذي كان معي وهنا �أ�صدرت الأمر من جهازي ليتفجر اجلهاز‬
‫الآخر وينفجر معه ر�أ�س �شارون احلمار‪.‬‬
‫ولقد كانت تلك �أول جتربة حية �أجربها يف فل�سطني وهكذا �أ�صبح �شارون بال‬
‫ر�أ�س فرغم �صغر جهاز الهاتف �إال �أن املادة التي زرعتها بداخله كانت قوية جدا ً بل‬
‫كانت قوية �أكرث من الالزم‪.‬‬
‫جمعت �أ�شالء احلمار وكومت كومة كبرية من احلطب حوله‪ ،‬كان والدي قد طلب‬
‫مني �إح�ضارها من هناك قبل �أيام طويلة لكني مل �أفعل الن�شغايل‪ ،‬وقمت ب�إ�شعال‬
‫النار وهكذا اختفت �آثار هذه التجربة‪.‬‬
‫بعد ذلك عدت �إىل القرية ما�شيا ً على قدمي‪ .‬عدت �إىل منزل ابن عمي بالل لأجده‬
‫نائما ً يحلم باملقاومة‪ ،‬ف�أيقظته لأحول حلمه �إىل واقع حقيقة ملمو�سة‪ ،‬فبالل‬
‫الربغوثي كان م�سحورا ً مفتونا ً بال�شهيد عيا�ش مثل العديد من �أبناء حركة حما�س‪.‬‬
‫كانوا يحلمون مبهند�س يعيد للمقاومة عزها وجمدها‪ ،‬ففي تلك املرحلة �أي قبل‬

‫‪54‬‬
‫االنتفا�ضة الثانية‪ ،‬انتفا�ضة الأق�صى‪ ،‬كانت �أجهزة �أمن ال�سلطة الفل�سطينية تت�سابق‬
‫بل كانت تتباهى باعتقال كل من ميت حلركة املقاومة الإ�سالمية حما�س ب�صلة‪،‬‬
‫وهكذا كانت احلركة واقعة بني مطرقة املحتل و�سندان عمالء ذلك املحتل‪ :‬ما بني‬
‫الوقائي واملخابرات من جه ٍة‪ ،‬وما بني ال�شاباك ال�صهيوين من جهة �أخرى‪.‬‬
‫�أيقظت بالالً لأحول حلمه وحلمي �إىل واقع ملمو�س‪ ،‬توجهنا �إىل م�ستودعي وهناك‬
‫و�ضعت عدة حقائب بداخل �سيارتي التي كانت هي الأخرى بداخل امل�ستودع‪ ،‬ركبت‬
‫وركب هو‪ ،‬قلت له‪ :‬ال تتكلم وال ت�س�أل انظر و�شاهد فقط ال غري‪.‬‬
‫و�صلنا �إىل قطعة �أر�ض �أخرى تعود لوالدي وكانت تلك القطعة تقع باجلانب‬
‫الآخر من القرية‪� ،‬أوقفت ال�سيارة وحملت احلقائب و�رسنا على الأقدام حتى‬
‫و�صلنا �إليها‪ ،‬فلم تكن ال�سيارة قادرة على خو�ض الطريق الوعر امل�ؤدي �إليها‪ ،‬وما‬
‫�إن و�صلنا حتى بد�أت �أخرج العبوات النا�سفة الواحدة تلو الأخرى‪ ،‬بالل كان �صامتا ً‬
‫و�أظن �أنه ما زال يحلم فلم يكن يقول �سوى اهلل �أكرب �أهذا حلم �أم حقيقة؟ �أهذا حلم‬
‫�أم حقيقة! فلقد فجرت �إحدى العبوات بجوار �سور �صخري ف�أ�صبح ال�سور �أثرا ً‬
‫بعد عني‪ .‬وفجرت عبوة موقوتة مببنى كان ي�ستعمله والدي لتخزين احلاجيات‬
‫ف�أ�صبح مكان املبنى حفرة كبرية فجرت وفجرت‪ ،‬وهو يكرب تار ًة ويفرك عينيه‬
‫تار ًة �أخرى‪ ،‬بعد ذلك �أ�رشت له لالنتقال ملكان �آخر بعد �أن جمعت ما يفي من �أدوات‬
‫الكرتونية بعد االنفجارات‪.‬‬
‫وهكذا اقلّتنا ال�سيارة ولكننا مل نعد‪ ،‬بل توجهنا �إىل �سيارة قدمية قد �ألقيت ب�أحد‬
‫الطرقات اجلانبية من القرية هناك و�ضعت عبوة يف �أ�سفلها وعن طريق جهاز التحكم‬
‫عن بعد قمت بتفجريها‪ ،‬فانفجرت وا�ستيقظ بالل على �صوتي و�أنا �أقول له‪:‬‬
‫وق�ص�صت عليه‬
‫ُ‬ ‫ا�سمع يا بالل ملا �سوف �أقوله لك بعد �أن ر�أيت ما ر�أيته قبل قليل‪.‬‬
‫ق�صتي بالكامل من �أولها لآخرها‪ .‬وهكذا قررنا �أن نتعاون معا ً لنكون نواة خلاليا‬
‫كتائب عز الدين الق�سام بجامعة بريزيت برام اهلل وبكل مكان ن�ستطيع الو�صول له‪.‬‬
‫رغم �أن بالالً كان يقاوم املحتل منذ �أعوام و�أعوام �إال �أنه مل يكن قد �أم�سك بال�سالح‬
‫�أبداً‪ ،‬وهذا �شيء �أذهلني جدا ً ف�أخذته بنف�سي ذلك اليوم �إىل املكان الذي فقد فيه‬
‫�شارون ر�أ�سه و�أعطيته قطعة �سالح بعد �أن دربته وعلمته على طريقة ا�ستعمالها‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫وهناك على حمار �شارون الذي كان الدخان ما زال يت�صاعد منه رغم مرور �ساعات‬
‫على �إحراقه‪ ،‬بد�أ بالل يطلق النار لأول مرة يف حياته من �سالح ناري‪.‬‬
‫وعلى الفور اتفقت مع بالل على �أن ينتقي عددا ً من الأ�شخا�ص من �أبناء الكتلة‬
‫الإ�سالمية بجامعة بريزيت وغريها للبدء بت�شكيل خاليا م�سلحة لكتائب عز‬
‫الدين الق�سام‪.‬‬
‫وهنا بد�أت �أدرب بالالً على قيادة ال�سيارات وعلى ا�ستعمال �أجهزة الهاتف‬
‫النقال‪ .‬وزودته بعد ٍد منها‪ ،‬وباملال الالزم لنبد أ� امل�شوار‪� .‬أما �أنا فلقد كنت م�شغوالً‬
‫ب�أمور �أخرى مثل احل�صول على الأجهزة الالزمة من �أجل عمل بطاقات هوية‬
‫مزورة‪ ،‬ومثل �أ�ستئجار عدد من ال�شقق مبدينة رام اهلل وغريها من املدن‪ ،‬وكنت‬
‫�أقوم بتجهيز كل �شقة من تلك ال�شقق بكل ما يلزم من �أجهزة كهربائية و�أثاث‪� ،‬أما‬
‫الأهم فهو �أين كنت �أحول كل �شقة من تلك ال�شقق �إىل مركز قيادة متنقل ب�شكل‬
‫كامل بحيث �أين كنت �أخ�ص�ص غرفة لتكون مكانا ً ل�صناعة العبوات النا�سفة‬
‫والأدوات الالزمة لذلك‪ ،‬وغرفة �أخرى لتكون مكانا ً لأمور التقنية و�أهم ما يف ذلك‬
‫�أن كل تلك ال�شقق كانت على �أ�سماء �أ�شخا�ص وهميني من جهة وحقيقيني من‬
‫جهة �أخرى؛ فعرب اقتحامي لل�شبكة العنكبوتية ا�ستطعت احل�صول على معلومات‬
‫عن عدد كبري من بطاقات الهوية امل�سجلة يف دائرة اجلوازات الفل�سطينية التابعة‬
‫لوزارة الداخلية‪ .‬وهكذا كنت �أ�صدر بطاقات ذات معلومات حقيقية مائة باملائة‬
‫�إال �أنها مل تكن حتمل �صور �أ�صحابها بل �صور عبد اهلل الربغوثي‪� ،‬صوري �أنا‪،‬‬
‫ف�أنا الذي كان يتوجه لأ�صحاب ال�شقق من �أجل ا�ستئجارها واحل�صول على عقد‬
‫�شخ�ص �آخر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الإيجار الذي ي�سجل با�سم‬
‫مل �أكن �أختار �أنا�سا ً ب�شكل ع�شوائي بل كنت �أنتقي �أ�صحاب املهن البعيدة عن‬
‫ال�شبهات مثل مهنة الطبيب امل�سيحي مثالً �أو ال�صيدالين ابن طائفة ال�سمرة بنابل�س‪،‬‬
‫و�أكرث ما كنت �أ�ستعمل كانت مهنة املحامني ومعلمي املدار�س‪.‬‬
‫�أما ما يخ�ص الهويات التي كنت �أ�ستعملها للتنقل بني املدن فلقد كنت �أ�ستعمل‬
‫هويات من نوع �آخر‪ ،‬هويات مقد�سية �أو هويات لأبناء الطائفة الدرزية‪ ،‬وبخا�صة‬
‫لأولئك املنخرطني يف �صفوف جي�ش االحتالل ال�صهيوين‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫ولكي �أ�سهل تنقلي فلقد ا�شرتيت عددا ً من ال�سيارات ذات اللوحة الإ�رسائيلية‬
‫ال�صفراء‪ ،‬وبذلك كنت �أتنقل ب�سهولة جدا ً بني املدن الفل�سطينية يف ال�ضفة الغربية‬
‫وبني القد�س واملدن املحتلة بداخل فل�سطني مثل تل الربيع (تل �أبيب) وغريها‪.‬‬
‫وهنا يا ابنتي احلبيبة ويا مالكي احلار�س �أ�صبحت �أكر�س كل وقتي لإعداد البنية‬
‫التحتية للمقاومة‪ ،‬مما جعلني �أبتعد عن ِك وعن والدت ِك كثرياً‪ ،‬بل �إن جدكِ بد�أ ي�شك‬
‫وبد�أت تلوح بعينه �أ�سئلة كثرية جدا ً وخا�صة �أنه يف �أحد الأيام عندما كنت يف مدينة‬
‫نابل�س دخل على �أحد امل�ستودعات التجارية ليتفقده ب�سبب انقطاع التيار الكهربائي‬
‫فوجد الأطعمة املحفوظة يف الثالجات قد تلفت‪ ،‬ف�أخرجها و�ألقاها يف حاوية القمامة‬
‫�أما الأهم فهو �أنه �ألقى مواد متفجرة كانت حمفوظة يف علب مغلقة بتلك الثالجات‬
‫ولوال �سرت اهلل ع َّز وج َّل حلدث ما ال يحمد عقباه‪.‬‬
‫ووجد جدكِ يف ذلك امل�ستودع عددا ً من قطع ال�سالح خمب�أة بحقيبة على‬
‫�أحد الرفوف مما جعل ناقو�س اخلطر يدق عند جدكِ ‪ ،‬وكما �سبق �أنه انتظرين‬
‫عند مدخل القرية قبل �أعوام خوفا ً علي من �أن �أكون قد اعتقلت عندما دخلت‬
‫فل�سطني انتظرين هذه املرة بعد �أن �أدرك �أين قد �رست على درب طاملا حلمت‬
‫ب�أن �أ�سري عليه‪ .‬وما �إن عدت حتى قال يل‪� :‬أهالً بال�سيف �أهالً و�سهالً بال�سيف!‬
‫�أمل �أقل لك �أن ال�سيف ال ميكن �أن ي�صبح حمراثا ً �أبد�أً؟ علمت منه ما قد ح�صل‬
‫فتوجهت م�رسعا ً حلاوية القمامة لأ�ستعيد املواد املتفجرة التي وبحمد اهلل ع َّز‬
‫وج َّل وجدتها على حالها‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬ا�سمع يا والدي‪ ،‬لقد �آن الأوان لأخو�ض املعركة التي طاملا حلمت بها‬
‫أدع يل بالتوفيق والنجاح ف�أنا يا والدي قد قررت �أن �أترك هذه الدنيا الفانية‬‫ومتنيتها‪ُ � ،‬‬
‫لأقاتل لعلٍّي �أ�سقط �شهيدا ً �أو لعلي �أنت�رص‪ ،‬املهم يا والدي هو �أين واثق ب�إذن اهلل �أين‬
‫قبل �أن �أ�صل لإحدى احل�سنيني‪� ،‬سوف �أ�سقط الع�رشات والع�رشات من قتلى العدو‪.‬‬
‫يا والدي �أنت كنت تنوي ال�سفر �إىل عمان بعد مو�سم الزيتون واملو�سم قد انتهى‪،‬‬
‫ف�سافر يرعاك اهلل وال تن�ساين من الدعاء‪.‬‬
‫ودعني والدي و�سافر �إىل عمان‪� ،‬أما �أنا فلقد قلت عدة جمل قلتها بهجاء الدنيا؛‬
‫دنيا الفناء‪:‬‬

‫‪57‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫عودي �أو ال تعودي فل�ست مباليا ً‬


‫ما عاد قلبي يحب ِك معلقا ً‬
‫وما عدت بع�شق ِك هائما ً‬
‫ف�أنتِ الوهم ال احلقيقة حتما ً‬
‫فزواالً م�صريكِ حكما ً‬
‫�أمل يهبط �إلي ِك �آد ٌم‬
‫من جنة اخللد ما�شيا ً‬
‫ملا قطعت يده تفاح ًة‬
‫ف�أنتِ الدنيا و�أنا ل�ست بقاط ٍع‬
‫من متاعك احلقري �شيئا ً‬
‫فلقد وهبت روحي لربي موحدا ً‬
‫قا�صدا ً اجلهاد وال�شهادة م�سلحا ً‬
‫ف�أنا بحب كتائب الق�سام متي ٌم‬
‫وبع�شق فل�سطني والقد�س مغر ٌم‬
‫ودرب جنة اخللد قا�صدا ً‬
‫وعلى ترك دنيا الف�ساد عازما ً‬
‫فاعني يا ربي وكن لأمري مي�رسا ً‬
‫و�أدخلني جنتك �صائما ً م�صليا ً‬
‫يدي لك داعيا ً‬ ‫ربي رفعت َّ‬
‫أنت رب اخللق ورب حممد‬ ‫ف� َ‬
‫فاجعل القر�آن بقلبي حرزا ً‬
‫و�سنة امل�صطفى نبيك منار ًة‬
‫فبال عونك �أعود عا�صيا ً‬
‫لدنيا الف�ساد والإف�ساد خمالفا ً‬
‫ف�أو�صلني لدرب املقاومة قويا ً‬
‫ف�أنا بال�شهادة وبجنة اخللد مب�رشا ً‬

‫‪58‬‬
‫ما �إن و�صل والدي لعمان‪ ،‬حتى قمت ببيع املحال التجارية التي كنت �أملكها‬
‫�سحبت كل ما كنت �أملكه من مال‬ ‫ُ‬ ‫وبت�صفية كافة �أعمايل التجارية‪ ،‬ومل � ِ‬
‫أكتف بذلك بل‬
‫يف البنوك وفتحت ح�سابا ً م�رصفيا ً خا�صا ً لزوجتي وو�ضعت به بع�ض املال الذي‬
‫يكفي لها و ل ِك يا ابنتي لكي تعي�شي عي�شة كرمية �إذا ما ا�ست�شهدت‪.‬‬
‫يف تلك الأثناء كان بالل قد انتهى من انتقاء عد ٍد من العنا�رص املنا�سبة لنبد�أ‬
‫م�شوارنا بدرب اجلهاد واملقاومة‪ ،‬درب عيا�ش واليا�سني درب عز الدين الق�سام‪ ،‬من‬
‫خالل كتائب عز الدين الق�سام‪.‬‬
‫وهنا �أقول ل ِك يا ابنتي يا مالكي احلار�س �أين لن �أخو�ض بتفا�صيل هذه الفرتة‬
‫لأ�سباب عديدة منها �أين يا ابنتي �أم�ضيت �ستة �أ�شهر كاملة يف زنازين التحقيق دون‬
‫�أن �أك�شف عن �أي �شيء عن تلك الفرتة التي امتدت لأعوام‪ ،‬ولكني وقبل �أن �أعتقل‬
‫كنت قد ح�صلت على ما ي�سمى لوائح االتهام التي قدمت بحق من عملوا معي‪ ،‬ف�أنا يا‬
‫مالكي احلار�س قد ر�أيت املوت وكلمته و�صارعته يف جل�سات التحقيق التي ك�رست‬
‫خاللها عظامي ولكن مل تك�رس بها بوابة الدخول لأ�رساري‪.‬‬
‫تلك الأ�رسار التي �أقبع لأين ما زلت �أحتفظ بها مدفونة بعقلي يف زنزانة العزل‬
‫االنفرادي اجلائر منذ �أن اعتقلت‪ ،‬ومنذ �أن توقف التحقيق معي لكنه مل ينت ِه منذ‬
‫قرابة �أعوام ع�رش ف�أنا يا ابنتي متهم من قبل قوات االحتالل ب�أين قمت بتنفيذ مائة‬
‫وثماين ع�رشة عملية �ضد العدو ال�صهيوين خالل م�شواري اجلهادي‪.‬‬
‫بل �إين خالل الأعوام املا�ضية مت اقتيادي للتحقيق �أربع مرات على عدد من‬
‫الق�ضايا الأمنية اجلهادية التي حدثت بعد �أ�رسي ب�إدعاء �أن يل يدا ً بها‪.‬‬
‫رغم وجودي بالعزل االنفرادي اخلا�ص �إال �أين ما زلت حاله خا�صة جدا ً بنظر‬
‫ذلك العدو ال�صهيوين‪ ،‬حالة م�ستمرة باملقاومة رغم الأ�رس رغم �أنف ال�سجان‬
‫ورغم �أ�سوار ال�سجن‪ ،‬فهناك يا ابنتي عددا ً من امللفات الأمنية التي مل تقفل بعد‬
‫ومل يتمكن عدوي وعدو فل�سطني من حلها بعد وك�شف �أ�رسارها‪ ،‬وب�إذن اهلل لن‬
‫يتمكن‪� ،‬أما ما �سوف �أتطرق �إليه خالل كتابتي ل ِك فهو يخ�ص بع�ض �أهم املراحل‬
‫املف�صلية التي م ّرت بها كتائب الق�سام بال�ضفة الغربية والقد�س ال�رشيف‪ ،‬تلك‬
‫املراحل التي متكنت خاللها الكتائب من متريغ �أنف العدو بالوحل‪ ،‬وهي �أي�ضا ً من‬

‫‪59‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫رفعت ا�سم وم�صداقية حركة حما�س عاليا ً يف ال�سماء‪ ،‬و�أعادت لها جمدها وجمد‬
‫العيا�ش يحيى‪.‬‬
‫وهنا �سوف تختلف طريقة كتابتي عن ال�سابق بحيث ال ت�صبح �رسدا ً للأحداث‪،‬‬
‫بل �إ�ضاءات على واقع ومراحل قد مرت معي‪ ،‬وهنا �سوف �أ�سمي كل مرحلة با�سم‬
‫من �أ�ضاءها‪� ،‬سواء �أكان �شهيدا ً �أم �أ�سرياً‪� ،‬أم حمررا ً �أ �أم كان بال ا�سم ظل حرا ً ومل‬
‫يعتقل ومل ي�ست�شهد و�سوف تكون �أول تلك املراحل هي التايل‪:‬‬

‫‪60‬‬
‫ال�شهيد الق�سامي البطل «عز الدين امل�صري»‬

‫وهنا قبل �أن ن�صل لل�شهيد عز الدين امل�رصي يجب �أن ن�سلط‬
‫طريق وع ٍر نوعا ً ما؛ فبعد �أن نفذنا عدة عمليات‬
‫ٍ‬ ‫ال�ضوء على‬
‫خاطفة وخا�صة �ضد العدو عرب اخلاليا التي عملنا على ت�شكيلها‬
‫�أنا وبالل الربغوثي‪ ،‬طلبت من بالل �أن يو�صلني مل�س�ؤويل‬
‫الق�سام مبختلف مدن ال�ضفة الغربية والقد�س املحتلة‪ ،‬فكان من‬
‫وذكي بل عبقري ا�سمه �أمين حالوة‪ ،‬وكان هذا املهند�س‬‫ٌ‬ ‫مهند�س ف ٌذ‬
‫ٌ‬ ‫�أولئك امل�س�ؤولني‬
‫قد حترر من الأ�رس منذ مدة ق�صرية جداً‪ ،‬ومل يكن قد �شارك بالعمليات امل�سلحة‪� ،‬إال‬
‫�أنه ومع اندالع االنتفا�ضة بد أ� العمل مع عدد من �أ�صدقائه الأ�رسى املحررين �أمثال‬
‫املجاهد البطل العنيد « �سليم حجي» وكذلك املجاهد «علي عالن» ابن مدينة بيت حلم‪،‬‬
‫فذهبت ملدينة نابل�س لألتقي «ب�سليم حجي» الذي �صحبني للقاء �أمين حالوة‪ .‬كنت‬
‫�أرغب من خالل ذلك اللقاء �أن �أنقل اخلربة املوجودة لدي للأخوة يف خمتلف املناطق‪.‬‬
‫وهكذا اجتمعت مع �أمين حالوة وا�ستعر�ض �أمامي �إمكانيات احلركة يف تلك الفرتة‬
‫مبدينة نابل�س‪ ،‬فكانت �صدمتي كبرية جداً‪ .‬فرغم �أين كنت �أمام مهند�س عبقري بكل‬
‫ما حتمل الكلمة من معنى مهند�س فذ ذي موهبة وا�ضحة جداً‪� ،‬إال �أنه ب�سبب مكوثه‬
‫ملدة طويلة جدا ً يف الأ�رس ال�صهيوين‪ ،‬كان قد ابتعد عن الأمور التقنية احلديثة وظل‬
‫ي�ستعمل نف�س املواد والأدوات التي ا�ستعملها يحيى عيا�ش قبل ا�ست�شهاده‪.‬‬
‫و�رسعان ما متكن �أمين حالوة من جماراتي‪ ،‬بل والتفوق علي مبا �صنعته‬
‫وابتكرته‪ .‬فلقد كان �رسيع التعلم و�رسيع البديهة فما �إن كنت �أريه خمططا ً �إلكرتونيا ً‬
‫حتى يقوم بفك رموزه وجمع خيوطه‪ .‬وهكذا متكنت بف�ضل ذكاء املهند�س «�أمين‬
‫حالوة» من نقل كل خربتي يف جمال ال�صناعات الع�سكرية لعدد كبري من �أبناء املناطق‬
‫املحيطة مبدينة نابل�س‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫�أما �أمين حالوة فلقد قال يل بعد �أول لقاء‪ :‬ا�ستحلفك باهلل يا عبد اهلل‪ ،‬هل �أنت تنتمي‬
‫لهذا العامل �أم لعامل امل�ستقبل؟ قل يل باهلل عليك هل �أتيت �إىل نابل�س عرب �آلة الزمن؟ فما‬
‫كان مني �سوى �أن �أبت�سمت وقلت له‪� :‬أنا ابن هذا الزمن ولكني ل�ست ابن هذا املكان‪.‬‬
‫فقال‪ :‬كيف؟ قلت‪� :‬أنا مل �أولد هنا ومل �أتعلم هنا فقد ولدت يف اخلارج ودر�ست الهند�سة‬
‫وا�ستقيت علومي من بحر مراكز البحوث العلمية ومن �شبكة االنرتنت‪� .‬أما‬ ‫ُ‬ ‫يف كوريا‬
‫�أنت يا �صديقي فلقد منعتك قيود الأ�رس وق�ضبان ال�سجن من �أن تكمل ما بد�أته يف‬
‫جامعتك‪ ،‬وهذا هو الفرق بيني وبينك‪ ،‬ولكنك خالل �أيام معدودة ا�ستطعت اللحاق‬
‫بي بل ا�ستطعت جتاوزي ف�أنت مهند�س جمتهد‪� ،‬أما �أنا فمهند�س ك�سول ال �أجتهد‬
‫�إال �إذا واجهت م�شكلة وعند ذلك �أجتهد لأجد لها حالً‪ ،‬حتى �أين ال �أنام �أياما ً طويل ًة‬
‫حتى �أجد احلل‪ ،‬فقلت له‪� :‬أعطيك مثاالً ما هي �أكرب م�شكلة تواجهها �أنت وتعتقد �أن‬
‫حلها �صعب بل �أن حلها م�ستحيل؟ قال‪ :‬حاليا ً ومع ما زودتني به ال �أظن �أن هناك �أي‬
‫م�شكلة من هذا النوع‪� ،‬أما �إن �س�ألت عن م�شكلة �أبحث لها عن حل فهناك واحدة �أبحث‬
‫لها عن حل منذ �أعوام و�أعوام‪ ،‬و�أ�شار �إىل �أحدى الأوراق �أمامه‪ ،‬قال هذه الورقة هي‬
‫امل�شكلة‪ .‬و�أكمل‪ :‬كيف �أ�ستطيع �إر�سال هذه الورقة التي كتب عليها �أحد البيانات التي‬
‫قمنا بها يف عملية الأم�س‪ ،‬دون �أن يك�شف �أمرنا‪ ،‬حيث يوجد بجوار كل وكالة للأنباء‬
‫�ألف عميل وعميل‪ ،‬و�ألف رجل �أمن من رجال جهاز الأمن الوقائي واملخابرات‪ ،‬قل‬
‫يل هل ت�ستطيع جعل من يو�صل هذا البيان خفيا ً ال يرى؟ هل متلك طاقية متكننا‬
‫من �أن ي�صبح �شبحاً؟ �ضحكت وقلت‪ :‬طبعا ً �أملك �أال تعلم‪� ،‬ضحك هو ولكنه �رسعان‬
‫ما �أدرك �أين مل �أكن �أمزح فقال‪ :‬كيف؟ وعن �أي طاقية تتحدث؟ قلت‪� :‬أعود لك بعد‬
‫�أ�سبوع �أو اثنني و�أح�رض لك احلل والطاقية‪.‬‬
‫ودعته ولكنه ا�ستوقفني على الباب وقال‪ :‬باهلل عليك عندك احلل؟ قلت‪� :‬أدعو اهلل ع َّز‬
‫وج َّل �أن �أجد احلل‪ .‬دلني على حمل يبيع القهوة لأين �أظن �أين �سوف �أحتاجها لتعينني‬
‫على �سهر الليايل القادمة‪� .‬صافحته وتوجهت من مدينة نابل�س جبل النار �إىل مدينة‬
‫رام اهلل‪ ،‬رام اهلل التي �أ�صبحت وكرا ً ل�سلطة الف�ساد والإف�ساد‪ ،‬وكرا ً للأجهزة الأمنية‪.‬‬
‫يف تلك الفرتة مل �أكن مطاردا ً �أو مطلوبا ً ولذلك كانت حركتي �سهلة جدا ً ولأين‬
‫معروف على �أين �أقوم بالتجارة فلم يكن تنقلي يثري ال�شبهة من قبل تلك الأجهزة‬

‫‪62‬‬
‫الأمنية‪ ،‬حتى بعد �أن �صفيت �أعمايل فلم يرث ذلك �شكوكهم نحوي‪.‬‬
‫طوال الطريق كنت من�شغالً بالتفكري لإيجاد حل لتلك امل�شكلة التي مل �أجد وقتا ً‬
‫�ض بر�أ�سي �أثناء حديث �أمين‬‫طويالً لإيجاد �سيناريو حلها‪ ،‬بل �أن �سيناريو حلها و َم َ‬
‫عنها وهو جهاز الفاك�س‪.‬‬
‫ولكن كيف �أحول جهاز الفاك�س من جهاز معلوم مكان �إ�شارة الإر�سال منه �إىل‬
‫جهاز جمهول مكان الإر�سال وجمهول الهوية؟ عدت بعد �أقل من �أ�سبوعني لأقابل‬
‫�أمين يف نابل�س‪ ،‬هناك على الطاولة �أخرجت حقيبة كانت على كتفي‪ :‬جهاز فاك�س‬
‫�صغري احلجم وو�ضعته �أمام �أمين حالوة‪ ،‬ابت�سم بعد �أن قلّب الفاك�س بني يديه‬
‫وقال‪ :‬اهلل ي�ساحمك �أال تعلم �أنه مبجرد �أن نر�سل ر�سالة واحدة من هذا الفاك�س �سوف‬
‫يتم مداهمة املكان الذي �أر�سلت منه من خالل معرفتهم رقم الهاتف عرب �أجهزتهم‬
‫االلكرتونية التي ي�ستعملها جهاز ال�شاباك؟ قلت له‪ :‬هذا الفاك�س ال يحتاج خلط هاتف‬
‫كي ير�سل الر�سائل بل ال يحتاج لأن يو�صل بالكهرباء املنزلية ليعمل �أ�صال‪ ،‬كل ما‬
‫عليك عمله هو و�ضع �أي ورقة بداخله وهو �سوف ير�سلها ب�شكل �آيل فوري �إىل اثني‬
‫ع�رش وكالة �أنباء دون �أن يتمكن �أحد من تعقب مكان وجوده‪ ،‬ومكان وجود املر�سل‪،‬‬
‫بل �إنك �إن �أردت �أن يعمل الفاك�س ب�شكل متنقل فكل ما عليك عمله هو و�ضع الر�سالة‬
‫بداخله وتركه يعمل لوحده يف الوقت الذي نحن نعمل على برجمته به‪.‬‬
‫قال يل‪ :‬باهلل عليك �أمل ت�أتِ �إىل نابل�س ب�آلة الزمن؟ �أمل ت�أتي هنا منذ عام ‪� 2050‬أو‬
‫‪ ،2100‬فقلت‪ :‬ال بل �أتيت من تل الربيع هناك وجدت جهاز فاك�س يعمل بالطريقة‬
‫التي ميكنني التعديل عليها‪ ،‬فهو ال يحتاج لكم كبري من التيار الكهربائي ولذلك‬
‫قمت بجعله يعمل عن طريق البطاريات ولكن لي�س هذا هو املهم‪ ،‬املهم هو �أين وعرب‬
‫جهاز �آخر ا�ستطعت و�صله بجهاز الفاك�س‪ ،‬وحولت �إ�شارة بطاقة الهاتف اجلوال �إىل‬
‫�إ�شارة ت�ستعمل يف نظام الهاتف الأر�ضي؛ ولذلك ف�إن كل ما يلزمنا لت�شغيل جهاز‬
‫الفاك�س بطارية وهي موجودة بداخله وبطاقة هاتف جوال تو�ضع بداخله وهكذا‬
‫تكون ح�صلت على طاقية الإخفاء‪ ،‬املهم �أن تكون بطاقة الهاتف اجلوال جمهولة‬
‫امل�صدر وهذا �سهل‪� ،‬أما الأهم هو �أن ت�ستبدل تلك البطاقة بعد كل ا�ستعمال‪ ،‬لكي ال‬
‫يتم تعقبها‪� ،‬أي مرة واحدة فقط‪ ،‬و�أن نر�سل الفاك�س من مكان عام بحيث تربجمه‬

‫‪63‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫وت�ضعه بحقيبة �شخ�ص متحرك يف �أي من ال�شوارع املزدحمة؛ وبذلك تبقى بعيدا ً‬
‫عن ر�صد �أجهزة العدو‪ ،‬وكما يقال احلاجة �أم االخرتاع‪ ،‬فاحلاجة جلهاز الفاك�س‬
‫كانت الدافع ل�صناعته واخرتاعه وكان ذلك قد حدث يف نهاية عام ‪.2000‬‬
‫�أما ما حدث قبل ذلك ف�أعتقد �أنه �أكرث �أهمية‪ ،‬ففي عام ‪� 1990‬أي قبل ع�رشة �أعوام‬
‫من مو�ضوع الفاك�س وقبل اثنني وع�رشين عاما ً من عام ‪ 2012‬عامنا هذا الذي �أكتب‬
‫به هذه الوم�ضات‪ ،‬فلقد كان عمري يف عام ‪� 1990‬سبع َة ع�رش عاماً‪ ،‬ومل �أكن قد �أكملت‬
‫عامي الثامن ع�رش‪ ،‬كنت قد �أردت �أن �أفتح ور�شة ل�صيانة ال�سيارات وت�صليحها‪،‬‬
‫ولكني مل �أكن �أملك املال الالزم لكي �أ�ست�أجر الور�شة رغم �أين ا�ستدنت بع�ض املال‬
‫�إال �أنه مل يكف ِ‪ ،‬فلقد كانت الور�شة تقع يف جممع جتاري و�صناعي جديد وكان‬
‫�صاحب املجمع من ذلك النوع البخيل االنتهازي فما كان �أمامي من حل �سوى �أن‬
‫قمت ب�صناعة جهاز للت�صنت وال�سرتاق ال�سمع‪ ،‬و�ضعت هذا اجلهاز �صغري احلجم‬
‫بداخل كربيته و�أل�صقتها ب�أ�سفل مكتب �صاحب املجمع وبهذه الطريقة ا�ستطعت �أن‬
‫�أح�صل على املعلومة التي مكنتني من ا�ستئجار الور�شة بال�سعر املنا�سب‪ ،‬ال�سعر‬
‫الذي ت�ستحقه ال �أكرث وال �أقل‪.‬‬
‫احلاجة �أ ّم االخرتاع‪� ،‬أما احلاجات التي �أ�صبحت بحاجة �إىل حلول فلقد كرثت جداً‪،‬‬
‫وجعلتني ال �أجد وقتا ً حتى للنوم؛ فلقد كنت وطوال عدة �أعوام ال �أنام �سوى خم�س‬
‫�أو �ست �ساعات‪ .‬وطوال تلك الفرتة كان طعامي يقت�رص تقريبا ً على ال�سندوت�شات‬
‫اجلاهزة‪� .‬أما ما كان يزعجني يف تلك الفرتة‪ :‬فرتة تلبية احلاجات‪ ،‬فهو �أداء ال�صالة‪،‬‬
‫نعم �أداء ال�صالة فلقد كان عقلي م�شغوالً جدا ً مما كان ي�ؤدي بي �إىل ن�سيان عدد‬
‫الركع التي �صليتها �أو ن�سيان ماذا قر�أت من القر�آن الكرمي‪ ،‬وكنت دائما ً ما �أعيد‬
‫ال�صالة مرة �أو اثنني حتى �أت�أكد من �أين �أديتها ب�شكل �صحيح‪.‬‬
‫لقد كربت يف تلك الفرتة امل�س�ؤوليات التي �ألقيت على عاتقي فلقد كنت دائم البحث‬
‫عن م�صادر ل�رشاء ال�سالح والعتاد مبختلف �أنواعه‪ ،‬وكنت دائم البحث عن �شقق‬
‫وخمازن جتارية ال�ستعمالها لل�سكن ولتخزين املواد النا�سفة وال�سالح والذخرية‪.‬‬
‫�أما ال�شيء الذي كان مبثابة ريا�ضة اال�سرتخاء يل فلقد كانت امل�شاركة على ر�أ�س �أي‬
‫من اخلاليا الق�سامية املقاتلة ملهاجمة موقع �صهيوين �أو ملهاجمة رتل من عرباته‬

‫‪64‬‬
‫امل�صفحة بالعبوات النا�سفة‪ ،‬فلقد كنت �أ�شعر عند م�شاركتي مبثل هذه الكمائن براحة‬
‫نف�سية عظيمة جداً‪ ،‬كانت هي الدافع لكي �أعاود ن�شاطي للقيام بالأعمال الأخرى‪.‬‬
‫يف تلك الفرتة كنت قد قررت �أن نكثف توجيه ال�رضبات العقابية للعدو مبنطقة‬
‫�سلفيت ومبنطقة حوارة جنوب نابل�س‪ ،‬حيث كان امل�ستوطنون ال يخرجون من تلك‬
‫امل�ستوطنة �أبدا ً �أبداً‪� ،‬إال ب�صحبة حرا�سات م�شددة وبا�ستعمال حافالت م�صفحة‪،‬‬
‫فلم يعودوا ي�ستعملون �سياراتهم اخلا�صة خوفا ً من الكمائن والعبوات النا�سفة‪.‬‬
‫بعد عدة �أ�شهر قدر اهلل �أن ي�صاب �أمين حالوة بحرق يف وجهه ورقبته جراء‬
‫ا�شتعال مادة ت�ستعمل يف ال�صناعات الع�سكرية‪ ،‬مما جعل �أمين وب�سبب �إ�صابته‬
‫يلقي على عاتقي عبء ت�شغيل عد ٍد من مقاتلي الق�سام هناك يف نابل�س‪ ،‬ولأين ما‬
‫زلت غري مطارد فلقد كنت �أق�ضي ن�صف �أ�سبوع مبدينة رام اهلل مع بالل واخلاليا‬
‫التي �شكلها‪ ،‬والن�صف الآخر مبدينة نابل�س مبتابعة بع�ض رجال �أمين حالوة‪،‬‬
‫وهنا حدث ما ال حتمد عقباه �أبدا ً فلقد زاد طغيان العدو ال�صهيوين وبغيه وغدره‪.‬‬
‫ولأنه مل ي�ستطيع الو�صول لقادة الق�سام وال لعنا�رص الق�سام املقاتلة‪ ،‬فلقد قام‬
‫هذا العدو الباغي بق�صف مقر خم�ص�ص لل�صحافة والأخبار يف مدينة نابل�س مما‬
‫�أدى �إىل ا�ست�شهاد عدد من ال�شهداء كان على ر�أ�سهم ال�شهيد جمال �سليم وال�شهيد‬
‫جمال من�صور‪ ،‬وهما �أهم قياديني �سيا�سيني بحركة حما�س بنابل�س بل مبنطقة‬
‫ال�ضفة الغربية بذلك الوقت‪ ،‬وبذلك الوقت �أي�ضا ً حدثت �إحدى �أهم االنعطافات‬
‫مب�سريتي اجلهادية؛ فلقد تعالت �أ�صوات احلناجر امل�شيعة جلثامني ال�شهداء بالث�أر‬
‫واالنتقام من العدو وكانت تلك احلناجر تطالب كتائب عز الدين الق�سام بالعمليات‬
‫اال�ست�شهادية‪ ،‬العمليات اال�ست�شهادية التي �أنا �شخ�صيا ‪-‬عبد اهلل الربغوثي‪ -‬مل �أكن‬
‫�أف�ضلها‪ ،‬فلقد كنت �أف�ضل املواجهة امل�سلحة والكمائن والعبوات النا�سفة والألغام‪،‬‬
‫�أما العمليات اال�ست�شهادية فلقد كنت �أرف�ض جمرد التفكري بها‪� .‬أما �أمين الذي كان‬
‫يعاين من جرحه فلقد كان يف�ضل هذا النوع من العلميات‪ ،‬فطلب مني و�ألح علي بل‬
‫رجاين وحلفني باهلل العلي العظيم �أن �أعمل على التخطيط لإحدى تلك العمليات‪ .‬وهنا‬
‫وبعد تفكري مل يطل كثريا ً قررت �أن �ألبي النداء‪ ،‬وطلبت من «�أمين حالوة» �أن ير�سل‬
‫يل �أحد الأ�شخا�ص الذين يريدون تفجري �أنف�سهم ف�س�ألني‪ :‬هل هناك نوع معني من‬

‫‪65‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫الأ�شخا�ص؟ هل تريده مثالً �أن يكون يجيد اللغة العربية لي�سهل تنقله وو�صوله �إىل‬
‫املكان امل�ستهدف؟ قلت له‪� :‬أر�سل يل �شخ�صا ً يرى ما ال �أراه‪� ،‬أر�سله بعد �أ�سبوعني �إىل‬
‫�أحد م�ساجد رام اهلل و�أنا من هناك �سوف �أتوىل باقي الأمور‪.‬‬
‫ودعت «�أمين حالوة» واجتهت �إىل رام اهلل واجتمعت ببالل الربغوثي وقلت له‪:‬‬
‫�أننا نريد تغيري مهمة �إحدى اخلاليا الق�سامية التي تعمل معنا فبد َل �أن تقوم تلك‬
‫اخللية بنقل العبوات النا�سفة من مكان لآخر ومن مدينة �إىل قرية �أريد من تلك اخللية‬
‫نقل ا�ست�شهادي وعندها قال بالل‪ :‬احلمد هلل �أنك قررت خو�ض هذا املجال‪ ،‬فقلت‬
‫له‪ :‬باهلل عليك ال تناق�شني يف هذا املو�ضوع حتى ال �أبدل ر�أيي‪ .‬قال‪ :‬ح�سنا ً ح�سناً‪،‬‬
‫املهم �أنك قد قررت خو�ض هذا املجال‪ ،‬هكذا تكون مهند�س ق�سامي مائة باملائة‪ ،‬فبعد‬
‫الكمائن واال�شتباكات امل�سلحة ي�أتي دور العمليات اال�ست�شهادية‪.‬‬
‫بعد طول تفكري وقع االختيار على خلية «حممد دغل�س» لكي تنفذ هذه العملية‪،‬‬
‫وال�سبب الرئي�س هو �أن «حممد دغل�س» كان ميلك عن�رصا ً مهما ً جدا ً جداً‪ ،‬وهو‬
‫الأخت املجاهدة «�أحالم التميمي» التي مل �أكن �أعلم عنها �شيئاً‪ .‬وهنا �أق�صد مل �أكن‬
‫�أعلم ا�سمها �أو �إن كانت �شابا ً �أم �شابة‪ ،‬لكني كنت �أعلم �أنه مت اختيارها ح�سب �أعلى‬
‫املوا�صفات من حيث التكتم التام واحل�س الأمني العايل والإميان ال�صادق بدرب‬
‫كتائب عز الدين الق�سام‪.‬‬
‫بعد عدة �أيام وبعد �أن ر�صدت �أحالم �أحد الأماكن يف مدينة القد�س �أردت �أن �أجرب‬
‫الإجراءات الأمنية املتبعة لذلك �أر�سلت عبوة نا�سفة �صغرية احلجم لأحالم التميمي‬
‫من خالل حممد دغل�س ثم بالل الربغوثي‪ ،‬بالل الربغوثي الذي جن جنونه عندما‬
‫قلت له اذهب من قرية بيت رميا �إىل مدينة رام اهلل ل�رشاء �ست علب برية ودجاجة‬
‫م�ستوية وبع�ض املك�رسات و�أح�رضها يل يف القرية قلت له ذلك بعد �صالة الفجر‬
‫مب�سجد القرية فجن جنونه لكن ب�صمت دون �أن ينطق بكلمة واحدة‪ ،‬لكن عيونه‬
‫كانت تقول ما مل يقله ل�سانه‪.‬‬
‫انطلق بالل من القرية �إىل رام اهلل مبا�رشة بعد ال�صالة ولأن احلواجز ال�صهيونية‬
‫كانت كثرية جدا ً وكانت تغلق كل الطرق الرئي�سية فلقد ا�ستغرق قطع امل�سافة التي‬
‫كانت بالعادة ال تزيد عن ن�صف �ساعة‪ ،‬ن�صف يوم‪ ،‬فا�شرتى العلب ال�ست من‬

‫‪66‬‬
‫البرية والدجاجة واملك�رسات وعاد �إىل القرية يف نف�س اليوم‪� ،‬أي �أنه �أم�ضى يوما ً‬
‫كامالً ذهابا ً و�إياباً‪� .‬أعطاين ما �أح�رض يل ف�شكرته بعد �أن �أعطيته الدجاجة امل�ستوية‪،‬‬
‫واحتفظت باملك�رسات وعلب البرية �أم�ضيت عدة �ساعات و�أنا �آكل املك�رسات و�أج ّهز‬
‫العبوة النا�سفة التي �صنعتها و�أخفيتها بقلب �إحدى تلك العلب‪ .‬وو�ضعت تلك العلبة‬
‫املفخخة بني العلب اخلم�سة ال�سليمة بداخل ال�صندوق املخ�ص�ص لها‪ .‬وعند �صالة‬
‫الفجر قابلت بالالً و�أعطيته كي�ساً‪ ،‬ما �إن حمله حتى قال هذه علبة البرية‪ ،‬هذه علب‬
‫البرية ملاذا �أح�رضتها يل فقلت له �أنها من النوع الرديء و�أين �أريد من يعيدها �إىل‬
‫رام اهلل‪� .‬صمت بالل بغ�ضب وقبل �أن ينفجر غ�ضبه‪ ،‬وهو الهادئ امللتزم‪ ،‬قلت له‪:‬‬
‫�أن �أحد تلك العلب مفخخ و�أن املطلوب �إي�صال تلك العلب «ملحمد دغل�س» ومنه �إىل‬
‫«�أحالم التميمي» لكي تزرعها باملوقع الذي قامت هي با�ستطالعه‪ ،‬فحمل العلب‬
‫مبت�سما ً مهلالً لأنه �أدرك �أن موعد تنفيذ العملية اال�ست�شهادية قد اقرتب‪ .‬كانت عملية‬
‫علبة البرية �أ�شبه ما يكون باختبار لأع�صاب من �سوف يقومون بتنفيذ العملية‬
‫اال�ست�شهادية‪ ،‬فلقد �أردت �أن �أرى مدى االن�ضباط والقدرة على العمل حتت ظروف‬
‫خمتلفة عن تلك الظروف ال�سابقة‪ ،‬فعمليات �إطالق النار ون�صب الكمائن امل�سلحة‬
‫وزراعة العبوات النا�سفة على جوانب الطرق حتتاج �إىل نوع �آخر من املقاتلني‪� ،‬أما‬
‫العمليات اال�ست�شهادية فتحتاج �إىل نوع ذي �أع�صاب حديدية وقدرة على التحكم‬
‫بامل�شاعر ب�شكل مطلق وكامل‪ ،‬و�سوف �أحتدث عن هذه النقطة بوم�ضة �أخرى‬
‫�شاهدت خاللها �أ�شد مقاتلي الق�سام و�أقواهم عزما ً يبكون وال يكفون عن البكاء �أثناء‬
‫الإعداد والتجهيز لإحدى العمليات اال�ست�شهادية‪.‬‬
‫حمل «بالل الربغوثي» �صندوق علب البرية املو�ضوع بداخل كي�س بال�ستيكي‬
‫وانطلق �إىل مدينة رام اهلل و�سلمه ملحمد دغل�س الذي �سلمه بدوره للأخت املجاهدة‬
‫�أحالم التميمي‪� ،‬أحالم التي قامت با�ستطالع املكان �أوالً قبل �أيام معدودة ثم بزراعة‬
‫العبوة بعد �أن مرت بها عرب حواجز االحتالل من رام اهلل �إىل مدينة القد�س؛ مدينة‬
‫القد�س التي �سوف ت�صبح فيما بعد مركز عملياتي الرئي�س‪ ،‬هناك ب�أحد الأ�سواق‬
‫التجارية زرعت �أحالم العبوة النا�سفة وبعد �أن �شغلتها انفجرت العبوة بالوقت‬
‫املحدد‪ .‬مل يكن املق�صود �إيقاع قتلى �أو حتى جرحى يف تلك العملية �أبدا ً كما قلت‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫جنحت العبوة بزرع اخلوف يف قلوب ال�صهاينة ب�أماكن ال�سوق‪ ،‬لكن الأهم هو‬
‫جناح كامل لعنا�رص اخللية ب�أن يحملوا علبة برية‪ ،‬برية وهي �شيء تهابه يد امل�سلم‬
‫امل�ؤمن‪ ،‬لكن ان�ضباطهم و�شفافيتهم جعلتني �أبد�أ باخلطوة الثانية من تلك العملية‪،‬‬
‫وهنا توجهت �إىل رام اهلل لإحدى ال�شقق التي كنت �أمتلكها هناك للجلو�س بعيدا ً عن‬
‫�صخب االنتفا�ضة وبعيدا ً عن �إزعاج ولدي �أ�سامة الذي ولد بتاريخ ‪ 2000/5/24‬ولد‬
‫و�أنا من�شغل متاما ً عنه‪ ،‬حتى �أين ال �أذكر �أين حملته بني ذراعي منذ �أن ولد وبعدة‬
‫�أ�شهر‪ ،‬بل حتى �أين ال �أذكر حتديدا ً �سبب ت�سميتي له ب�أ�سامة ولكني �أعتقد �أين �أ�سميته‬
‫�أ�سامة لأن يل �أربعة �أ�صدقاء ا�سمهم �أ�سامة‪ ،‬و�أعتقد �أن ذلك هو ال�سبب الأرجح �أما عدم‬
‫حملي �إياه وحتى عدم ح�ضوري يوم عملية تطهريه فلأين كنت دائم ال�سفر من مدينة‬
‫�إىل �أخرى ومن قرية لأخرى‪ ،‬فلم يكن يل دقيقة لبيتي ولزوجتي ولتاال و�أ�سامة‪.‬‬
‫يف تلك ال�شقة �أم�ضيت يومني وليلتني‪ ،‬وطلبت من بالل �أن يذهب لق�ضاء يومه يف‬
‫�شخ�ص �آخر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫كنت قد ا�ست�أجرتها على ا�سم‬ ‫املدينة وليلته ب�شقة �أخرى ُ‬
‫يف �صباح اليوم التايل ح�رض بالل مبكرا ً دون �أن يعلم �أن اليوم هو موعد و�صول‬
‫اال�ست�شهادي «ع ّز الدين امل�رصي» من نابل�س �إىل رام اهلل لأحد امل�ساجد لي�صلي هناك‬
‫وينتظر �شخ�صا ً �سوف ي�أتي لي�صطحبه لتنفيذ العملية‪.‬‬
‫طلبت من بالل �أن يذهب �إىل امل�سجد مع «حممد دغل�س» للقاء عز الدين ولكي يقوما‬
‫ب�رشاء مالب�س تتنا�سب مع املوقع الذي مت ر�صده وهو �أحد املواقع التي ا�ستطلعتها‬
‫«�أحالم التميمي» يف القد�س ال�رشيف‪.‬‬
‫بعد �أن �أعطيت بالال ًكلمة ال�رس وكلمة التعارف انطلق ف�أح�رض «عز الدين امل�رصي»‬
‫وجهز له املالب�س اخلا�صة وو�ضعها وتركها �أمانة عند «حممد دغل�س» يف �إحدى ال�شقق‬
‫التي ا�ست�ؤجرت‪ ،‬لتكون بيتا ً �أمناً‪� ،‬أي بيتا ً ال يوجد يف داخله �أي �شيء �أبدا ً �سوى الأثاث‬
‫والطعام‪� ،‬أي بيتا ً عاديا ً جدا ً دون �سالح ودون خمترب للمواد النا�سفة‪.‬‬
‫وعاد بالل اىل �شقتي ف�أخربين مبا فعله فقلت له‪ :‬ح�سناً‪ ،‬وطلبت منه �أن يذهب‬
‫�إىل �أحد املحال التجارية لبيع الآالت املو�سيقية‪ ،‬لي�شرتي يل قيثارة‪ ،‬حددت له مكان‬
‫املحل ومكان القيثارة ولونها وطلبت منه �أن ي�شرتي لها بيتا ً من اجللد‪� ،‬س�ألني ملاذا‬
‫قيثارة ماذا تريد �أن تفعل بها؟ قلت‪� :‬أريد �أن �أعزف عليها ف�أنا �أ�شعر بامللل‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫بالل رغم �أنه عن�رص ق�سامي من�ضبط �إال �أنه كان يجن من �أجوبتي عليه‪ ،‬فهي‬
‫�أجوبة غري مفهومة بالن�سبة له �أبداً‪ ،‬تريد قيثارة لتعزف عليها وهناك ا�ست�شهادي‬
‫ينتظرنا بالبيت الآخر على �أحر من اجلمر؟ ذلك ما �أراد بالل قوله لكن ح�سن خلقه‬
‫وان�ضباطه جعاله يقول‪ :‬ح�سنا ً �سوف �أح�رضها على الفور‪ .‬وفعالً خالل ن�صف‬
‫�ساعة عاد بالل ومعه القيثارة ف�أم�ضيت طوال فرتة الع�رص واملغرب وحتى حلول‬
‫�ساعات الليل املت�أخرة �أعزف على القيثارة وكان بالل ي�شاهدين ب�صمت وب�صرب ومل‬
‫ي�س�أل �أي �س�ؤال ومل يزعجني رغم �إزعاجي له ب�أحلاين املزعجة‪.‬‬
‫تعب بالل وغلبه النعا�س فقلت له‪ :‬اذهب لكي تنام عند «حممد دغل�س» وعند «عز‬
‫الدين امل�رصي»‪ ،‬و ُعد يوم غ ٍد باكراً‪� .‬أم�ضى بالل ليلته مع �أخويه بقراءة القر�آن‬
‫وال�صالة‪� ،‬أما �أنا فلقد توقفت عن العزف وذهبت لكي �أنام‪ ،‬فالنوم �سلطان كما يقال‪.‬‬
‫ا�ستيقظت على �صوت الباب الذي كان يطرقه بالل‪ ،‬ففتحت له و�أجل�سته يف غرفة‬
‫ال�ضيوف حيث كنت �أعزف ليلة البارحة‪ .‬ا�ستلقيت على �أحد املقاعد متعبا ًنع�سا ًوطلبت‬
‫من بالل �أن يح�رض القيثارة من الغرفة املجاورة‪ ،‬وقبل �أن �أنهي جملتي �شعرت �أن‬
‫بالال ً �سوف يقوم بك�رس القيثارة �ألف قطعة‪ ،‬فلقد قال يل �أنه مل ينم و�أم�ضى الليلة‬
‫رتب من اهلل لعله ي�سهل هذه العملية‪ ،‬ولذلك وقبل �أن‬ ‫بطولها مع �أخويه بالعبادة‪ ،‬لنق َّ‬
‫ي�صل بالل باب الغرفة التي كنا جنل�س فيها قلت له احذر �أن مت�س القيثارة ب�سوء‬
‫وارفعها بحذر �شديد جدا ً جداً‪ ،‬فالقيثارة مفخخة مبواد نا�سفة تكفي لتن�سف املبنى‬
‫كامالً‪ .‬احذر باهلل عليك و�سم با�سم اهلل قبل �أن ترفعها‪ .‬عاد بالل وو�ضع القيثارة‬
‫على الطاولة‪ ،‬وقال‪ :‬ملن القيثارة؟ هل هناك عملية �أخرى غري عملية اال�ست�شهادي‬
‫فقلت له‪ :‬ال‪� ،‬أبدا ً اليوم ال عملية �سوى عملية «عز الدين امل�رصي»‪ .‬فرد‪� :‬أين احلزام‬
‫النا�سف؟ فقلت‪ :‬الأحزمة النا�سفة كان لها زمنها �أما الآن فزمن الأحلان النا�سفة‪.‬‬
‫طلبت منه بعد ذلك �أن يطلب من «حممد دغل�س» �أن ي�ستدعي «�أحالم التميمي»‬
‫للح�ضور ملدينة رام اهلل‪�« ،‬أحالم» يف تلك الفرتة مل تكن تعلم �أي �شيء مطلقاً‪ ..‬وفعالً‬
‫ذهب بالل لإبالغ حممد مبا طلبته منه وعاد ليجدين نائماً‪ ،‬غارقا ً يف النوم‪ ،‬ف�أنا يف الليلة‬
‫ال�سابقة مل �أمن �سوى ع�رش �أو خم�س ع�رشة دقيقة فقط ثم قمت لكي �أ�ستحم و�أبد�أ‬
‫ب�إعداد القيثارة وتفخيخها ولقد ا�ستغرق ذلك طوال الليل وما �إن انتهيت وو�ضعت‬

‫‪69‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫ر�أ�سي على الو�سادة لكي �أنام حتى ا�ستيقظت على �صوت طرق الباب يف ال�صباح الباكر‬
‫ُ‬
‫ا�ستيقظ على طرقه مرة �أخرى‪ ،‬ليخربين �أن �أحالم قد و�صلت لرام اهلل و�أن‬ ‫وها �أنا‬
‫�ساعة امل�ساء قد حانت‪ ،‬تلك ال�ساعة التي �أردتها �أن تكون يف منت�صف النهار‪� ،‬أي عند‬
‫الظهر بنف�س التوقيت الذي ق�صفت به طائرات االحتالل املكتب ال�صحفي الذي كان‬
‫بداخله ال�شهيدين «جمال من�صور» و«جمال �سليم» �أردت �أن ي�شهد العامل كله العقاب‬
‫الذي �سوف يتلقاه �أولئك ال�صهاينة املحتلني جزاء جرائمهم بحق �أبناء فل�سطني‪.‬‬
‫�أعطيت بالال ً القيثارة وتوجه بها �إىل مكان وجود حممد دغل�س واال�ست�شهادي‬
‫عز الدين امل�رصي‪ .‬هناك بداخل تلك ال�شقة قام بالل وحممد وعز الدين بق�ضاء عدة‬
‫�ساعات حرجة من االنتظار والرتقب‪ ،‬االنتظار لل�ضوء الأخ�رض النطالق تنفيذ‬
‫العملية‪ ،‬فلقد كلفت جمموعة مكلفة بعدة مهام‪ ،‬منها‪.‬‬
‫�أوالً‪ :‬مراقبة امل�سجد الذي كان من املفرت�ض �أن ي�صل �إليه اال�ست�شهادي ولقد‬
‫بد�أت تلك املهمة من املراقبة منذ �ساعات الفجر الأوىل وا�ستمرت حتى �ساعات ما‬
‫بعد �صالة الع�رص من ذلك اليوم‪ ،‬وكان تقرير املراقبة يقول �أن الأمور طبيعية مائة‬
‫باملائة و�أن اال�ست�شهادي و�صل باملوعد املحدد �أي قبل �صالة الع�رص و�صلى ثم‬
‫انتظر بالركن املحدد له مب�سجد جمال عبد النا�رص مبدينة رام اهلل‪ ،‬وبعد ذلك دخل‬
‫�أح ٌد الأخوة لي�صطحبه من هناك وطول تلك املدة كانت الأمور هادئة ومل يكن �أحدا ً‬
‫يتابع �أو يراقب �أ ّيا ً من اال�ست�شهادي �أو الأخ الذي ا�صطحبه معه‪ ،‬ولقد بقينا بداخل‬
‫امل�سجد وحوله قبل وبعد الو�صول واملغادرة ومل نالحظ �أي �شيء‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬لقد كانت املهمة الثانية حتتوي على جز�أين �أولهما متابعة عز الدين وبالل‬
‫منذ خروجهم من امل�سجد ومرورهم بالبيوت ل�رشاء املالب�س‪ ،‬ثم مراقبة املنزل‬
‫الآمن الذي مكث به كل من بالل وحممد واال�ست�شهادي عز الدين امل�رصي‪ .‬ولقد‬
‫جاء بتقرير املراقبة الذي و�صلني �صباحا ً �أن الأمور قد �سارت على �أكمل وجه‪ ،‬ومل‬
‫يكن هناك �سوى نقطة واحدة ا�ستثنائية جاءت بذلك التقرير �سوى �أن �أ�ضواء �شقة‬
‫البيت الآمن كانت م�ضاءة طوال الليل‪ ،‬ولقد �أرجعت ذلك لأن الثالثة كانوا قد م�ضوا‬
‫تلك الليلة م�ستيقظني لأداء ال�صالة وقراءة القر�آن الكرمي‪ ،‬لكنني قررت �أنه فيما بعد‬
‫يجب �أن ال يتمكن �أي �أحد خارج �أي بيت �آمن من م�شاهدة �أ�ضواء الإ�شارة نهائياً‪،‬‬

‫‪70‬‬
‫ولذلك عملت على تزويد كل ال�شقق ب�ستائر من النوع الثقيل الذي ال ي�رسب ال�ضوء‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬وهي املهمة الأ�صعب فلقد كانت تركز على ر�صد ومتابعة حركة ال�سري‬
‫من مدينة رام اهلل و�صوالً �إىل مدينة القد�س املحتلة‪ ،‬ومتابعة احلواجز الع�سكرية‬
‫املوجودة على امتداد ذلك الطريق �سواء �أكانت حواجز ثابتة �أم حواجز ا�ستثنائية‬
‫وفجائية‪ ،‬ولقد جاء بذلك التقرير الذي كان حم�صلة عدة �أيام من املراقبة ب�أن ن�ؤجل‬
‫العملية‪ ،‬حتى تهد�أ الأو�ضاع‪ ،‬لكنني وجدت عك�س ذلك متاما ً لأنه رغم �أن حالة‬
‫الإ�ستنفار والتفتي�ش كانت دقيقة �إال �أنه كان ثابتا ً ومل يتغري على مدى تلك الأيام‪� .‬أي‬
‫�أنه �أ�صبح روتينيَّا والهدف منه الت�ضييق والتخويف لي�س �إال‪ ،‬وهنا بعد �أن �صليت‬
‫ركعتي �صالة ا�ستخارة قررت �أنه قد حان موعد االنطالق‪.‬‬
‫و�أر�سلت �إ�شارة لبالل الربغوثي لكي ير�سل اال�ست�شهادي «عز الدين امل�رصي»‬
‫مع «حممد دغل�س» لكي يو�صله للأخت «�أحالم التميمي» وبعد ذلك وبو�ضح النهار‬
‫وخالل �أقل من �ساعة ون�صف على �إ�شارات البدء‪ ،‬كانت «�أحالم التميمي» قد �سلمت‬
‫اال�ست�شهادي و�أو�صلته للقد�س بعد �أن مرت عرب احلواجز دون �أن تفت�ش ودون �أن‬
‫تتعطل فلقد كانت حتمل بطاقة �صحفية ت�س ِّهل لها التنقل بني املدن ولأنها فتاة فلم‬
‫تلفت االنتباه‪.‬‬
‫وهنا �أقول �أن تعمدي الختيار �أخت تعمل باملجال ال�صحفي كان مرده �أن تكون‬
‫ر�سالة الق�سام وا�ضحة و�ضوح ال�شم�س‪� ،‬أي �أنتم �أيها ال�صهاينة قمتم بق�صف مكتب‬
‫�إعالمي و�صحفي وال يوجد به �أي م�سلح وال يوجد به �أي ن�شاط ع�سكري‪ ،‬و�أنا �أرد‬
‫عليكم ب�أن تكون ال�صحافة هي من تو�صل اال�ست�شهادي �إىل موقع العملية‪ ،‬و�أن‬
‫تكون ال�صحافة هي من ت�صور وتبثّ وقائع تلك العملية‪.‬‬
‫وهكذا كانت «�أحالم التميمي» تلك املجاهدة البطلة الق�سامية ثابتة الأع�صاب‬
‫و�شديدة العزم والإميان‪ ،‬هي ال�صحفية الفل�سطينية الق�سامية الأوىل التي تو�صل‬
‫ا�ست�شهاديا ً‪ ،‬وتعلن عن نب�أ العملية عرب �شا�شة التلفاز الذي كانت تعمل به؛ لأنه‬
‫كان يجب �أن يدرك العدو ال�صهيوين �أنه اذا ما جتاوز خطا ً �أحمر‪ ،‬ف�سوف نتجاوز‬
‫نحن �أي�ضا ً ذلك اخلط‪ .‬وهكذا كانت مع تقدم �أيام االنتفا�ضة املباركة كانت اخلطوط‬
‫تق�صف الواحدة تلو الأخرى‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫و�صل ال�شهيد «عز الدين امل�رصي» �إىل �أحد مطاعم القد�س القريبة �إىل مطعم ر�صد‬
‫بعناية فائقة وهو مطعم للبيتزا ا�سمه مطعم ا�سبارو‪ ،‬واجتاز ال�شارع لي�صل �إىل املطعم‬
‫حامالً القيثارة‪� ،‬أما �سبب اختيار القيثارة فيعود لأمر واحد ال غري هو �أنّ حمل الآالت‬
‫املو�سيقية والدخول بها لذلك املطعم بالتحديد كان �أمرا ً روتينيا ً جدا ً جداً‪ ،‬فعندما قدم‬
‫تقرير املراقبة قبل العملية جاء بذلك التقرير و�صف للمكان وللأماكن التي كانت‬
‫حوله‪ ،‬ولأين �أثناء �إقامتي بالقد�س �أعرف املكان جيداً‪ ،‬فلقد قررت �أن تكون القيثارة‬
‫هي الو�سيلة ال احلزام النا�سف‪ ،‬لأنه كان هناك مقابل مطعم ا�سبارو معهد لتعليم‬
‫املو�سيقى‪ ،‬وحمل لبيع الأدوات املو�سيقية‪ ،‬وكان عدد من مرتادي املعهد يتجولون‬
‫ب�آالتهم املو�سيقية يف ذلك ال�شارع عند تنقلهم‪ ،‬وكان بع�ضهم يدخل لتناول البيتزا بذلك‬
‫املطعم حامالً الآلة املو�سيقيه دون �أن يتعر�ض للتفتي�ش من قبل احلار�س املوجود على‬
‫بوابة املطعم‪ ،‬وهكذا و�صل «عز الدين» دون �أي عائق من �أي نوع كان ؛ فلقد كان منظره‬
‫طبيعيا ً جدا ً من ناحية املالب�س التي اخرتتها له لكي يرتديها �أو التي كان يحملها‪.‬‬
‫فجر اال�ست�شهادي «عز الدين» الق�سام نف�سه‬ ‫ّ‬
‫لريقى لل�سماء‪ ،‬م�سددا ً بذلك �رضبة من‬
‫�رضبات العقاب لل�صهاينة املحتلني‪ ،‬وهنا‬
‫يجب �أن �أقول ان �أهم ما حدث يف تلك العملية‪،‬‬
‫�أهم من كل تلك الإجراءات واال�ستعدادات التي‬
‫قمت بها وقام بها كل من �شارك يف تلك العملية‪.‬‬
‫�إن �أهم ما حدث هو ذلك الذي ر�آه اال�ست�شهادي «عز الدين امل�رصي» ومل نره نحن‬
‫الب�رش‪ ،‬نعم نحن الب�رش �أي �أن «عز الدين امل�رصي» مل يكن من الب�رش �أبدا ً �أبداً‪.‬‬
‫عندما طلبت من «�أمين حالوة» �أن يزودين مبقاتل ق�سامي يريد �أن ينفذ عملية‬
‫ا�ست�شهادية قلت «لأمين» جملة واحدة عندما �س�ألني عن موا�صفات اال�ست�شهادي‬
‫قلت له‪� :‬أريد من اال�ست�شهادي «�أن يرى ما ال �أراه»‪.‬‬
‫هذا فعالً ما حدث رغم �أن «عز الدين امل�رصي» مل يكن يعلم �سوى �أنه �سوف ينفذ‬
‫عملية ا�ست�شهادية �إال �أنه قال يف تلك الليلة التي �أم�ضاها م�ستعينا ً باهلل مع بالل وحممد‪،‬‬
‫قال لهما‪� :‬سوف �أقتل اليوم �إن �شاء اهلل ما بني خم�سة ع�رش و�ستة ع�رش �صهيونيا‪،‬‬

‫‪72‬‬
‫و�سوف �أ�صيب ب�إذن اهلل ع َّز وج َّل ما بني مائة وخم�سة وع�رشين ومائة وثالثني بجراح‪،‬‬
‫كثريا ً منهم �سوف يبقون معاقني‪� ،‬أي �أحياء لكنهم �أموات ب�سبب �إ�صابتهم اخلطرية‪.‬‬
‫«عز الدين امل�رصي» ر�أى ما مل نره‪ ،‬وعاهد اهلل ع َّز وج َّل على ذلك فلقد �صدق‪،‬‬
‫�صدق برب الكعبة وا�ستطاع �أن يقتل خم�سة ع�رشة �صهيونيا ً و�أن يجرح مائة و�ستة‬
‫وع�رشين �أغلبهم �أ�صيبوا بعاهات و�إعاقات دائمة‪.‬‬
‫�صدقت يا «عز الدين امل�رصي»‪ ،‬ور�أيت ما مل نر ُه‪ ،‬جنحت وتفوقت علينا نحن‬
‫الب�رش رغم كل ما قدمناه �إال �أنه ال ي�ساوي نقطة واحدة ببحر ما قدمته �أنت و�أجنزته‪،‬‬
‫�إىل جنات اخللد يرعاك اهلل‪.‬‬
‫وهنا �أقول ل ِك و ل ِك يا ابنتي احلبيبة ويا مالكي احلار�س �أين �أنا عبد اهلل الربغوثي‬
‫الوحيد‪ ،‬الوحيد الذي مل ير ال�شهيد «عز الدين امل�رصي» وال مرة واحدة وال حتى‬
‫بنظرة واحدة طوال مراحل تنفيذ العملية‪ ،‬مل �أكلمه ومل �أو�صه ومل �أودعه‪ ،‬مل �أعانقه‬
‫فلقد كنت من�شغالً ب�أن ترى عيوين وت�سمع �آذاين كل ما يدور حول العملية من‬
‫�إجراءات �أمنية وتقنية لكي تنجح العملية ولكي ترى النور‪.‬‬
‫ومنذ تلك العملية حر�صت على �أن مي�ضي اال�ست�شهاديون القادمون يومهم‬
‫وليلتهم الأخرية عندي ب�صحبتي لكي ن�صلي ونتعبد هلل؛ فبال عون اهلل وتوفيقه لن‬
‫ن�صل �إىل �أي هدف وغاية‪.‬‬
‫ف�إما حيا ٌة كرمي ٌة ح ّرة‬
‫و�إما �شهاد ٌة يف �سبيل اهلل‬
‫عاد كل العنا�رص يف خاليا كتائب عز الدين الق�سام �ساملني و�صعدت روح ال�شهيد‬
‫«عز الدين امل�رصي» �إىل ربها‪ ،‬لكني مل �أعد �ساملاً‪ ،‬نعم مل �أعد �ساملا ً بعد تلك العملية‪،‬‬
‫فرغم �أين اهتممت بكل �شيء �إال �أين �أبقى �إن�سانا ً ب�رشاً‪ ،‬ويبقى من معي من مقاومني‬
‫ب�رشا ً �أي�ضاً؛ فقد وقع خطا ٌ ما‪ ،‬فوقعت �أنا وبالل يف الأ�رس للمرة الأوىل‪.‬‬
‫مل يدم �أ�رسنا طويالً ولكن خ�سارتي كانت كبرية جدا ً جداً‪ ،‬وفقدت الكثري الكثري‬
‫جراء وقوعي يف الأ�رس املرة امللعونة‪ ،‬فلقد خرجت من جتربة الأ�رس حراً‪ ،‬ولكن من‬
‫نوع �آخر‪ ،‬نوع جعلني �أ�صبح منذ ذلك اليوم �أمريا ً للظل‪� ،‬أمريا ً يعي�ش يف الظل رغم‬
‫�أنف من �أ�شعلوا م�صابيحهم ليبحثوا عني ويجدوين‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫االعتقال الأول‬
‫بعد �أن عاد كل العنا�رص ملمار�سة حياتهم ب�شكل طبيعي بعد �إي�صال ال�شهيد عز‬
‫الدين امل�رصي للقد�س‪ ،‬وقبل �أن ينفذ عز الدين العملية بنحو ن�صف �ساعة تقريباً‪،‬‬
‫كنت �أنا يف طريقي ال�ستالم �شحنة من الأ�سلحة والذخائر خمب�أة بطقم للكرا�سي‬
‫مت و�ضع ال�سالح والذخرية‬ ‫ال�ضخمة والفخمة‪ ،‬بقلب تلك الكرا�سي والأرائك َّ‬
‫و�إخفائها ب�شكل حمرتف من قبل �أحد �إخواننا الذي كان يعمل مبجال تنجيد الأثاث‬
‫املنزيل ب�إحدى املدن الفل�سطينية‪� .‬سلمته ال�سالح والذخرية هناك‪ ،‬وطلبت منه �أن‬
‫يخفيه ب�أحد الأطقم التي كنت قد ا�شرتيتها من تلك املدينة‪ ،‬ف�أخفى الأمانة بداخله‬
‫و�أر�سله يل مع �سائق نقل عام و�أعطى ال�سائق ا�سما ً وهمياً‪ ،‬كنت قد �أبلغته لذلك الأخ‬
‫املنجد‪ .‬قبل و�صول ال�سائق للمكان املحدد‪ ،‬و�صل بالل بعد �أن �أو�صل هو الآخر عز‬
‫الدين امل�رصي للأخوة ليو�صله لهدفه‪.‬‬
‫قابلت بالالً وانتظرت �أنا وهو و�صول ال�سائق مع الأمانة التي مل يكن يعلم‬
‫بوجودها بداخل طقم الكرا�سي والأرائك‪ ،‬والأهم من ذلك هو �أن بالال ً �أي�ضا ً مل يكن‬
‫يعلم ماذا كنت �أفعل هناك �أ�صالً‪ ،‬فكل ما كنت قد طلبته من بالل هو �أن يو�صل عز‬
‫الدين ويالقيني يف هذا املكان‪.‬‬
‫ما هي �إال دقائق بعد و�صول بالل حتى انق�ض عدة �أ�شخا�ص م�سلحني وملثمني‬
‫على بالل الربغوثي ليعتقلوه وعلي �أنا الآخر‪� ،‬أولئك امل�سلحون كانوا عنا�رص جهاز‬
‫الف�ساد والإف�ساد الفل�سطيني عنا�رص جهاز الأمن الوقائي كالب جربيل الرجوب‬
‫كلب بني �صهيون‪� ،‬أعتقل بالل واعتقلت معه ومل �أكن �أنا ال�شخ�ص املطلوب بل بالل‪،‬‬
‫لأنه قد مت ر�صد حركته من قبل جهاز الأمن الوقائي ب�سبب ن�شاطه وحركته الكبرية‬
‫خالل الأ�شهر املا�ضية‪ ،‬فخالل ما يقارب الع�رشة �أ�شهر كان بالل الربغوثي قد نفذ‬
‫و�أدار وقاد عددا ً كبريا ً من العمليات عرب اخلاليا التي قمنا بت�شكيلها‪ ،‬فاعتقل هو وما‬
‫زاد الطني بلَّه هو ما كان بالل يجيب به املحققني؛ فبعد التحقيق معه لعدة �ساعات ظل‬
‫�صامتا ً ال يتكلم فاقتادوه للزنزانة يف �أحد مقرات جهاز الأمن الوقائي مبدينة رام اهلل‬
‫وهناك باملقر الثاين فت�شوه وجدوا ب�أحد جيوبه ما يلي‪.‬‬
‫�أوالً‪ :‬عقد �إيجار �شقته التي برام اهلل وهو عقد با�سم �شخ�ص �آخر‪ ،‬ووجود عقد‬

‫‪74‬‬
‫�إيجار �شقة �أخرى كانت م�ستودع لل�سالح والذخرية واملال‪ ،‬واملواد املتفجرة‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬وهو الأهم بل ما قد ق�صم ظهر البعري وظهري �أنا �أي�ضاً‪ ،‬هو �أنهم وجدوا‬
‫الورقة التي كانت حتمل و�صية اال�ست�شهادي «عز الدين امل�رصي «‪ ،‬الذي كان قد‬
‫فجر نف�سه قبل عدة �ساعات فقط‪� ،‬أي بعد اعتقال بالل وبعد انتهاء التحقيق الأويل‬
‫معه مبركز جهاز الوقائي الفرعي‪.‬‬
‫هنا جن جنون جربيل الرجوب عندما علم �أن بالال ً الربغوثي له �صلة‬
‫بعملية مطعم ا�سبارو الذي حدث فجر اليوم يف القد�س‪ ،‬ولقد ربط حمققوه‬
‫وجود عبد اهلل الربغوثي املهند�س بالق�ضية من هذا الباب‪ ،‬وما زاد الطني بل ًة‬
‫هو �أنهم وجدوا م�سد�سا ً مع بالل �أثناء اعتقاله عندما كنا ننتظر ال�سائق الذي‬
‫كان يحمل الأمانة‪.‬‬
‫وهنا داهمت قوات جهاز الف�ساد والإف�ساد الفل�سطينية جهاز الأمن الوقائي‬
‫بقيادة كلب بني �صهيون جربيل الرجوب البيوت التي كانت عناوينها مكتوبة على‬
‫عقود الإيجار تلك العقود التي حملها بالل معه حت�سبا ً من وجود ثغرة �أمنية �أثناء‬
‫عملية مطعم ا�سبارو ولذلك ف�ضل �أن يحمل كل الأوراق التي متت له ولنا ب�صلة‬
‫ويحتفظ بها‪.‬‬
‫ما �إن و�صلوا لتلك ال�شقق حتى وجدوا عدة مئات من كيلو غرامات من املواد‬
‫النا�سفة وعدة مئات من اللرتات من املواد احلارقة التي ت�ستعمل ب�إنتاج املتفجرات‪،‬‬
‫ووجدوا عددا ً كبريا ً من ال�سالح وعددا ً �أكرب من الذخرية وحوا�سيب ومناظري ليلية‪،‬‬
‫والكثري الكثري من التجهيزات االلكرتونية‪ ،‬كل ذلك مل يكن يهم �أبداً‪ ،‬فكله ي�شرتى‬
‫باملال‪ ،‬املال هو ما وجدوه‪ ،‬لقد وجدوا مايل الذي كنت قد �سحبته من البنوك وجدوا‬
‫مايل الذي قب�ضته ثمنا ً للمحالت التجارية التي بعتها لل�سوبر ماركت وملحل الأدوات‬
‫الكهربائية‪ ،‬كل املال وجدوه وا�ستولوا عليه بل نهبوه‪.‬‬
‫وما زاد الطني بلَّة هو ذلك الفا�سد الآخر توفيق الطرياوي الذي كان ير�أ�س جهاز‬
‫املخابرات الفل�سطينية‪ ،‬فل�سطينية باال�سم �صهيونية بالعمل والوالء‪.‬‬
‫داهم توفيق الطرياوي وقواته منزيل بقرية بيت رميا داهموا قلعة والدي‪ ،‬وداهموا‬
‫عددا ً من املخازن التجارية التي كانت �أمام النا�س فارغة وغري م�ستعملة‪ ،‬وهي يف‬

‫‪75‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫احلقيقة كانت مليئة باملواد النا�سفة‪ ،‬وهكذا ا�ستوىل جهاز املخابرات على ما تبقى من‬
‫مواد نا�سفة ومن مال ما زال بقرية بيت رميا‪ ،‬وهكذا �أ�صبحت معتقالً �أ�سريا ً لدى‬
‫�أجهزة العمالة الفل�سطينية‪ ،‬اعتقلت «�أحالم التميمي» لدى ال�صهاينة واعتقل «حممد‬
‫دغل�س» �أوالً لدى ال�صهاينة الذين اعتقلوه بناء على �صلته ببالل الربغوثي بعد �أن‬
‫نقلت تلك املعلومات من جهاز الأمن الوقائي جلهاز ال�شاباك ال�صهيوين‪.‬‬
‫بقينا �أنا وبالل معتقلني عدة �أ�سابيع وخاللها �أعلنا �إ�رضابا ً عن الطعام‪ ،‬فبد�أت‬
‫الأخبار ت�صل خارج �أ�سوار املعتقل وهكذا خرجت مظاهرات طالبية �ضخمة من جامعة‬
‫بريزيت ومن عدد من اجلامعات الفل�سطينية باجتاه املعتقل مطالبة ب�إطالق �رساحي‪،‬‬
‫�رساح مهند�س كتائب الق�سام ذلك اال�سم الذي �أطلق علي منذ تلك الأيام ومطالب‬
‫ب�إطالق �رساح القائد الق�سامي بالل الربغوثي‪ ،‬يدي اليمنى وكتفي الذي �أ�ستند عليه‪.‬‬
‫قدر اهلل �أن تكون للم�شوار تتمة‪ ،‬فلقد كانت عملية مطعم ا�سبارو عملية مهمة جدا ً‬
‫من ناحية التوقيت‪ ،‬فلقد كان ال�شارع متعط�شا ً لها‪ ،‬راغبا ً مبعاقبة االحتالل والث�أر‬
‫منه‪ ،‬مما دفع ال�شارع للغليان مطالبا ً بالإفراج عن منفذي العملية‪ ،‬وقدر اهلل �أن‬
‫ترتكب �إ�رسائيل جرمية �أخرى بحق �أ�رشف رجال فل�سطني و�أطهرها‪ ،‬وهو ال�شهيد‬
‫«�أبو علي م�صطفى» الأمني العام للجبهة ال�شعبية‪ ،‬حيث ق�صفت قوات االحتالل‬
‫م�سكنه القاطن مبدينة رام اهلل ف�صعدت روحه لبارئها‪ ،‬و�صعدت معها املظاهرات‬
‫مطالبة بالإفراج عن �رساح املعتقلني الفل�سطينيني من داخل املعتقالت الفل�سطينية‬
‫وعلى ر�أ�سهم �رساح قادة الق�سام‪.‬‬
‫وهكذا وبنف�س يوم ا�ست�شهاد «�أبو علي م�صطفى» وبعد �إحدى امل�سريات والتظاهرات‬
‫التي توجهت �إىل معتقل جهاز الوقائي مت �إطالق �رساحي و�رساح «بالل الربغوثي»‪.‬‬
‫�شيع جثمان ال�شهيد «�أبو علي م�صطفى» يف ذلك اليوم لكننا مل ن�شارك بذلك الت�شييع‪،‬‬
‫ومل نحمل جثمانه؛ فلقد كنا نحتاج ملن يحملنا وي�ساعدنا‪� .‬أما «�أحالم التميمي» فقد كانت‬
‫تخ�ضع للتحقيق �أي�ضا ً ب�سجن امل�سكوبية يف القد�س حيث كان «حممد دغل�س» يخ�ضع‬
‫للتحقيق هو �أي�ضا ً وهنا �أقول �أن ما جرى يل عند التحقيق كان �أهون بكثري مما جرى‬
‫لأختي �أحالم و�أخي حممد‪ ،‬ف�أنا مل �أعذب عند جهاز الأمن الوقائي �أما �أخوتي فذاقوا املر‬
‫والعلقم هناك عند ال�صهاينة‪ .‬مل نحمل اجلثمان لكنا حملنا بعيداً‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫املطارد‬
‫نعم �أ�صبحت مطاردا ً بعد عام على العمل الع�سكري ال�رسي منذ بدء االنتفا�ضة‪،‬‬
‫�أ�صبحت مطارداً‪ ،‬و�أي مطارد‪ ،‬وقد كنت منهكا ً من الإ�رضاب عن الطعام الذي خ�ضته‬
‫و�أنا معتقل لدى �أجهزة الأمن الوقائي‪ ،‬وبالل كان يعاين كثريا ً ب�سبب الإ�رضاب لأنه‬
‫كان ميلك كلية واحدة فلقد فقد كليته الأوىل يف االنتفا�ضة الأوىل‪ ،‬وكاد يفقد الثانية‬
‫نتيجة الإ�رضاب‪ ،‬لوال �سرت اهلل ولطفه به‪.‬‬
‫كنا بدون �شقق‪� ،‬أو بدون مكان �آمن نلج�أ �إليه‪ ،‬بدون �سالح وعتاد‪ ،‬وبال مواد‬
‫نا�سفة وبال بنية حتتية من حوا�سيب و�أجهزة الكرتونية‪� ،‬أما الأهم هو �أين مطارد‬
‫فقري‪ ،‬فقري معدم ال �أملك قر�شا ً واحداً‪ .‬لأن املحن ت�أتي جمتمعة ولأن االبتالء قد كتب‬
‫علي يف تلك الفرتة الزمنية ال�صعبة‪.‬‬
‫تلك الفرتة التي كنت �أ�شعر فيها بالعجز وال�ضعف‪ ،‬بعد �أن كنت قد بد�أت �أجيد‬
‫فنون املقاومة‪ ،‬وهنا يا ابنتي اجلميلة ويا مالكي احلار�س جاء الدور علي ِك لأن متدي‬
‫يل يد العون وامل�ساعدة‪ ،‬ولتعيني كتائب عز الق�سام على النهو�ض مرة �أخرى رغم‬
‫�أن عمركِ مل يكن قد جتاوز العامني‪ ،‬ورغم �أن ِك وطول العام املا�ضي الذي كنت �أعمل‬
‫فيه ب�شكل �رسي مل �أركِ �سوى �أيام معدودة رغم كل ذلك كنتِ �أنتِ �أول من قدم يل‬
‫وللق�سام يد العون‪.‬‬
‫عندما ولدت قبل عامني كنت �أنا ثر ّياً‪ ،‬فاح�ش الرثاء ولذلك كنت دائم �إح�ضار‬
‫الهدايا لك وبالأخ�ص الهدايا الذهبية‪ ،‬وهكذا �أ�صبح لدي ِك الكثري من تلك القطع‬
‫الذهبية التي كنت �أو�صي �صديق يل ميلك حمالً للمجوهرات لكي ي�صنعها ل ِك‬
‫خ�صي�صا ً ولكي تنا�سب �صغر يدي ِك وخفة وزنكِ‪ ،‬ولأين عندما كنت �أذهب لإح�ضار‬
‫تلك القطع الذهبية من عند �صديقي ال�صانع فلقد كنت ا�شرتي من عنده �أي�ضا ً قطعا ً‬
‫ذهبية لوالدت ِك لزوجتي احلبيبة‪� .‬أما قطع الذهب اخلا�صة بوالدتكِ‪ ،‬فلقد كانت كبرية‬
‫وثقيلة جداً‪ ،‬حتى �أن والدتك كانت دائما ً تقوم با�ستبدال تلك القطع بقطع �أ�صغر‬
‫لتتنا�سب مع ذوقها هي‪ ،‬فلقد كان ذوقها �أرقى بكثري من ذوقي‪.‬‬
‫وهكذا فلقد كان �أول ما فعلته عند خروجي من معتقل الوقائي هو بيع كل ذهب ِك‬
‫با�ستثناء خرزة زرقاء وكل ذهب والدت ِك با�ستثناء دبلة خفيفة �أبقيتها كرمز للزواج‪،‬‬

‫‪77‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫�أنتِ مل تعار�ضي �أبدا ً �أما �أم ِك فهي من اقرتح علي تلك الفكرة �أ�صالً بل �إن والدتك‬
‫قامت ب�سحب كل املال الذي كنت قد �أودعته بح�سابها قبل عام عندما قررت �أن �أ�سري‬
‫يف درب املقاومة واملال الذي �سبق �أن جمعته من هدايا ونقوط خالل زواجنا‪.‬‬
‫وثاين ما قمت به هو الو�صول لل�صديق الذي �أودعت عنده الأمانة تلك الأمانة‪:‬‬
‫طقم الكرا�سي املليء بال�سالح والذخرية‪ ،‬فهو �صديق ويف �أر�سلت له �أثناء اعتقايل‬
‫عند الوقائي ر�سالة فقام بانتحال اال�سم الذي ذكرته له وح�صل على الأمانة واحتفظ‬
‫بها عنده‪ .‬وعندما ظننت �أن الأمور قد بد�أت ت�سري ب�سالم‪ ،‬وخا�صة عندما ا�ست�أجرت‬
‫�شقة و�أعدت �رشاء احلوا�سيب و�أ�صبحت �أملك عدة هويات مزورة‪ ،‬قدر اهلل �أن �أفقد‬
‫من حويل الرجال‪ ،‬الواحد تلو الآخر‪ .‬فاعتقل بالل الربغوثي مع ثالثة من املجاهدين‬
‫عند جهاز الأمن الوقائي وبعد ذلك بفرتة ق�صرية فقدت �أهم عقول حما�س الهند�سية‬
‫فجرت �إ�رسائيل ال�سيارة التي كان يقودها مبدينة‬ ‫املهند�س �أمين حالوة‪ ،‬حيث ّ‬
‫نابل�س‪ ،‬نابل�س جبل النار‪.‬‬
‫وبعد ذلك فقدت حما�س بل فقدت فل�سطني وكتائب الق�سام‪� ،‬سيد الق�ساميني‬
‫ال�شهيد حممود �أبو هنود‪ ،‬حيث ا�ست�شهد الأ�سد اجل�سور الذي �أذاق ال�صهاينة املر‪،‬‬
‫ومرغ �أنوفهم بالرتاب منذ �سنوات طويلة من االنتفا�ضة الأوىل و�صوالً لالنتفا�ضة‬
‫الثانية‪ ،‬وهكذا �أ�صبحت مثل الطفل ال�صغري بال �أخوة وبال �آباء‪ ،‬نعم بال �أخوة وبال‬
‫�آباء؛ ف�أمين حالوة كان �أبا ً للق�سام وحممود �أبو هنود كان �أبا ً وقائدا ً عظيما ً للق�سام‪.‬‬
‫�أما الأخوة فهم كرث‪ ،‬فلقد اعتقل يف تلك الفرتة �أي�ضا ً �سليم حجه وهو �أهم حلقة الو�صل‬
‫بني نابل�س ورام اهلل‪ ،‬بني جناحي ال�ضفة الغربية‪ .‬ولأن يحيى عيا�ش قد خطها على‬
‫القر�آن الكرمي «كن مع اهلل وال تبالِ» فلقد �أعز اهلل فل�سطني والق�سام‪ ،‬بقائد ق�سامي مل‬
‫�أكن قد �سمعت عنه من قبل‪ ،‬قائد كان معتقالً منذ �سنوات لدى �أجهزة الأمن‪� ،‬سلطة‬
‫الف�ساد والإف�ساد‪ ،‬معتقل منذ اغتيال يحيى عيا�ش‪.‬‬
‫اعتقلته الأجهزة الأمنية طوال تلك الأعوام ب�سبب عالقته مع عيا�ش‪ .‬قدر اهلل له‬
‫�أن يخرج من �أ�رس ال�سلطة وقدر اهلل يل �أن �ألتقي به‪ .‬مل يكن من حملة ال�سالح وال من‬
‫قاذيف العبوات النا�سفة‪ ،‬ومل يكن طويالً عري�ضاً‪ ،‬لكنه كان عقالً‪ ،‬عقالً مفكرا ً بارعا ً يف‬
‫�إيجاد كل ما حتتاجه املقاومة‪ ،‬كان �صوت العقل واحلكمة‪� :‬شجاعا ً �صبوراً‪� ،‬صامتا‬

‫‪78‬‬
‫و�أعني بال�صمت كل ما حتمله الكلمة من معنى‪� ،‬أي �أن طوال عامني كاملني من العمل‬
‫امل�شرتك ومن املطاردة �سويا ً وطوال �أيام طويلة وليالٍ طوال‪ ،‬ظ َّل �صامتاً‪� .‬أق�سم‬
‫�أن حديثنا معا ً مل يتجاوز خالل العامني �سوى �ساعتني �أو ثالثة كحد �أق�صى‪ ،‬كان‬
‫يفهم علي دون �أن �أحتدث‪ ،‬وكنت �أعلم ما يريد دون �أن يقول‪ ،‬وكما يقال‪ :‬اللبيب من‬
‫الإ�شارة يفهم‪ ،‬لكني �أقول �إنه ما كان بيننا هبة ربانية وهبة لكلينا حتى نتمكن من‬
‫خو�ض املعركة ب�صمت وقوة‪.‬‬
‫وللآن ما زال ملف التحقيق معه مفتوحاً‪� ،‬أمام الق�ضاء ال�صهيوين ف�سوف �أكتفي‬
‫ب�أن �أ�سميه با�سم ال�سلوادي‪ ،‬وهكذا بد�أت �أنا وال�سلوادي من جديد هو خارج املعتقل‬
‫و�أنا كذلك هو رافق املهند�س عيا�ش و�أنا املهند�س �أبحث عن من يرافقني ويعينني‬
‫على دربي ودرب رجال الق�سام‪.‬‬

‫«كلمات مت�شابكة»‬
‫وهنا بعد �أن بد�أت �أمللم �أفكاري و�أعيد �صف �صفويف التي بعرثها جهازي الأمن‬
‫الوقائي واملخابرات‪ ،‬وجدت نف�سي �أقول تلك الكلمات‪ ،‬الكلمات املت�شابكة‪..‬‬
‫�أل�ست على دين �صالح الدين‬
‫وابن اخلطاب عمر �أمري املجاهدين‬
‫�أل�ست من املوحدين امل�سلمني‬
‫�أمل ننطق ال�شهادة لرب العاملني‬
‫�أمل ترى كيف نذبح بفل�سطني‬
‫وكيف يحا�رص �أهل غزة امل�ساكني‬
‫�سحقا ً لك �أيها اجلبان‬
‫�أنت ما عدت اليوم �إن�سان‬
‫بل �أ�صبحت عميالً للطغيان‬
‫تبا ً لك يا ابن الغربان‬
‫ما دمت تقبل بالظلم والهوان‬
‫لأهلك �أهل القد�س والأق�صى وفل�سطني‬

‫‪79‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫�أ ُعميت �أم �أنت �أعمى بال عيون‬


‫وبال �سمع وبال �آذان‬
‫�ألي�س هذا فعل من خان‬
‫وحتالف مع العدو ب�إمعان‬
‫�أم �أن دينك عليك هان‬
‫ا�ستيقظ من غفلتك وال حتزن‬
‫فعدوي وعدوك واحد ال اثنان‬
‫�إنه حلم احتالل بني �صهيون‬
‫�أمل مينعوا ال�صالة و�إقامة الأذان‬
‫ومنعوا ال�شيخ من قراءة القر�آن‬
‫مطاردا ً �أخاطبك يا حليف الطغيان‬
‫ف�أنا ابن كتائب الق�سام عز الدين‬
‫ف�أنا بدين حمم ٍد �أدين‬
‫�أنا ابن رام اهلل وابن جنني‬
‫�أنا ابن الق�سام عز الدين‬
‫�أنا ابن الق�سام عز الدين‬
‫و�أنت �أ�صبح العدو هو ربك‬
‫وهو من له �أنت تدين‬

‫ح�سبي اهلل ونعم الوكيل بكل من باع وهادن وقبل الذل والهوان‪ ،‬ح�سبي اهلل بتلك‬
‫الأجهزة الأمنية التي �أ�صبحت عبئا ً على املقاومة والثائرين‪�،‬أ�صبحت �إماراتٍ وممالك‬
‫لقادتها الذين يتكالبون على املقاومة �إر�ضا ًء لأ�سيادهم ال�صهاينة‪.‬‬
‫وهنا قبل �أن �أعاود �رضب العدو من جديد قررت �أن �أ�رضب تلك الأجهزة الأمنية‬
‫لكن لي�س من خالل �إراقة قطرة دم واحدة بل من خالل اخرتاقها ب�شتى الو�سائل‬
‫والطرق؛ باملال والتكنولوجيا‪ ،‬والأهم من خالل بع�ض العنا�رص‪ ،‬عنا�رص تلك‬
‫الأجهزة القائمني عليها وعلى قيادتها‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫قاوموها بعد �أن عرفوا حقيقتها‪ ،‬وعرفوا �أنها �أدوات ب�أيدي قادتهم لتحقيق �أوامر‬
‫املحتل‪ ،‬ولأنها بيت من ورق‪� ،‬رسعان ما متكنت من معرفة كل ما يدور بداخل دوائر‬
‫تلك الأجهزة الأمنية‪ .‬و�أق�سم باهلل العلي العظيم �أنني �أ�صبحت �أعرف �أدق التفا�صيل‬
‫التي تدور فيها �أحاديثهم‪ ،‬وكنت �أعلم املهام املكلفني فيها قبل �أن يعلم بها العنا�رص‬
‫التنفيذية‪� ،‬أي كنت �أعلمها من امل�صدر‪ ،‬حتى �أين �أ�صبحت �أعلم متى �سوف تقتحم‬
‫قوات االحتالل و�أين �سوف تقتحم‪ .‬كان ذلك يتم بالتتبع مع قادة تلك الأجهزة‬
‫العملية بقيادة جربيل الرجوب وتوفيق الطرياوي‪.‬‬

‫هذه امل ّرة‬


‫ثالثي ِ‬
‫ٌّ‬ ‫العقاب‪،‬‬
‫واجب على كتائب عز الدين الق�سام �أن ترد ردا ً موجعا ً بعد ا�ست�شهاد ك ٍل‬ ‫ٌ‬ ‫كان‬
‫من حممود �أبو هنود وا�ست�شهاد املهند�س �أمين حالوة‪ ،‬بل وكان واجبا ً علي ب�شكل‬
‫�شخ�صي �أن �أرد على تلك اجلرائم ب�سبب عالقتي ب�أولئك القادة العظماء‪.‬‬
‫لكني عندما ا�ست�شهدا كنت ما زلت �أمللم خيوط �إدارة املعركة من جديد‪ ،‬ومع ذلك‬
‫وقبل �أن �أجمع كل اخليوط‪ ،‬قررت تنفيذ �أكرب و�أعقد عملية تنفذها كتائب الق�سام‬
‫بذلك الوقت يف القد�س املحتلة بالتحديد‪ ،‬العملية الثالثية‪.‬‬
‫لقد قررت �أن �أنفذ ثالث عمليات بيوم واح ٍد يف القد�س لكي يعلم العدو �أن العقاب‬
‫قادم‪ ،‬قادم رغم �أنفه‪ ،‬قادم بعون اهلل وهنا وقع االختيار على اثنني من اال�ست�شهاديني‬
‫لينفذا تلك العملية وهما ال�شهيدان نبيل حلبية و�أ�سامة بحر‪ ،‬فهما �صديقان منذ‬
‫الطفولة وكانا قد طلبا من �أحد الأخوة �أن يبلغ مهند�س الق�سام عبد اهلل الربغوثي‬
‫عن رغبتها بال�شهادة يف �سبيل اهلل‪ ،‬ولأين كنت ال �أف�ضل ذلك النوع من العمليات يف‬
‫ذلك الوقت ال�سابق فلم �أُب ِد موافقتي على ما طلباه ولكن ب�سبب �إحلاحهما ال�شديد‪،‬‬
‫والقوي فلقد و�صل بهما �أن �أق�سما �أنه �إن مل �أوافق على �إعدادهما وجتهيزهما لينفذا‬
‫عملية ا�ست�شهادية �أق�سما �أن يحمال �سكاكني ويطعنا جنودا ً على �إحدى احلواجز‬
‫الع�سكرية‪ .‬وهنا تالقى �إ�رصارهما مع احلاجة امللحة لتلقني العدو در�سا ً قا�سيا ً بعد‬
‫عمليات االغتيال التي نفذها‪.‬‬
‫كان كال اال�ست�شهاديني من مدينة القد�س وهذا ما جعلني �أكلفهما با�ستطالع عد ٍد من‬

‫‪81‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫الأماكن التي كانت ميكن ا�ستهدافها‪ ،‬والتي كنت قد زرتها �أنا عندما كنت �أقيم مبدينة‬
‫القد�س قبل االنتفا�ضة ويف بدايتها‪ ،‬قبل �أن �أ�صبح مطلوبا ً لقوات العدو‪.‬‬
‫وخالل جولتني من اال�ستطالع وقع االختيار على �أحد ال�شوارع املليء باملالهي‬
‫ملهى ليليّا ً بعينه و�إمنا ال�صهاينة‬‫ً‬ ‫الليلية‪ ،‬وهنا �أقول �شارع �أي �أننا مل ن�ستهدف‬
‫املتجمهرين �أمام تلك املالهي الليلية وهم غالبا ً من �شبان جنود االحتالل الذين‬
‫مي�ضون ليلهم بال�سهر وال�سكر ونهارهم بارتكاب اجلرائم �ضد �أبناء فل�سطني املحتلة‪.‬‬
‫طلبت منهم �رشاء �سيارة لي�ستعمالها بتنفيذ العملية‪ ،‬على �أن ال يتم �رشا�ؤها من‬
‫رام اهلل �أو من القد�س‪ ،‬جتنبا ً لِلفت الأنظار لهما‪ ،‬وبعد ذلك حددنا موعدا ً لتنفيذ العملية‪،‬‬
‫كنت قد �أعددتها لتكون خمتربا ً للعبوات النا�سفة‪،‬‬ ‫فح�رضا �إىل �إحدى ال�شقق التي ُ‬
‫وهناك زودت �إحدهما بحزام نا�سف لأنه كان ي�ستطيع ب�سهولة ‪ -‬ب�سبب �أن الف�صل‬
‫كان �شتا ًء ‪� -‬إخفاءه بوا�سطة جاكيت �شتوي‪� .‬أما الثاين ف�أعطيته جهاز كمبيوتر‬
‫مفخخ ولقد �أم�ضيا تلك الليلة الرم�ضانية بعد تناولهما طعام الإفطار بت�صوير عد ٍد‬
‫من �أ�رشطة الفيديو لهما ‪� :‬رشائط للإعالم وللعائلة من �أجل توديع �أهلهم‪.‬‬
‫�أم�ضينا طوال تلك الليلة وهما يقر�آن القر�آن وي�صليان وعندما جاء موعد ال�سحور‬
‫وودعتهما لينطلقا �إىل القد�س ليبقيا بها حتى حلول منت�صف الليلة وبعد ذلك بتفجري‬
‫نف�سيهما بالأماكن املحددة م�سبقاً‪.‬‬
‫هنا عندما قلت �أن العقاب �سيكون ثالثياً‪ ،‬ف�أنا �أعني‬
‫ذلك حرفياً‪ ،‬فلقد كان ثالثيا ً قوياً‪.‬‬
‫عندما مت ر�صد مكان تنفيذ العملية كان مكانا ً‬
‫ينا�سب ثالث عمليات ال �أكرث وال �أقل‪ ،‬فلقد طلبت من‬
‫اال�ست�شهادي الأول �أن يفجر نف�سه بو�سط اجلنود‬
‫ال�صهاينة املتواجدين عند بوابة �أحد املالهي الليلية عرب جهاز الكمبيوتر الذي‬
‫كان يحمله معه وكان ذلك �شيئا ً عاديا ً �أن يحمل �أي �شخ�ص جهاز حا�سوب‪� ،‬أما‬
‫اال�ست�شهادي الثاين فلقد طلبت منه �أن يفجر نف�سه من خالل احلزام النا�سف الذي‬
‫كان يرتديه على ج�سده الطاهر بو�سط جمموعة �أخرى من اجلنود الذين يرتادون‬
‫�شارع �آخر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ناديا ً ليليا ً �آخر يقع يف‬

‫‪82‬‬
‫وفعالً ومبجرد �سماع دوي انفجار جهاز‬
‫احلا�سوب من اال�ست�شهادي نبيل حلبية قام‬
‫اال�ست�شهادي �أمين بحر وح�سب التعليمات‬
‫وح�سب الوقت املعلوم م�سبقا ً قام بتفجري‬
‫نف�سه‪ .‬وهكذا �أوقع كال اال�ست�شهاديني عددا ً‬
‫كبريا ً من قتلى وجرحى العدو ال�صهيوين‪.‬‬
‫بعد ذلك امتلأت ال�شوارع ب�سيارات الإ�سعاف وبقوات االحتالل وباملحطات‬
‫الف�ضائية التي كانت تنقل البث املبا�رش ملا يحدث هناك‪ ،‬ولقد كان من عادة قوات‬
‫االحتالل �أن تقفل بداية ال�شارع الذي حدثت به العملية ونهاية ال�شارع‪ ،‬وهذا ما‬
‫حدث فعالً وهذا ما �شاهدته على التلفاز و�أنا �أتابع البث املبا�رش وعندما ر�أيتها تقف‬
‫�شاخم ًة وك�أنها تريد �أن حتلق بال�سماء‪ -‬يق�صد ال�سيّارة ‪ -‬قلت لها‪ :‬مع ال�سالمة‪.‬‬
‫مع ال�سالمة بعد �أن ات�صلت من خالل الهاتف اجلوال الذي كان بحوزتي وهاتف‬
‫�آخر كان بحوزتها‪ ،‬فودعتني وانفجرت‪ .‬فلقد قمت بتفخيخ ال�سيارة �أثناء الليل عندما‬
‫كان كال اال�ست�شهاديني ي�صليان ويقر�آن القر�آن الكرمي وبعد �أن فخختها‪ ،‬و�ضعت‬
‫عليها �إ�شارة ب�أعلى ال�سقف لكي �أ�ستطيع م�شاهدتها عرب التلفاز‪.‬‬
‫قبل �أن ينطلق اال�ست�شهاديان و�أثناء و�ضعنا للخطة قررنا �أن يقوما ب�إي�صال‬
‫نف�سيهما ملوقع العملية و�أن يقوما بركن ال�سيارة على الطرف الآخر من ال�شارع؛‬
‫الطرف الذي كان بعيدا ً عن موقع العمليتني‪ ،‬والذي كان وح�سب معرفتنا باملنطقة‬
‫�سوف يكون هو الطرف الذي تقوم قوات االحتالل ب�إغالق ال�شارع من عنده‪ ،‬وهذا‬
‫ما حدث بحمد اهلل ولقد �صورت هذه العملية بال�صوت وال�صورة عرب البث املبا�رش‪،‬‬
‫فكانت بحمد من اهلل وتوفيق منه �صفعة وعقابا ً قويا ً يتلقاه العدو ال�صهيوين جراء‬
‫جرائمه بحق �أبناء �شعب فل�سطني املحتلة‪.‬‬
‫وهكذا مت الرد ومت توجيه العقاب املنا�سب ردا ً على ا�ست�شهاد ك ٍل من ‪ :‬املهند�س‬
‫«�أمين حالوة» وقائد كتائب الق�سام «حممود �أبو هنود»‪ ،‬رحمة اهلل عليهما‪ ،‬وكتب اهلل‬
‫لهما‪ ،‬ولل�شهيدين «نبيل حلبية» و«�أ�سامة بحر» اخللود بجنات اخللد والنعيم‪ ،‬هذه‬
‫العملية �أفقدت العدو توازنه ب�شكل كبري جدا ً مما جعله يكثف بحثه عني من خالل‬

‫‪83‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫عمالئه �أوالً ومن خالل عمالء جهازي الوقائي واملخابرات‪.‬‬


‫و�أ�صبحت �صورتي متلأ جيوب �أولئك العمالء الذين كانوا يجوبون ال�شوارع‬
‫وامل�ساجد ليالً نهارا ً بحثا ً عني‪ ،‬فلم �أمتكن من �أداء ال�صالة بداخل م�سجد منذ تلك‬
‫العملية وحتى يومنا هذا �أبداً‪ .‬و�أطرف ما يف هذا املو�ضوع �أن جهاز الر�صد اخلا�ص‬
‫بكتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام الذي عملت على ت�شكيل عد ٍد من �أفرعه باملناطق‬
‫التي كنت �أقيم بها قد �أ�شار ب�أحد التقارير �أنه الحظ وجود عميل جلهاز الأمن‬
‫الوقائي وعميل جلهاز املخابرات وعميل �آخر للعدو ال�صهيوين‪ ،‬كلهم يقفون‬
‫بجوار �أحد امل�ساجد يف منطقة البرية ال�صناعية التي كانت املعلومات ت�شري لهم �أين‬
‫�أقيم بها يف ذلك الوقت‪.‬‬

‫طغى وجترب‬
‫هناك بعيدا ً عن رام اهلل والقد�س حا�رصت دبابات «املركافا» قريتي بيت رميا‬
‫فو�صلني اخلرب‪ ،‬فعرفت على الفور �أن املق�صود من ذلك احل�صار هو الو�صول‬
‫�إيل‪ ،‬بل الو�صول لقلعتي واعتقال زوجتي هناك‪ .‬فتوجهت مع �إحدى املجموعات‬
‫الق�سامية املقاتلة عرب الطرق االلتفافية الرتابية ملحاولة دخول القرية وخو�ض‬
‫املعركة هناك‪ ،‬ولقد تزودنا بكل ما يلزم من عبوات نا�سفة وقنابل يدوية و�أ�سلحة‬
‫نارية ومناظري ليلية وبع�ض بنادق القن�ص‪ ،‬لكننا مل نتمكن من دخول القرية لأننا‬
‫كنا مبوقع مك�شوف قررنا الرتوي حتى يحل الظالم؛ فالليل حام ٍ و�ساتر بعد اهلل‬
‫ع َّز وج َّل‪.‬‬
‫وما �إن حل الظالم حتى �سبقتنا دبابات املركافا واملجنزرة التي تعمل بدون‬
‫احلاجة لوجود جندي عندها‪ ،‬فهي تعمل عرب �أوامر من داخل املجنزرة �أو الدبابة‪.‬‬
‫فبد�أت تلك الدبابات ب�إطالق نريانها على كل �أرجاء القرية فلم ترتك منزالً يقع �ضمن‬
‫مرماها حتى قامت بر�شه بوابل من الر�صا�ص والقذائف‪.‬‬
‫فغ�صت القرية بال�شهداء‬ ‫َّ‬ ‫ا�ستمر القتال طوال الليل وحتى طلوع الفجر‪،‬‬
‫وامل�صابني‪ ،‬واعتقل املئات من �أبناء القرية وفرغت املنازل من كل الرجال من كل من‬
‫كان عمره �أكرب من خم�سة �أو �ستة ع�رش عاماً‪ ،‬هناك اقتيد عد ٌد من �أعمامي و�أبنائهم‬

‫‪84‬‬
‫و�أخذ جزء منهم لكي يتعرفوا على جثتي من بني ال�شهداء الذين كانت جثثهم �أ�شالء‬
‫ممزقة بفعل قذائف الدبابات‪ ،‬فلم ي�ستطع �أحد �أعمامي التعرف على جثتي املفرت�ضة‪.‬‬
‫يف ذلك اليوم ا�ست�شهد نحو ثمانية �شهداء �أما اجلرحى فكانوا بالع�رشات ال بل‬
‫باملئات‪ ،‬لكني مل �أكن ال �أنا وال �أخوتي مقاتلي الق�سام من بني ال�شهداء �أو اجلرحى‪،‬‬
‫فنحن كنا م�سلحني وجمهزين مما ا�ضطر قوات العدو ب�أن حت�رض عددا ً من طائرات‬
‫الأبات�شي لتم�شط املنطقة التي كنا فيها‪ ،‬ولكن قدر اهلل لنا �أن نخو�ض ا�شتباكا ً طويالً‬
‫دون �أن نفقد قطرة دم واحدة‪ ،‬وفر�ض حظر التجوال لعدة �أيام على القرية‪ ،‬بقينا‬
‫خالله نناو�ش العدو من التالل املجاورة مما جعل القوات املحتلة تغادر القرية‬
‫وتالحقنا يف تلك التالل واجلبال‪ ،‬وبف�ضل اهلل ع َّز وج َّل ومب�ساعدة العبوات النا�سفة‬
‫وبنادق القن�ص ا�ستطعنا �أن نوقع عددا ً من جنود العدو بني قتي ٍل وجريح‪.‬‬
‫زوجتي مل تكن بالقلعة عند مهاجمتها و�إمطارها بوابل من القنابل مما �أدى �إىل‬
‫احرتاق جز ٍء منها ودمار جز ٍء �آخر‪� ،‬أما زوجتي احلبيبة ومالكي احلار�س و�أ�سامة‬
‫ابني ال�صغري‪ ،‬فلقد حماهم اهلل من تلك القنابل ومن االعتقال �أي�ضاً‪.‬‬
‫وما �إن ان�سحبت قوات العدو حتى بان الدمار �أكرث و�أكرث‪ ،‬فلقد �سحقت �سيارتني‬
‫كنت �أملكهما وكانتا تقفان �أمام منزيل فحولتا �إىل كومة من احلديد‪ ،‬ومت تفجري ثالثة‬
‫كانت تقف يف داخل �أحد املخازن التجارية التابعة يل‪� .‬أما ال�سيارة الرابعة فلقد وجد‬
‫ن�صفها فقط �أما الن�صف الآخر فوجد مهرو�سا ً يف �أحد �أطراف القرية‪ .‬ويبدو �أنه كان‬
‫قد علق ب�أ�سفل �أحد الدبابات �أثناء تلك املجزرة‪ ،‬جمزرة بحق الب�رش وال�شهداء وبحق‬
‫املنازل وال�سيارات وبحق �أ�شجار الزيتون‪ ،‬فلم يبقَ �شيئ قد �سلم من تلك الآلة‪� ،‬آلة‬
‫الظلم والطغيان �آلة الدمار‪� .،‬أما �أنا فلم يت�أخر ردي عرب عد ٍد من العمليات املكثفة‬
‫نفذت على الطرق االلتفافية و�ضد نقاط التفتي�ش واحلواجز ال�صهيونية‪.‬‬

‫بناء ما مت تدمريه‬
‫عندما عدت �إىل رام اهلل بعد �أن �شاهدت حجم الدمار الذي حل على قريتي‪ ،‬قرية بيت‬
‫رميا‪ ،‬قررت �أن �أتخذ عدة �إجراءات لعلي �أ�ساعد ولو قليالً على التغلب على هذا الدمار‪.‬‬
‫فكلفت �أحد الأقارب لكي يقوم ب�إعادة بناء منزل والدي الذي تهدم جزء منه‬

‫‪85‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫واحرتق جزء �آخر و�أعطيته املال املنا�سب لذلك ثم قمت مب�ساعدة كافة الأ�شخا�ص‬
‫الذين كانوا مديونني يل مبال من �أهل القرية‪ ،‬ذلك املال الذي كانوا مديونني به جراء‬
‫�رشائهم ال�سلع اال�ستهالكية من املحالت التجارية التي كنت �أملكها حتى بداية‬
‫وبعت تلك املحالت بقيت �أحتفظ ب�سجل الديون‪ .‬ومل‬ ‫ُ‬ ‫االنتفا�ضة‪ ،‬لأين عندما �صفيت‬
‫أكتف بهذا‪ ،‬فالدمار كان قد طال الكثري والكثري من البيوت والأ�رس‪ ،‬ف�أر�سلت جزءا ً‬ ‫� ِ‬
‫من املال لعلي �أ�ساهم ب�صمود �أهايل القرية على املحتل ولعلي �أمتكن من �إعانتهم على‬
‫�إعادة البناء‪.‬‬
‫وما هي �إال �أ�سابيع قليلة جدا ً حتى عادت القرية على �أح�س حال و�أف�ضل و�ضع‪،‬‬
‫وما فاج�أين هو �أن �أهل القرية كانوا متكاتفني ومتعاونني جدا ً حتى �أن جز ًءا كبريا ً من‬
‫املال الذي كنت قد خ�ص�صته لإعادة �إعمار منزل والدي (قلعة جدي) ظل على حاله‬
‫لأن عددا ً من العاملني يف جمال البناء تربعوا يل‪ :‬تربعوا لعبد اهلل الربغوثي‪ ،‬بعملهم‬
‫ومبواد البناء الالزمة لإمتام تلك الأعمال‪ ،‬وعندما ُ�سئلوا قالوا‪ :‬لنفدي �أبو �أ�سامة‬
‫«عبد اهلل الربغوثي « مقاتل بني �صهيون و�سوف نبني ما ُد ِّم َر من قبل بني �صهيون‬
‫فهذه معركتنا �أي�ضاً‪.‬‬
‫حمدت اهلل على تكاتف القرية بل على تكاتف �أهل فل�سطني الذين كانوا ي�سارعون‬
‫�إىل اخلري و�إىل البناء و�إىل تقدمي كل ما ميلكون يف �سبيل حتقيق ذلك رغم �ضيق احلالة‬
‫املادية لهم‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫«�أبو علي ال�سلوادي»‬

‫يف تلك الفرتة وبخا�صة بعد اعتقال «بالل الربغوثي» وعد ٍد لي�س بالقليل من عنا�رص‬
‫كتائب عز الدين الق�سام‪� ،‬سواء على يد �أجهزة ال�سلطة الأمنية‪� ،‬أم على يد �أجهزة‬
‫الأمن ال�صهيونية‪� ،‬أ�صبحت العالقة قوية ومتينة و�أ�صبح هناك بع�ض امل�شاكل‬
‫�أي�ضاً‪ ،‬كانت تلك امل�شاكل تعود ل�سبب واحد وهو �أن �أبا علي ال�سلوادي كان يخ�شى‬
‫�أن يفقدين وكان يخاف علي من االعتقال �أو اال�ست�شهاد‪ ،‬وكان يردد جملة دائما ً على‬
‫م�سمعي يقول بها‪� :‬إن فقدناك يا �أبو �أ�سامة الربغوثي ف�إننا لن نتمكن مهما حاولنا‬
‫من تعوي�ضك وتعوي�ض ما متلكه من خربة ومهارات ع�سكرية و�أمنية‪ .‬كنت �أرد عليه‬
‫�ضاحكاً‪ :‬فل�سطني والّدة �سوف تنجب من هم خري ب�ألف مرة فال تقلق‪ .‬لكن قلق «�أبو‬
‫علي ال�سلوادي» كان مبحله؛ ففي تلك الفرتة كانت قوات االحتالل تناو�ش حول املدن‬
‫الكربى ومل تكن قد اقتحمت �أيا ً منها‪ ،‬وب�إحدى تلك املناو�شات واملعارك على �أطراف‬
‫مدينة رام اهلل‪ ،‬وحتديدا ً منطقة �أم ال�رشايط‪ ،‬كنت مع عد ٍد من رجال الق�سام‪ ،‬وهم‬
‫«�سيد ال�شيخ قا�سم» و«�أبو �أحمد اخلطيب» وعن�رصين �آخرين خ�ضنا ا�شتباكا ً فجرنا‬
‫خالله العديد من العبوات النا�سفة و�أطلقنا الع�رشات من الر�صا�صات باجتاه قوات‬
‫العدو التي كانت حتاول اقتحام منطقة �أم ال�رشايط‪ ،‬ق ّدر اهلل يل يف ذلك اليوم �أن �أ�صاب‬
‫ب�إحدى الر�صا�صات لت�ستقر هذه الر�صا�صة بفخذ قدمي الأمين خملف ًة نزيفا ً حاداً‪،‬‬
‫وقبل �أن يتمكنوا من نقلي بعد �إ�صابتي كنت قد دخلت يف غيبوبة نتيجة نق�ص الدماء‬
‫من ج�سدي ب�سبب النزيف احلاد‪ .‬ا�ستيقظت بعد ذلك بيومني ب�إحدى ال�شقق الآمنة‬
‫بعد �أن كان الأخوة �سيد ال�شيخ قا�سم و�أبو �أحمد اخلطيب قد نقلوين �إليها مب�ساعدة‬
‫�أخوين ق�سامني �آخرين‪.‬‬
‫يف تلك الفرتة وخالل متاثلي للعالج �أدركت �أن كالم «�أبو علي ال�سلوادي»‬
‫�صحيح ومهم جدا ً و�أدركت كم كنت خمطئاً‪ ،‬وكم كان هو �صائبا ً وحكيماً‪ .‬ف�أبو علي‬

‫‪87‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫كان يت�ضايق مني ب�أمرين اثنني �أولهما كرث ُة تنقلي بني املدن الفل�سطينية وقراها‪،‬‬
‫فلقد كنت ال �أف�ضل املكوث ب�أي من املدن �سوى فرتة حمدودة �أو مبعنى �آخر كما‬
‫كنت �أقول «لأبي علي ال�سلوادي» عندما ي�صبح عملي ووجودي ب�أي مكان روتيني‬
‫ف�أنا �أنتقل ملكان �آخر ف�أنا ال �أحب الروتني فهو يقتلني‪ ،‬ويدمر حما�سي ورغبتي‬
‫يف التجديد هي ما تدفعني للنجاح‪� .‬أما ال�شيء الثاين الذي كان ي�ضايق «�أبا علي‬
‫ال�سلوادي» مني فلقد كان حبي خلو�ض اال�شتباكات امل�سلحة وع�شقي للكمائن التي‬
‫كنا نن�صبها لقوات االحتالل‪.‬‬
‫ما �إن بد�أت �أ�سرتجع عافيتي حتى قررت �أن �أبد�أ �أو�سع برنامج لتدريب كل من‬
‫ميكن تدريبهم من عنا�رص الق�سام على تقنيات �صناعة العبوات النا�سفة واللوحات‬
‫االلكرتونية الالزمة لذلك‪ ،‬وهنا كان دور «�أبي علي ال�سلوادي» دورا ً حموريا ً‬
‫ورئي�سيا ً للغاية فلقد كان ينتقل من مكان لآخر ويجوب املدن الفل�سطينية منتقيا ً‬
‫�أف�ضل �شباب كتائب الق�سام الذين ي�صلحون وميلكون القدرة على التعلم وعلى‬
‫القيادة �أي�ضاً‪ ،‬فنحن خالل الربنامج التدريبي الذي ا�ستمر نحو عا ٍم كامل‪ ،‬كنا‬
‫ندرب ونعد عددا ً من قادة الق�سام ليكونوا قادة املرحلة القادمة حتى ال يكون هناك‬
‫فراغ ونق�ص �إذا ما ا�ست�شهد قائ ٌد ما وخا�صة �أن القب�ضة الأمنية من �أجهزة ال�سلطة‬
‫الفل�سطينية ومن قوات ال�شاباك ال�صهيوين كانت قوية و�شديدة جداً‪.‬‬
‫�أما برنامج التدريب فلقد كان مكثفا ً وم�ضغوطا ً لدرجة كبرية ومتعبة‪ ،‬فلقد كانت‬
‫الدورات تعقد مبجملها مبدينة رام اهلل ومدينة البرية يف عدة منازل �أُع ّدت وخ�ص�صت‬
‫لتلك املهمة‪.‬‬
‫بعد تقدم برنامج التدريب ب�شكل جيد بف�ضل «�أبي علي ال�سلوادي» كان قد �أدار‬
‫هذا الربنامج بحكمة واقتدار وبف�ضل كل من �سيد ال�شيخ قا�سم و�أبي �أحمد اخلطيب‬
‫اللذين كانا م�ساعدي ال�شخ�صيني وكانا مي�ضيان كل وقتهما �إما يف جتهيز ال�شقق‬
‫و�إعدادها و�إما ب�إح�ضار املتدربني و�إعادتهم للأماكن التي قد ح�رضوا منها‪ ،‬وتلك‬
‫املهمة كانت الأ�صعب‪.‬‬
‫فلقد كان �إح�ضار متدرب واحد ليتلقى برنامج التدريب يتطلب �إجراءات �أمنية‬
‫�رسيعة ومعقدة يف ظل املالحقة الأمنية التي كانت حركة املقاومة حما�س وذراعها‬

‫‪88‬‬
‫الع�سكري كتائب الق�سام تتعر�ض له من قبل قوات الأمن الفل�سطينية التي كانت جتوب‬
‫املدن وال�شوارع واملباين ال�سكنية بحثا ً عنا‪ ،‬ومن خالل قوات العدو ال�صهيوين التي‬
‫كانت تبحث عنا عرب عمالئها وعرب و�سائلها التقنية من طائراتٍ لال�ستطالع‪ ،‬تلك‬
‫الطائرات التي مل تكن تفارق املدن الفل�سطينية �أبداً‪ ،‬ومن خالل �أجهزة ر�صد املكاملات‬
‫الهاتفية مما جعل مهمة «�سيد ال�شيخ قا�سم» و«�أبي �أحمد اخلطيب» من �أ�صعب املهام‪،‬‬
‫ولكن بف�ضل اهلل �أنهما طول عملهما معي مل يرتكبا �أي هفوة �أو خط�أ‪ .‬بل كانا ميلكان‬
‫نوعا ً من الب�صرية الربانية وح�سا ً �أمنيا ً فائقاً‪ُ ،‬يجنبنا الوقوع مب�صائد العدو‪.‬‬
‫�أما �أبو �أحمد اخلطيب فلقد كان مثل ال�سيف �إذا ما �رضب �رضبة ف�إنه لن تكون‬
‫هناك حاجة ليعيد ال�رضبة مرة �أخرى ف�رضبة واحدة منه تكفي وتزيد‪.‬‬
‫ق�سمته لعدة م�ساقات؛ النظري والعلمي وامليداين‪.‬‬ ‫عندما �أعددت برنامج التدريب‪ّ ،‬‬
‫�أما النظري فلقد حولت كل ما كان بداخل ر�أ�سي من معلومات تقنية وكل ما بداخل‬
‫جهاز احلا�سوب �أي �أوراق مطبوعة‪ ،‬مطبوعة بلغة �سهلة جداً‪ ،‬وا�ضحة بحيث �أن‬
‫املتدرب رغم عدم �إملامه بعلوم الهند�سة االلكرتونية‪� ،‬أو بعلوم �صناعة العبوات‬
‫النا�سفة‪ ،‬ف�إنه كان يتمكن من فهم تلك الأمور خللوها من التعقيد والإطالة اململة‪ .‬ف�أنا‬
‫من خالل تلك الأوراق املطبوعة املزودة بر�سوم هند�سية وتو�ضيحية �أردت �أن تكون‬
‫ال�صورة وا�ضحة ب�سيطة‪ .‬ثم �أين قمت بالعمل على �أن يح�صل املتدرب على ن�سخة‬
‫من تلك الأوراق قبل و�صوله للتدرب لدي بعدة �أيام لكي ال يفاج�أ مبا �سوف يتم‬
‫�إعداده وتدريبه عليه‪ .‬ثم من الناحية العملية‪ ،‬فلقد كنت بعد انتهاء ال�رشح النظري‬
‫�أبد�أ بالتدريب العملي مع املتدرب‪ ،‬ف�أعلمه كيف يقوم ب�إعداد الدوائر االلكرتونية‬
‫وجتهيزها وكيف يقوم ب�إعداد املواد النا�سفة وجتهيزها �ضمن عبوات خمتلفة‬
‫الأ�شكال والأحجام‪ ،‬عبوات تتنا�سب مع كل عملية يراد التح�ضري لها‪.‬‬
‫�أما من الناحية امليدانية فلقد كنت �أدرب عن�رص الق�سام على التعرف على �أنواع‬
‫الأ�سلحة املختلفة وعلى الذخائر امل�ستعملة ثم �أدربه على كيفية فك وجمع تلك‬
‫الأ�سلحة من م�سد�سات ور�شا�شات وقنابل يدوية‪ ،‬وبعد �أن يتقن هذه املرحلة التي‬
‫كنت �أبد�أ مهارة عمليه ف�إنه ي�ؤخذ �إىل �أحد‬
‫كانت تتم بداخل املنزل املخ�ص�ص للتدريب‪ُ ،‬‬
‫املناطق القروية النائية للتدرب‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫حر�صت على �شي ٍء مهم و�أمتنى �أن يحر�ص عليه كل من يعمل مبيدان املقاومة‪،‬‬
‫وهو �أنه مل يتمكن �أي �أحد من ر�ؤية وجهي �أبدا ً وال من التعرف على �صوتي‪ ،‬فلقد‬
‫كنت مقنّعا ً طوال مدة التدريب مهما طالت‪ ،‬وكنت �أحتدث باللغة الف�صحى ولي�س‬
‫باللغة العامية‪ ،‬وكنت �أطلب من «�سيد ال�شيخ قا�سم» �أن يلب�س كل متدرب قبل �أن‬
‫يدخله ملقابلتي قناعا ً لكي ال �أتعرف �أنا على هويته‪ .‬وكان �سيد يطلب منهم التحدث‬
‫باللغة الف�صحى مثلي متاماً‪ ،‬وكنت �أعطي كل واحد منهم ا�سما ً حركيا ً �أتعامل معه‬
‫به‪� .‬أما هم فلم يكونوا يقولون يل �سوى كلمة واحدة وهي «ال�شيخ»‪« .‬ال�شيخ» كان‬
‫لقبي عند تدري�سي لكل تلك العنا�رص الق�سامية املقاتلة‪ .‬بعد �أن متكنت من تدريب‬
‫كافة تلك العنا�رص بد�أت �أنتقي عددا ً منهم لتكليفه مبهمات جهادية خا�صة‪.‬‬
‫كان االنتقاء يتم ح�سب املهارة التي �أبداها املتدرب �أثناء تدريبه الأول لدي‪ ،‬فكنت‬
‫لتدريب مكثف متخ�ص�ص بحيث يكون هذا التدريب يتنا�سب مع املهام التي‬ ‫ٍ‬ ‫�أخ�ضعه‬
‫�سوف يكلف بها‪ .‬و�سوف �أتطرق لبع�ض �أبرز من قمت بتدريبهم و�إعدادهم‪ ،‬و�سوف‬
‫�أبد�أ من القد�س احلبيبة على قلبي‪.‬‬
‫ولقد وقع اختياري على جماهد ا�سمه «وائل العبا�سي» وعن�رص �آخر قادرين على‬
‫ا�ستعمال ال�سالح و�صناعة العبوات النا�سفة وزراعتها‪ ،‬ولقد قامت تلك اخللية بعدة‬
‫عمليات لزراعة العبوات النا�سفة ب�أنحاء مدينة القد�س‪ ،‬فلقد كنت �أزود تلك اخللية‬
‫بالعبوات النا�سفة لتلك العمليات لأن اخللية مل تكن متلك مكانا ً �أمنا ً مبدينة القد�س‬
‫ل�صناعة لتلك العبوات فكنت �أ�صنعها مبدينة رام اهلل وكان وائل العبا�سي ي�أتي‬
‫لأخذها من هناك‪.‬‬
‫ولقد كان ال�شيخ قا�سم هو ال�ضابط امل�س�ؤول عن عمل تلك اخللية؛ فلقد كان‬
‫الق�سامي املطارد �صالح التلحمي وبعد عدة‬ ‫ين�سق �أعمالها مع � ٍأخ جماهد ا�سمه القائد ّ‬
‫عمليات ناجحة‪ ،‬قررت مع الأخوة «�أبي علي ال�سلوادي» و«�أبي �أحمد اخلطاب» �أن‬
‫نو�سع ن�شاط تلك اخللية املقد�سية خلية «وائل العبا�سي»‪ ،‬ولقد جاء هذا القرار بعد‬
‫عملية جبانة قذرة �أقدمت عليها قوات الربابرة ال�صهاينة‪.‬‬
‫فلقد قامت تلك القوات بق�صف �سيارة زوجة القيادي بحركة حما�س» ح�سني �أبو‬
‫كويك»‪ ،‬مل يكن ال�شيخ «ح�سني �أبو كويك» يف تلك ال�سيارة �أ�صالً‪ ،‬فهي �سيارة زوجته‬

‫‪90‬‬
‫التي كانت تقل �أطفاله بعد �أن �أح�رضتهم من املدر�سة بعد انتهاء اليوم الدرا�سي‪،‬‬
‫فا�ست�شهدت وا�ست�شهد �أبنا�ؤه �أي�ضا ً وا�ست�شهد عد ٌد من التالميذ يف املدر�سة الذين‬
‫كانوا باملكان؛ ولذلك كان ال بد من توجيه العقاب للعدو ال�صهيوين عرب عملية‬
‫موجعة و�رسيعة‪.‬‬
‫فكانت القد�س هي الهدف و«وائل العبا�سي» هو من ا�ستطلع و�أعد الرتتيبات‬
‫الالزمة لإي�صال اال�ست�شهادي للمكان املنا�سب‪ ،‬وهو مطعم ومقهى «مومنت»‪.‬‬
‫�أهمية هذا املقهى تكمن �أنه يقع على بعد �أمتار قليلة من بيت رئي�س حكومة العدو‬
‫ال�صهيوين �شارون‪ ،‬والأهم هو رواد هذا املقهى «مومنت»‪ ،‬فلقد كانت املعلومات‬
‫يغ�ص املقهى مبوظفني يف احلكومة‬ ‫ُّ‬ ‫ت�شري �أنه دائما ً ‪ -‬ويف تلك الفرتة من اليوم‪-‬‬
‫ال�صهيونية‪ ،‬الذين يق�ضون به �أوقاتهم ليكونوا قريبني من رئي�س حكومة الإرهاب‬
‫ال�صهيوين �شارون‪.‬‬
‫وهنا �أح�رض يل «�سيد ال�شيخ قا�سم»‪ ،‬اال�ست�شهادي «ف�ؤاد‬
‫احلوراين» فقمت بتجهيزه بحزام نا�سف ثم بت�صويره وكتابة‬
‫و�صيته وبعد ذلك �إلبا�سه مالب�س تنا�سب املوقع الذي �سوف‬
‫يتوجه �إليه‪ ،‬حدث ذلك خالل �ساعتني ال �أكرث‪ ،‬عا َد �سيد القا�سم‬
‫بعدها ليجده جاهزا ً م�ستعدا ً فا�صطحبه معه ليو�صله لوائل‬
‫العبا�سي الذي عمل مع م�ساعديه من الأخوة الق�ساميني على �إي�صال اال�ست�شهادي‬
‫�إىل موقع العملية‪.‬‬
‫قدر اهلل �أن ي�صل اال�ست�شهادي ف�ؤاد احلوراين ب�سالم �إىل القد�س‪ ،‬قادما ً من مدينة‬
‫رام اهلل رغم �أن الوقت كان ليالً‪ ،‬ورغم وجود عدد كبري من احلواجز الع�سكرية‬
‫الثابتة واملتحركة‪ ،‬وقدر اهلل �أن يقرتب �أكرث في�صل �إىل بعد عدة �أمتار من مقر �شارون‬
‫من بيته يف القد�س‪ .‬وما �إن دخل اال�ست�شهادي ف�ؤاد احلوراين حتى فجر نف�سه خملفا ً‬
‫خلفه ع�رشات القتلى واجلرحى ال�صهاينة ومنهم عدد من موظفي حكومة العدو‬
‫وحتديدا ً موظفي �شارون‪ ،‬العاملني يف وزارة اخلارجية‪.‬‬
‫بعد تلك العملية جن جنون �شارون‪ ،‬و�صب جام غ�ضبه على ال�ضفة الفل�سطينية‬
‫ب�أن قام بت�شديد احل�صار حول املدن دون �أن يقتحمها‪ ،‬وعلى قطاع غزة من خالل‬

‫‪91‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫زيادة عمليات الق�صف‪ ،‬ولأنه مل يتمكن من الو�صول ملقاتلي كتائب عز الدين الق�سام‪،‬‬
‫فلقد ا�ستهدف القادة الق�ساميني‪ ،‬وهكذا ق�صف �شارون قطاع غزة موجها ً نريان‬
‫طائراته نحو املهند�س «�إ�سماعيل �أبو �شنب»‪ ،‬ذلك املهند�س املدين والقائد ال�سيا�سي‪،‬‬
‫فا�ست�شهد‪ ،‬وخرج بعد ا�ست�شهاده �أ�سد فل�سطني «عبد العزيز الرنتي�سي» ليتوعد‬
‫باحل�ساب والعقاب‪.‬‬
‫ولأن الأمور كانت ت�سري بوترية �رسيعة جدا ً فلقد‬
‫كلفت خلية «وائل العبا�سي» ب�أن ت�ستطلع مكانا ً �آخر‬
‫خارج مدينة القد�س املحتلة‪ ،‬لكي ال تثري ال�شبهات‬
‫حول تلك اخللية‪ .‬فلقد طلبنا منهم �أن يكون املكان‬
‫بني و�سط و�شمال فل�سطني املحتلة ولقد وجدوا‬
‫مكانا ً منا�سباً‪ ،‬والأهم هو �أنهم وجدوا ا�ست�شهاد َّيا ً منا�سبا ً جدا ً لتلك العملية‪ ،‬ولأن‬
‫�أ�سد فل�سطني قال عندما توعد بالرد والعقاب �أن الرد �سوف يكون مزلزالً‪ ،‬و�أن‬
‫بنيان ال�صهاينة �سوف يهدم على ر�ؤو�سهم‪ ،‬فلقد كانت عملية مزدوجة مركبة‬
‫بحيث قمت ب�إعداد حزام نا�سف ال�ست�شهادي لي�ضعه حول ج�سده وقمت ب�صناعة‬
‫عبوة نا�سفة �شديدة االنفجار وو�ضعتها بداخل حقيبة و طلبت من اال�ست�شهادي �أن‬
‫يزرعها يف �أحد �أركان موقع العملية امل�ستهدف‪ .‬هذا اال�ست�شهادي قام بدور حا�سم‬
‫بتحديد موقع العملية مع وائل العبا�سي‪ ،‬فلقد كان يعرف دروب اجلبال والوديان‪،‬‬
‫فلأنه كانت املدن حما�رصة ولأن العدو حا�رص مناطق العبور �إىل �أر�ضنا املحتلة‬
‫عام ‪ ،1948‬فلقد ا�ضطررنا ل�سلوك اجلبال للو�صول �إىل الأهداف التي �أردنا تنفيذ‬
‫العمليات فيها‪.‬‬
‫وهكذا فلقد �صنعت حزاما ً نا�سفا ً من نوع خمتلف عن الأحزمة النا�سفة التي‬
‫كنت قد �صنعتها فيما �سبق فهذا احلزام كان يربط حول اخل�رص ويثبت �أي�ضا ً حول‬
‫الكتف عن طريق حزام جلدي ولأنه �سوف يكون على احلزام �أن يكون قويا ً ثابتا ً‬
‫على ج�سد اال�ست�شهادي خالل قطعه مل�سافة طويلة �سريا ً على الأقدام قاطعا ً جباالً‬
‫ووديانا ً فلقد كانت املواد امل�صنوعة منها املادة املنا�سبة حتى ال تت�أثر بال�ضغط �أو‬
‫احلرارة �أو احلركة الناجتة عن امل�شي‪ .‬ولقد زودته �أي�ضا ً بعبوة نا�سفة وو�ضعتها‬

‫‪92‬‬
‫بحقيبته‪ ،‬ولأن ذلك اال�ست�شهادي كان ميلك ج�سدا ً قويا ً وبنية ج�سدية كبرية فلقد‬
‫كان رغم �صعوبة قطع اجلبال‪ ،‬قادرا ً على الو�صول للطريق الآخر‪ ،‬حيث القاه هناك‬
‫وائل العبا�سي ونقله ب�سيارته لنا ٍد للقمار ا�سمه نادي (�شفره) وهناك زرع احلقيبة‬
‫النا�سفة ب�إحد �أركان النادي الليلي وفجر نف�سه بوا�سطة احلزام النا�سف بالركن‬
‫الآخر من النادي الليلي‪.‬‬
‫ولأن النادي الليلي كان يقطن ب�أحد الطوابق العليا لبناية جتارية فلقد انهارت‬
‫�أجزاء كبرية من تلك البناية التجارية جراء قوة املواد امل�ستعملة يف تلك العملية‪ .‬هذا‬
‫اال�ست�شهادي مل �أذكر ا�سمه لأنه كان �أحد �ألغاز العمل املقاوم‪ ،‬لغزا ً ق�ساميا ً فلقد‬
‫كان هذا اال�ست�شهادي قد قدم من الأردن ولأنه كان على عالقة وطيدة بعدد من‬
‫عنا�رص حركة املقاومة الق�سامية‪ ،‬فلم ن�ش�أ �أن يعرف �أحد با�سمه �إال بعد مرور ما‬
‫يزيد عن ثمانية �أعوام على هذه العملية‪ ،‬ومل نعلن عنه �إال بعد �أن �شاهدت و�أنا �أقبع‬
‫داخل زنزانتي ندا ًء موجها ً من والدته يف الأردن تطالب مبعرفة م�صري ولدها‪ .‬وهنا‬
‫�أعلنت كتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام عن ا�سم منفذ تلك العملية اال�ست�شهادية‪،‬‬
‫العملية التي قتل بها ع�رشات ال�صهاينة و�أ�صيب املئات‪ ،‬ولقد كان اال�ست�شهادي يعلم‬
‫�أنه لن يتم الإعالن عن ا�سمه لتلك الأ�سباب قبل �أن يقرر تنفيذ العملية‪ ،‬ولأنه يعلم‬
‫�أن فل�سطني املقاومة ت�ستحق كل ت�ضيحه‪ ،‬فلقد �أقدم على ال�شهادة جمتازا ً اجلبال‬
‫والوديان حامالً معه وزنا ً كبريا ً من املواد النا�سفة‪.‬‬
‫ي�شهد اهلل على رغم �أنني مل �أقابل هذا اال�ست�شهادي �إال �أن من قابلوه �أبلغوين‬
‫�أنه �أمري اال�ست�شهاديني‪� .‬أمري طلب ال�شهادة ب�إحلاح و�أ�رص عليها ولأجلها اجتاز‬
‫ال�صعاب وو�صل �إىل هدفه مقداما ً ثابتا ً عازما ً على �أن يلقن العدو در�سا ً باملقاومة‪:‬‬
‫عذرا ً �أم ال�شهيد عذرا ً �أبا ال�شهيد عذرا ً �أهل ال�شهيد‪ ،‬على ت�أخر كتائب عز الدين الق�سام‬
‫عن الإعالن عن ا�سمه للأ�سباب التي ذكرت‪ ،‬وعذرا ً لأين مل �أكتب ا�سمه بني �صفحات‬
‫هذا الكتاب‪ ،‬لأين �أكتب من داخل زنزانتي ومل �أمتكن من احل�صول على ا�سمه ب�سبب‬
‫�سجني‪ ،‬ولأين معتقل بزنزانة خا�صة‪ ،‬ا�سمها زنزانة العزل اخلا�ص‪ ،‬زنزانة متل�ؤها‬
‫كامريات املراقبة ومينع بها زيارات املحامني‪ ،‬زنزانة �أقرب ما تكون بالقرب‪ ،‬بل هي‬
‫القرب بذاته‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫تاال حتت احل�صار‬


‫نعم يا ابنتي اجلميلة ويا مالكي احلار�س لقد كنتِ حتت احل�صار‪ .‬فلقد �أ�صبحت‬
‫�أنت و�أم ِك و�أخاكِ �أ�سامة‪� ،‬أ�سامة الغ�ضنفر حتت احل�صار واملراقبة ال�شديدة من قبل‬
‫عمالء االحتالل ومن قبل عمالء الأجهزة الأمنية الفل�سطينية‪.‬‬
‫لقد كانوا يحا�رصون كل حركة تقومني بها �أنتِ و�أم ِك و�أخوكِ ‪ ،‬فلقد و�صلتني‬
‫معلومات من خالل وحدة الر�صد اخلا�صة التي كانت مكلفة مبتابعة عمل جهاز‬
‫يكتف بعمالئه الذين كانوا يراقبون البيت من‬ ‫ِ‬ ‫الأمن الوقائي‪� ،‬إن هذا اجلهاز مل‬
‫اخلارج ليالً نهاراً‪ ،‬بل �أنه �أر�سل عميالً خا�صا ً بعد �أن قام بتدريبه مبنطقة �أريحا‬
‫تدريبا ً حمرتفا ً على يد مدير ا�ستخبارات ح�رض من الواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬كان‬
‫قد �أر�سله جورج تنت ليدرب ذلك العميل ويزرعه يف داخل منزيل‪ ،‬ذلك املنزل الذي‬
‫كنتِ �أنت و�أم ِك تقيمان فيه مع �أخي ِك ال�صغري �أ�سامة‪.‬‬
‫ال�صعب بل املحزن بالن�سبة لذلك العميل �أنه كان من �أقاربي من �أبناء عائلة‬
‫وميت ب�صلة قرابة مبا�رشة مع زوجتي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ال�سن‬
‫الربغوثي‪ ،‬وكان �صغري ٍّ‬
‫لقد كلف هذا العميل مبتابعة ما يدور يف داخل املنزل لعله يتمكن من الو�صول �إيل‪.‬‬
‫ولقد كان من املفرت�ض �أن يقوم بزرع �أجهزة تن�صت يف داخل منزيل بالإ�ضافة �إىل‬
‫كامرياتٍ للمراقبة‪.‬‬
‫لكن اهلل‪ ،‬اهلل خري املاكرين‪،‬فيمكرون وميكر اهلل واهلل خري املاكرين‪ ،‬اهلل ع َّز وج َّل‬
‫الذي �سهل و�صول املعلومة يل عرب جهاز الر�صد مما جعلني �أقوم بعملية من نوع‬
‫�آخر مل �أقم بها من قبل وهي ك�رس احل�صار وتهريب ِك مع �أم ِك و�أخي ِك بعيدا ً عن القرية‪،‬‬
‫قرية بيت رميا لت�صلي �إيل‪� ،‬إىل البيت الآمن‪.‬‬
‫فبمجرد و�صول تلك املعلومة التي حددت موعد انتهاء الدورة التدريبية لذلك‬
‫العميل وموعد و�صوله من �أريحا �إىل قرية بيت رميا حممالً بتلك الأجهزة ال�سمعية‬
‫والب�رصية التي كان مكلفا ً بزراعتها ببيتي وقد كانت هناك وحده خا�صة ق�سامية‬
‫قامت باعتقاله قبل �أن يقوم ب�أي من ن�شاطه‪ ،‬وقامت فرق ق�سامية �أخرى بنقل‬
‫زوجتي و�أطفايل من القرية �إىل رام اهلل ب�شكل �رسي‪ .‬وبعد ذلك قاموا بنقل العميل‬
‫�أي�ضا ً �إىل رام اهلل لأبد�أ التحقيق معه ب�شكل �شخ�صي‪� .‬أجمل ما يف ذلك التحقيق هو‬

‫‪94‬‬
‫�أنه ما �إن جل�س على الكر�سي حتى بد�أ العميل ب�رسد ق�صته لوحده دون �أن يوجه‬
‫له �س�ؤال واحد‪ ،‬وبعد �إنهاء �رسد ما عنده وجهت له بع�ض الأ�سئلة اخلا�صة حول‬
‫موا�ضيع متنوعة‪.‬‬
‫مما قاله �أنهم �أثناء التدريب مبنطقة �أريحا على يد ذلك املدرب الأمريكي الذي‬
‫يتحدث اللغة العربية هو �أن املدرب طلب منه �أن ي�شرتي ل ِك يا ابنتي ال�صغرية بع�ض‬
‫احللوى لكي ي�ستدرجك بالكالم عني‪ ،‬رغم �أن عمركِ مل يكن قد جتاوز العامني بعد؛‬
‫�إال �أنهم كانوا يريدون �أن يعلموا �أي �شيء مهما كان �صغرياً‪ ،‬فلقد علمت �أي�ضا ً من‬
‫خالل جهاز الر�صد الق�سامي �أن مكاملة قد جرت بني �أحد قيادات ال�سلطة‪ ..‬وجورج‬
‫تنت مدير املخابرات الأمريكية طلب منه بهذه املكاملة �إلقاء القب�ض علي‪ ،‬كما حثه‬
‫�أي�ضا ً يف تلك املكاملة ب�إلقاء القب�ض على الأمني العام للجبهة ال�شعبية لتحرير فل�سطني‬
‫الرفيق �أحمد �سعدات �أبو علي م�صطفى‪ ،‬فلقد كان الرفيق �أحمد �سعدات مطلوبا ً‬
‫ب�شكل كبري جدا ً جداً؛ لأن ال�صهاينة كانوا قد اتهموه بتنفيذ عملية نوعية جدا ً قتل‬
‫بها وزير ال�سياحة ال�صهيوين «رحبعام زئيفى»‪.‬‬
‫بعد انتقال زوجتي و�أطفايل ليعي�شوا ب�أحد املنازل الآمنة يف مدينة رام اهلل‪� ،‬أ�صبح‬
‫من ال�سهل علي زيارتهم هناك‪ ،‬وهكذا �أ�صبحت زوجتي مطلوبة لقوات االحتالل‬
‫من جهة ومطلوبة من قبل قوات �أمن ال�سلطة‪ ،‬فعممت لها �صورة‪ ،‬مما جعل تنقلها‬
‫�صعب جدا ً حيث �أن قوات االحتالل كانت ت�ضع عددا ً من املجندات على احلواجز‬
‫لفح�ص الن�ساء والتدقيق ب�صورهن‪.‬‬
‫ولذا‪ ،‬فقد ظلت زوجتي طوال فرتة املطاردة تعي�ش مبدينة رام اهلل‪ ،‬مل تكف �أجهزة‬
‫�أمن ال�سلطة عن البحث عنها �أو عني مما جعل �أقاربي عر�ضة لالعتقال لدى تلك‬
‫الأجهزة وعر�ض منازلهم للمداهمة الدائمة والتفتي�ش امل�ستمر‪ ،‬بتلك احلجة‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫«�صالح �شحادة»‬

‫يف �إحدى الليايل قامت طائرة من طراز ‪ F16‬بق�صف �إحدى‬


‫البنايات ال�سكنية املوجودة مبدينة غزة يف حي ا�سمه حي‬
‫الدرج‪ ،‬مت ق�صف تلك البناية بتقنية �ضخمة حولها لأنقا�ض‪،‬‬
‫فا�ست�شهد ال�شيخ “�صالح �شحادة” قائد كتائب ال�شهيد‬
‫عز الدين الق�سام بفل�سطني وا�ست�شهد معه زوجته وبع�ض‬
‫�أطفاله‪ ،‬وا�ست�شهد �أي�ضا ً عد ٌُد من �سكان تلك البناية ال�سكنية ومن اجلريان التي حتيط‬
‫مبنازلهم ؛ ولذلك وجب �أن ترد الكتائب على تلك اجلرمية النكراء ولكن كيف نرد‬
‫ونحن نعي�ش داخل �سجن حقيقي مبدينة رام اهلل‪� ،‬سجن فر�ض علينا القتال امل�ستمر‬
‫مع العدو واملواجهة الدائمة معه بقلب املدن الفل�سطينية‪.‬‬
‫قبل فرتة من ا�ست�شهاد القائد «�صالح �شحادة»‪ ،‬قام مهند�س فل�سطيني ق�سامي‬
‫بعملية نوعية قلبت موازين وقواعد املواجهة‪ ،‬ذلك املهند�س ابن مدينة طولكرم‬
‫«عبا�س ال�سيد»‪.‬‬
‫«عبا�س ال�سيد» هو مهند�س فل�سطيني در�س الهند�سة باململكة الأردنية‪ ،‬و�أنهى‬
‫درا�سته بنف�س العام الذي بد�أت �أنا فيه الدرا�سة بكوريا اجلنوبية‪� ،‬أي بعد حرب‬
‫اخلليج الأوىل‪ ،‬ولقد كان نا�شطا ً �أثناء درا�سته بجماعة الأخوان امل�سلمني‪ ،‬ولذلك‬
‫كان ولكونه فل�سطينيا ً يتعر�ض للم�ضايقات واملطاردة من قبل �أجهزة الأمن‬
‫الأردنية �آنذاك‪.‬‬
‫عاد «عبا�س ال�سيد» �إىل فل�سطني و�أكمل ن�شاطه ال�سيا�سي بان�ضمامه حلركة‬
‫املقاومة الإ�سالمية حما�س مبدينة طولكرم‪ ،‬وتدرج حتى و�صل �إىل �أن �أ�صبح ممثلها‬
‫وناطقها يف تلك املدينة‪ .‬ومع اندالع انتفا�ضة الأق�صى ظل ميار�س عمله ال�سيا�سي‬
‫كاملعتاد‪� ،‬إال �أن هذا املهند�س الهادئ قرر �أن يتجه للعمل الع�سكري بعد �أن ازدادت‬

‫‪96‬‬
‫جرائم االحتالل وفاقت الو�صف‪ .‬ففي تلك الفرتة مل يكن قد مر �أ�سبوع واحد بال‬
‫جمزرة �أو جرمية ترتكب �ضد �أبناء ال�شعب الفل�سطيني يف خمتلف بقاع فل�سطني‪.‬‬
‫لذلك قام هذا الذكي الهادئ‪ ،‬هذا املهند�س عبا�س ال�سيد بت�شكيل عملية ق�سامية‬
‫وقام ب�إعداد عبوة نا�سفة‪ ،‬هي الأ�ضخم والأقوى يف تاريخ كتائب الق�سام يف ال�ضفة‬
‫الغربية والقد�س‪ ،‬و�أر�سل تلك العبوة مع ا�ست�شهادي �إىل �أحد الفنادق‪ ،‬فانفجرت‬
‫العبوة وا�ست�شهد املقاوم ولقد خلفت تلك‬
‫العبوة قرابة �ستة وثالثني قتيالً �صهيونيا ً‬
‫وعدة مئات من اجلرحى ِق�س ٌم كبري منهم‬
‫�أ�صيبوا ب�إعاقات دائمة‪.‬‬
‫وهنا اتخذ رئي�س حكومة العدو تلك العملية‬
‫الذريعة وقام باجتياح كافة املدن الفل�سطينية‪،‬‬
‫وبعد ذلك االجتياح ق�صفت غزة وا�ست�شهد ال�شيخ �صالح �شحادة رحمة اهلل عليه‪.‬‬
‫وهنا �أ�صبح الرد على جرمية اغتيال قائد كتائب الق�سام واجباً‪ ،‬ولكن الطرق كانت‬
‫قد �أ�صبحت �أكرث �صعوبة على تنفيذ هذا الرد بل �أ�صبحت �أكرث خطورة من �أي وقت‬
‫م�ضى‪ ،‬فلقد قلت �أنا كنا نعي�ش بداخل �سجن‪ ،‬و�أنا �أعني ذلك بكل ما حتمل الكلمة‬
‫من معنى‪ ،‬فلقد حولت قوات العدو ال�صهيوين البناية ال�سكنية التي كانت تقع بها‬
‫ال�شقة التي ت�سكن بها زوجتي مع �أطفايل �إىل ثكنة ع�سكرية وحولت �سطح املبنى �إىل‬
‫مرتع للقنا�صة و�أ�سا�سات املبنى �إىل مرتع للدبابات واملجنزرات‪ ،‬وحولت كل �شوارع‬
‫املدينة �إىل طرقات خالية بعد �أن قامت اجلرافات ال�صهيونية بحفر حفر كبرية تقطع‬
‫تكتف بذلك فح�سب؛ بل فر�ضت حظرا ً للتجوال دام �أياما ً طويلة‬
‫ِ‬ ‫تلك ال�شوارع‪ ،‬ومل‬
‫و�صلت �إىل خم�سة وع�رشين يوما ً متوا�صال ً‪ ،‬رفع بعدها حظر التجوال لعدة �ساعات‬
‫ثم �أعيد فر�ضه من جديد‪.‬‬
‫خالل تلك ال�ساعات القليلة متكنت من الو�صول �إىل �إحدى ال�شقق التي مل ي�صل‬
‫�إليها العدو‪ ،‬وكانت حتتوي على كل ما �أحتاجه لإعداد لعملية‪ ،‬عملية الرد على اغتيال‬
‫�صالح �شحادة رحمة اهلل عليه‪ ،‬ولقد كان معي يف تلك الأثناء مراقبي �سيد احلاج‬
‫قا�سم و�أبو �أحمد اخلطيب ولقد �صنعت عبوة نا�سفة وو�ضعتها بحقيبة و�أر�سلتها مع‬

‫‪97‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫�سيد القا�سم لنقطة مت االتفاق عليها م�سبقا ً مع وائل العبا�سي ف�أخذ العبوة و�أو�صلها‬
‫للقد�س املحتلة‪ ،‬وهناك قام مع جمموعة من رجاله املقاومني بق�صد �أ�سوار اجلامعة‬
‫العربية بالقد�س وفجروا تلك العبوة عرب هاتف حممول‪ .‬وبذلك ورغم االجتياح‬
‫واحل�صار‪ ،‬متكنا من الرد وبقوة يف قلب العا�صمة الأبدية لدولة فل�سطني ب�إذن اهلل‪.‬‬
‫فتحت تلك العملية الأعني على خلية وائل العبا�سي مما جعل عمل تلك اخللية‬
‫�صعبا ً‪ .‬ولكن‪ ،‬ولأن تلك اخللية كانت متلك عددا ً من العبوات النا�سفة ال�صغرية التي‬
‫ال يتجاوز وزن الواحدة منها ن�صف كيلو جرام‪ ،‬فلقد متكنوا من تنفيذ قرابة �أربع‬
‫عمليات ا�ستهدفوا �صواريخ للوقود عرب �إل�صاق تلك العبوات بها وا�ستهدفوا �أي�ضا ً‬
‫عددا ً من عربات القطار من خالل زراعة العبوات مبناطق قريبة من العربات‪.‬‬
‫بعد ذلك ب�أيام معدودة اعتقل �أفراد تلك اخللية الق�سامية التي كانت �أكرب خلية‬
‫لكتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام مبدينة القد�س منذ قيام دولة العدو باحتالل تلك‬
‫املدينة‪ .‬وهنا على الفور بد�أت بتن�شيط خلية ق�سامية جديدة كنت قد دربت من �أوكلت‬
‫له �أمر قيادة تلك اخللية الق�سامية قبل عدة �أ�شهر وهو املهند�س الق�سامي «حممود‬
‫�رشيتح» ابن مدينة الظاهرية التي تقع بجنوب ال�ضفة الغربية بجوار مدينة اخلليل‪،‬‬
‫فلقد كان املهند�س «حممود �رشيتح» يدر�س الهند�سة بجامعة يحيى عيا�ش ‪:‬جامعة‬
‫بريزيت ولقد كان من �أن�صار الكتلة الإ�سالمية هناك‪ ،‬فاختاره �أبو علي ال�سلوادي‬
‫ليكون مهند�سنا يف جنوب ال�ضفة الغربية‪ ،‬فقمت ب�إعادة تدريبه من جديد رغم �أن‬
‫املدن كانت حمتلة من قبل دبابات العدو وقمت بالإعداد معه لعمليتني ا�ست�شهاديتني‬
‫فزودته بقطع ال�سالح الالزمة لت�شكيل خلية م�سلحة تت�صدى لقوات االحتالل‬
‫بجنوب ال�ضفة الغربية‪ ،‬وزودته بحزامني نا�سفني ف�أو�صلهما ملدينة الظاهرية وهناك‬
‫�أعد مع اخللية التي قام بت�شكيلها اخلطة الالزمة فنفذ انطالقا ً من اجلنوب عمليتني‬
‫ا�ست�شهاديتني فجر خاللهما اال�ست�شهاديني �أحزمتهما النا�سفة ببا�صني اثنني داخل‬
‫الأرا�ضي املحتلة عام ‪ .1948‬كانت تلك اخللية خلية املهند�س «حممود �رشيتح» من‬
‫�أ�رسع اخلاليا ت�شكيالً‪ ،‬ومن �أ�رسع اخلاليا اعتقاالً‪ ،‬فلم تدم تلك اخللية �سوى عدة‬
‫�أ�سابيع فقط ال غري‪ ،‬نفذت خاللها عمليتني ا�ست�شهاديتني وبعد ذلك اعتقل كل �أفراد‬
‫تلك اخللية وعلى ر�أ�سهم مهند�سها وقائدها حممود �رشيتح‪ ،‬وهنا قمت با�ستدعاء‬

‫‪98‬‬
‫مقاوم �آخر ممن قمت بتدريبهم م�سبقا ً لكي �أعيد تدريبه و�إعداده من جديد‪.‬‬
‫هذا املقاوم الوحيد الذي وجهت له توبيخا ً قا�سيا ً عندما قمت بتدريبه �أول‬
‫رص �آخ ُر كان معه مقنّعون‪ ،‬وكنا نتكلم‬‫مرة‪ ،‬فعند بدء التدريب كنت �أنا وهو وعن� ٌ‬
‫باللغة الف�صحى‪ ،‬فقال يل �أنه يف�ضل �أن يتلقى تدريبه على العلوم الع�سكرية على يد‬
‫املهند�س «عبد اهلل الربغو ُثي»‪.‬قبل �أن �أ�س�أله عن ال�سبب قال �أنه يريد �أن يتقن عمله‬
‫الع�سكري من «عبد اهلل الربغوثي» لأنه ي�شكل بالن�سبة له امتدادا ً ليحيى عيا�ش‪،‬‬
‫فوبخته بق�سوة وقلت له لي�س هناك من هو مبرتبة ال�شهيد «يحيى عيا�ش» و�أن هذا‬
‫الذي ا�سمه «عبد اهلل الربغوثي» ما هو �إال جمرد مهند�س عادي بل �أقل من عادي ولقد‬
‫ق�سوت عليه قليالً �أثناء التدريب‪ .‬الغريب بهذا املقاوم �أن «�أبا علي ال�سلوادي» عندما‬
‫�أح�رضه للتدرب �أول مرة مل ي�رش بهويته �سوى �أنه مقاوم ق�سامي ف�أعطيته ا�سما ً‬
‫رمزا ً للتوا�صل معه مثل باقي املقاومني الذين �سبق يل تدريبهم ولكن ات�ضح يل فيما‬
‫بعد �أ ّنه �أحد �أبناء عمومتي و�أنه املقاوم الق�سامي «جا�رس الربغوثي» ابن قريتي‪ ،‬ومل‬
‫�أعلم حقيقة هويته �إال بعد اعتقايل بعدة �سنوات عندما التقينا �صدفة ب�أحد ال�سجون‪،‬‬
‫فتعرفنا �إىل بع�ضنا البع�ض بعد �أن علم هو حقيقة هويتي وعلم �أنه من قام بتدريبه‬
‫�آنذاك هو عبد اهلل الربغوثي ابن عمه‪.‬‬
‫هذه هي كتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام‪ ،‬ال�صمت وال�رسية والعمل اجلهادي‬
‫املتوا�صل‪ ،‬دون كلل �أو ملل‪ ،‬لقد ا�ستطاعت خلية املقاوم الق�سامي «جا�رس الربغوثي»‬
‫بعد �أن عاودت تدريبه مرة �أخرى وتزويده بعدد من العبوات النا�سفة والأ�سلحة‬
‫املختلفة ا�ستطاع �أن ينفذ عددا ً من العمليات املوجعة للعدو ال�صهيوين‪.‬‬
‫يف تلك الفرتة خ�شيت من �أن يكون م�صري خلية املقاوم «جا�رس الربغوثي»‬
‫االعتقال املبكر مثل خلية املهند�س «حممود �رشيتح»‪ ،‬ولذلك قمت بتن�شيط عد ٍد من‬
‫اخلاليا الق�سامية بعدة مدن �أخرى كان �أهمها على الإطالق مدينة اخلليل‪ ،‬خليل‬
‫الرحمن‪ ،‬لأن مدينة اخلليل كانت متلك الآالف من املقاومني الق�سامني وكانت بحاجة‬
‫للمهند�سني والقادة فمن اهلل على خليل الرحمن بالقائد احلاج عبد اهلل القوا�سمي‬
‫و�أبناء �أحد �إخوانه فتجلت مدينة خليل الرحمن و�أخرجت �أجمل و�أحلى العمليات‬
‫الق�سامية يف تلك الفرتة املحرجة‪ ،‬فرتة االجتياحات‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫وهنا يجب �أن �أو�ضح نقطة مهمة هي �أين مل �أكن �أعلم �أي ا�سم من �أ�سماء املقاومني‬
‫الذين عملت معهم طوال تلك الفرتة املمتدة ما بني عامي ‪ 2000‬وعام ‪ 2003‬و�أن‬
‫الأ�سماء التي �أذكرها الآن قد عرفتها بعد �سنوات من اعتقايل فهي لي�ست �أ�صحاب‬
‫تلك الأ�سماء‪ ،‬فهم �إما معتقلون مثل «حممود �رشيتح» و«وائل القا�سم» و«جا�رس‬
‫الربغوثي» و«�أحالم التميمي» وغريهم و�إما �أ�صبحوا �شهداء عند ربهم يرزقون‪.‬‬
‫فلقد تركت مو�ضوع الأ�سماء خطا ً �أحمر منعت �أحدا ً من االقرتاب منه‪ ،‬ولذلك‬
‫�أقول �أن ال�شهيد �سيد ال�شيخ قا�سم رغم �أنه رافقني على مدى تلك الأعوام هو و�أبو‬
‫�أحمد اخلطيب �إال �أين رف�ضت �أن �أعرف �أ�سماءهم �أبدا ً �أبداً‪.‬‬
‫وكنت �أحر�ص دائما ً على �أن تكون اخلاليا التي �أكونها متقنة من ناحية القيادة‬
‫والإدارة‪ ،‬حتى ال ي�ؤدي اعتقال �أحد تلك اخلاليا �إىل �إحداث �رضر كبري بكتائب الق�سام‪.‬‬

‫االجتياح‬
‫يف �إحدى االجتياحات ال�صهيونية للمدن الفل�سطينية مت اجتياح مدينة رام اهلل‬
‫والبرية ومتت حما�رصة مقر جهاز الأمن الوقائي بالدبابات‪ .‬مل يكن هذا احل�صار‬
‫�سوى لعبة �أقدم عليها �أحد �أخطر العمالء بتاريخ ال�شعب الفل�سطيني وهو «حممد‬
‫دحالن» بالتن�سيق مع قوات االحتالل ال�صهيوين وجهاز ال�شاباك من �أجل هدفني‪:‬‬
‫�أولهما �أن يق�ضي على مناف�سة القوي �آنذاك يف ال�ضفة الغربية ‪:‬جربيل الرجوب‪،‬‬
‫و�أن يزيحه من طريقه لي�ستويل حممد دحالن على الأجهزة الأمنية بال�ضفة الغربية‬
‫وي�سيطر عليها كما �سيطر على تلك الأجهزة يف قطاع غزة‪.‬‬
‫فلقد كان عرفات بتلك املرحلة حما�رصا ً و�ضعيفا ً ف�أراد دحالن �أن يكون رجل‬
‫جورج تنت ورجل �شارون يف ال�ضفة الغربية واعدا ً �إ ّياهما بعد ت�سلّم ِه و�سيطرته‬
‫على الأجهزة الأمنية ب�أن يق�ضي على املقاومة امل�سلحة ب�شكل تام وكامل‪.‬‬
‫هذا ال�سبب رغم خطورته مل يكن يعنيني كثريا ً فكلهم �سواء‪ ،‬جربيل الرجوب‪� ،‬أو‬
‫حممد دحالن كالب لالحتالل‪ ،‬ال �أكرث وال �أقل‪� ،‬أما ال�سبب الذي كان يعنيني هو �أنه‬
‫يوجد بداخل ذلك املقر الع�رشات من مقاتلي الق�سام واجلبهة ال�شعبية ومنهم بالل‬
‫الربغوثي ابن عمي ورفيق دربي مبقاومة االحتالل‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫ولذلك خ�ضت عدة معارك وكمائن من �أجل فك احل�صار دون جدوى ودون �أي فائدة‪.‬‬
‫فلقد كانت القوات ال�صهيونية �أقوى منا بكثري من ناحية العتاد وال�سالح‪ ،‬وبخا�صة‬
‫�سالح اجلو فلقد كانت طائرات الأبات�شي تق�صف دون توقف �أي هدف ت�شتبه به‪.‬‬
‫اعتقل «بالل الربغوثي» واعتقل الع�رشات من املقاومني بذلك اليوم بعد �أن تكاتف‬
‫العمالء مع العدو ال�صهيوين �ضد املقاومة‪ .‬حزنت بل لقد بكيت لأين �شعرت ب�ضعف‬
‫�أمام �آلة الدمار ال�صهيوين وخا�صة عندما كنت على بعد �أمتار �أ�شاهد �أخوتي وهو‬
‫يعرون من املالب�س ويقادون �إىل جمنزرات العدو لينقلوا �إىل املعتقالت ال�صهيونية‪.‬‬
‫مل �أ�شعر بلحظة �ضعف مثل تلك املرة طوال حياتي‪ ،‬حياتي التي ر�أيت خاللها كل ما‬
‫ميكن ر�ؤيته‪ ،‬وكل ما ميكن �أن ي�ؤثر على �أق�سى الرجال �إال �أين مل �أت�أثر �أبداً‪� ،‬إال يف ذلك‬
‫اليوم وتلك الليلة التي كانت من �أطول الليايل يف حياتي على الإطالق‪.‬‬
‫ما �إن بزغ الفجر حتى عدت �إىل زوجتي وابني �أ�سامة وابنتي لكي �أودعهم متوجها ً‬
‫بعد ذلك هلل ع َّز وج َّل لعلي �ألقاه �شهيداً‪ .‬ودعتهم وتوجهت �أنا و�سيد القا�سم و�أبو‬
‫�أحمد اخلطيب �إىل منطقة و�سط رام اهلل‪ ،‬وهناك يف منطقة �سوق اخل�ضار وبجوار‬
‫م�سجد جمال عبد النا�رص‪ ،‬خ�ضنا ا�شتباكا ً م�سلحا ً دام قرابة الع�رشين يوما ً فجرنا ً‬
‫خالله الع�رشات من العبوات النا�سفة و�أطلقنا املئات من الر�صا�صات ومل ننهي تلك‬
‫املعركة �إال عندما تلقيت قذيفة �أطلقت من �إحدى الدبابات ف�أ�صابت القذيفة املكان‬
‫الذي �أهاجم العدو منه‪ ،‬ف�أ�صبت �إ�صابة �شديدة كدت �أفقد خاللها يدي اليمنى فنقلني‬
‫�أخوتي �سيد و�أبو �أحمد �إىل �أحد املحالت التجارية وهناك عوجلت ولقد تركت تلك‬
‫علي من عدة نواح ٍ ‪ :‬الناحية اجل�سدية فلقد �أ�صابت ذراعي بالك�رس‬ ‫القذيفة �أثرها َّ‬
‫من عدة �أماكن وكاد كف يدي �أن يبرت‪ ،‬وكدت �أفقد �أ�صبعي بل �أهم �أ�صابع يدي‬
‫وهو �أ�صبع ال�سبابة الذي كنت �أطلق من خالله زخات الر�صا�ص فلقد �أ�صيب ذلك‬
‫الأ�صبع ومت خياطته مبا ال يقل عن ثماين قطب يق�صد غرز‪ ،‬مما جعلني غري قادر‬
‫على خو�ض املعارك امل�سلحة لعدة �شهور بعد تلك الإ�صابة‪ ،‬وهنا يجب �أالّ �أن�سى �أن‬
‫�أخي «�أبا علي ال�سلوادي» عندما علم بعد ذلك جن جنونه‪ ،‬ولكن �أحمد اهلل �أنه علم بعد‬
‫�أن متاثلت جراحي لل�شفاء‪� .‬أما من الناحية النف�سية فلقد جعلتني �أقرب �إىل اهلل ع َّز‬
‫وج َّل من �أي وقت �آخر‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫قلب �أمي‬
‫يف �إحدى مراحل مطاردتي تعر�ض قلب والدتي للجلطة مما جعلها تدخل‬
‫امل�ست�شفى لعمل عملية جراحية حيث كانت تقيم هي ووالدي بالعا�صمة الأردنية يف‬
‫عمان‪ ،‬وعندما و�صلني اخلرب كان لزاما ً علي �أن �أطم�أن عليها بنف�سي رغم �أن هناك‬
‫من كان يزورها ويطم�أنني عليها‪� ،‬إال �أين وخلطورة و�ضعها قررت �أن �أطمئن عليها‬
‫ب�شكل مبا�رش و�أن �أطمئنها علي لكي �أرفع من معنوياتها‪ ،‬و�أ�شد من عزميتها فلقد‬
‫كان قد م�ضى على مطاردتي عدة �أعوام مل �أمتكن من احلديث الهاتفي معها �أو مع‬
‫والدي ب�شكل نهائي‪.‬‬
‫ويجدر القول هنا �أين طوال فرتة مطاردتي مل �أ�ستعمل الهانف اجلوال �أبدا ً‬
‫وحتت �أي ظرف من الظروف بل كنت �أ�سافر من مدينة ملدينة لكي �أنهي �أمرا ً ال‬
‫يتجاوز احلديث عنه �سوى ب�ضع دقائق‪ ،‬فلقد كنت �أعلم مدى خطورة ا�ستعمال تلك‬
‫الهواتف النقالة‪ ،‬ومدى قدرة العدو على تعقب املكاملات‪ ،‬وحتديد موقع املت�صل‪.‬‬
‫ولأن العدو ميلك عددا ً من طائرات اال�ستطالع املزودة ب�صواريخ موجهة حتلق‬
‫على مدار ال�ساعة ب�أجواء خمتلف املدن الفل�سطينية‪ ،‬فلقد كان احلديث عرب الهاتف‬
‫اجلوال �رضبا ً من �رضوب اجلنون‪ .‬اجلنون والتحدي هو ع�شقي وهوايتي‪ ،‬ولذلك‬
‫رفعت الهاتف اجلوال وحتدثت مع والدتي لعدة دقائق وما �إن انقطع الإر�سال حتى‬
‫�أم�سكت الهاتف الأر�ضي وعاودت االت�صال ثاني ًة بعد �أن اطم�أنّ �أحدنا على الآخر‪،‬‬
‫وبعد �أن �أ�صبحت معنويات والدتي عالية تعانق ال�سماء فلقد مازحتها كثريا ً حتى‬
‫قيل يل �إن عينيها اللتني كانتا تبكيان على فراقي وتبكيان حزنا ً علي‪� ،‬أ�صبحت تبكي‬
‫من �شدة ال�ضحك على النكت التي كنت �أقولها لها‪ .‬بتلك الب�ساطة ات�صلت وبتلك‬
‫الب�ساطة كانت خطوط االت�صال تقطع الواحد تلو الآخر‪� ،‬أما �سبب تلك االنقطاعات‬
‫فلقد كانت �سقوط القذائف الواحدة تلو الأخرى‪� ،‬أين وكيف؟‬
‫عندما ات�صلت �أول مرة من هاتف نقال وبعد عدة دقائق قد تكون جتاوزت‬
‫اخلم�س ع�رشة دقيقة �أو �أقل‪ ،‬قامت قوات االحتالل وعرب طائرة اال�ستطالع بق�صف‬
‫�سيارة متوقفة ب�أحد �شوارع مدينة نابل�س‪ ،‬بعدة �صواريخ موجهة من تلك الطائرة‪،‬‬
‫فلقد قمت برتكيب �شبكة من �أجهزة مقاومة التعقب و�أجهزة بتوجيه التعقب نحو‬

‫‪102‬‬
‫مكان �آخر وركبت تلك الأجهزة على بع�ض �أبراج الإر�سال وركب �إحداها على �إحدى‬
‫ال�سيارات التي قمت ب�رشائها وجتهيزيها لهذا الهدف‪ ،‬وهو ت�ضليل �أجهزة العدو‬
‫اال�ستخبارية وااللكرتونية‪ ،‬فق�صف العدو ال�سيارة ظنا ً منه �أين موجود و�أجري تلك‬
‫املكاملة منها ف�أ�صبحت ال�سيارة كومة من ال�صفيح املحرتق‪.‬‬
‫�أما �أنا فتناولت تفاحة من �صحن للفاكهة كان مو�ضوعا ً �أمامي وو�ضعتها بعد �أن‬
‫قطع �إر�سال اجلهاز النقال وات�صلت من جهاز ات�صال �أر�ضي هذه املرة وبد�أت ب�أكل‬
‫التفاح الواحدة تلو الأخرى‪ .‬وباحلديث مع والدتي و�إلقاء عليها النكتة تلو الأخرى‬
‫حتى �أين �أقول �أنها رغم عدم �سماعها ل�صوتي منذ مدة طويلة �إال �أنها ملت من تلك‬
‫النكت فكنت �أودعها مرارا ً دون �أن يغلق �أحدنا ال�سماعة حتى قام االحتالل ب�إغالقها‬
‫هذه املرة �أي�ضا ً بوا�سطة قذائفه؛ فلقد داهمت قوات االحتالل ال�صهيوين �إحدى‬
‫املباين ال�سكنية التي كانت قيد الإن�شاء مبراحلها النهائية‪ ،‬و�أمطرت تلك البناية بواب ٍل‬
‫من القذائف طالبتني بت�سليم نف�سي‪.‬‬
‫وعندما مل �أ�ستجب لها قامت باقتحام تلك البناية‪ ،‬ولقد �سبق جنودها املقتحمني‬
‫كالب حتمل كامريات مراقبة تنقل لهم ال�صورة‪ ،‬وتنقل يل �أي�ضا ً نف�س تلك ال�صورة‬ ‫ٌ‬
‫فلقد كنت مبرحلة �سابقة قد فككت ال�شفرة امل�ستعلمة ب�إر�سال ال�صور عرب تلك‬
‫الكامريات‪ ،‬ف�أ�صبحت �أرى ما يرونه وعندها قمت بتفجري عبوة نا�سفة �أدت لقتل‬
‫�أحد الكالب و�إ�صابة �أحد اجلنود‪.‬‬
‫�أما �أنا فرغم عمليات البحث والتفتي�ش التي ا�ستمرت ل�ساعات عديدة فلم يجدوين‬
‫لأين يف تلك الأثناء كنت م�شغوالً ب�أكل الربتقال بعد �أن مل يعد لدي تفاح‪ ،‬مل �أكن‬
‫مبدينة نابل�س حيث فجروا ال�سيارة ومل �أكن مبدينة رام اهلل حيث دمروا تلك البناية‪،‬‬
‫باملنا�سبة تلك البناية تعود لأحد عمالء �إ�رسائيل الذين كانوا يتاجرون بالأرا�ضي‬
‫الفل�سطينية ويبيعونها لل�صهاينة ولذلك فلم �أهتم بدمار تلك البناية بل كنت م�رسورا ً‬
‫جدا ً ملا حل بها‪.‬‬
‫كنت هناك جال�سا ً على �إحدى ال�رشفات املطلة على امل�سجد الأق�صى يف القد�س‪،‬‬ ‫ُ‬
‫كنت هناك بقلب املدينة املقد�سة وهنا حمدت اهلل على جناتي وعلى تلك ال�صفعة‬
‫التقنية التي وجهتها لذلك العدو‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫لقد كلفت تلك ال�صفعة التقنية عدة ع�رشات الآالف من الدوالرات‪ ،‬و ِعدة �أيام من‬
‫العمل املتوا�صل من قبل رجال كتائب الق�سام‪� :‬أعز اهلل بهم الإ�سالم و�أعز اهلل بهم‬
‫فل�سطني‪� :‬أم الرجال و�صانعة الرجال‪.‬‬
‫�آه من قلب �أمي و�ألف �آه‪ ،‬دعوات ِك يل يا �أغلى خملوقة بالوجود يا �أمي احلبيبة‪،‬‬
‫دعوات ِك دعواتكِ‪.‬‬
‫«�صفعتها فهل ينق�ض و�ضوئي»‬
‫لقد حدث �أين قمت ب�صفع امر�أة لي�ست من حمارمي كفا ً على خدها فهل ينق�ض‬
‫و�ضوئي جراء تلك ال�صفعة؟‬
‫ال�صحيح �أن الإجابة على هذه الأ�سئلة الدينية مل تكن هي ما ي�شغل بايل لأين‬
‫ال �أذكر �أ�صالً �أين كنت على و�ضوء عندما �صفعتها �أم مل �أكن على و�ضوء فبعد �أن‬
‫�صفعتها تو�ض�أت و�صليت‪.‬‬
‫�إن الذي كان يهمني هو �سبب تلك ال�صفعة‪� ،‬صفعة قوية بل �إنها م�ؤملة جدا ً تلك‬
‫التي نالتها املر�أة مني‪ ،‬تعود جذور تلك احلادثة عندما �أو�صل يل جهاز الر�صد‬
‫الق�سامي عدة طلبات من امر�أة تطالب لقائي لأمر هام‪ .‬ولقد كانت تلح كثريا ً على هذا‬
‫الطلب ولأن الناحية الأمنية كانت ال ت�شكل خطرا ً علي فلقد وافقت على لقائها بعد‬
‫�أ�شهر من تكرار الطلبات‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال�سالم عليكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعليكم ال�سالم ورحمة اهلل وبركاته‪ ،‬خري يا �أختي؟‬
‫قالت‪� :‬أريد �أن �أكون �شهيدة يف �سبيل اهلل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هناك مئات من اال�ست�شهاديني الرجال ينتظرون دورهم للم�شاركة بذلك‬
‫النوع من العمليات‪.‬‬
‫قالت‪� :‬أمل تعمل �أحالم التميمي معك؟‬
‫قلت‪ :‬نعم عملت‪ ،‬ولكني مل �أكن �أعلم �أ�صالً �أنها فتاة �إال بعد �أن اعتقلت‪.‬‬
‫قالت‪� :‬أريد �أن �أكون �شهيد ًة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ملاذا؟ وقبل �أن جتيب �أ�رشت لها ب�أن ت�ضع يدها على امل�صحف ال�رشيف‪.‬‬
‫قالت‪ :‬بعد �صمت طال على �أنها متزوجة منذ �أعوام طويلة و�أنها مل تكن تنجب‬

‫‪104‬‬
‫و�أنها ما �إن حتمل حتى ميوت اجلنني بداخلها‪ ،‬و�أن �أهل زوجها قد �أثقلوا عليها‬
‫وحولوا حياتها جلحيم و�أنه رغم حب زوجها لها �إال �أنه نف�سه مل يعد يقوى على‬
‫ال�صمود بوجه �أهله ولذلك �أريد �أن �أفارق احلياة لأرتاح من همومها‪.‬‬
‫ما �إن رفعت يدها عن امل�صحف حتى كانت يدي حتط على وجهها ك�أنها مطرقة‪،‬‬
‫ف�سقطت على الأر�ض باكية وبكت معها �إحدى الأخوات التي كانت موجودة هناك‬
‫مع زوجها املقاتل الق�سامي‪.‬‬
‫قلت لها‪ :‬اذهبي �إىل بيت ِك وكوين واثقة ب�أن اهلل �سوف يرزق ِك بثالثة �أوالد وثالث‬
‫بنات‪ ،‬اذهبي وتوكلي على اهلل فم�شكلتك حلها ب�سيط عودي �إىل بيت ِك تو�ضئي و�صلي‬
‫وادعي اهلل‪ ،‬اهلل جميب الدعاء‪ ،‬اهلل الذي يجب �أن ال تقنطي من رحمت ِه �أبداً‪.‬‬
‫تركتها ف�أو�صلها املقاوم الق�سامي مع زوجته �إىل منزلها‪ .‬بالطريق كفت عن البكاء‬
‫و�س�ألت زوجة املقاوم‪ ،‬هل قال عبد اهلل الربغوثي ثالث �أوالد وثالث بنات؟ فردت‬
‫عليها‪ :‬نعم‪ ،‬قال ثالثة وثالثة‪.‬‬
‫عاد املقاوم الق�سامي بعد �أن �أو�صل املر�أة‪ ،‬عاد �إيل فوجدين �صامتا ً ورغم �أنه‬
‫�أم�ضى طوال اليوم معي فلم ي�سمع �صوتي �إال و�أنا �أقر�أ القر�آن يف ال�صالة‪.‬‬
‫كان هناك �س�ؤال يحريين �إن فجرت تلك املر�أة نف�سها هل تكون �شهيدة �أم قاتلة‪،‬‬
‫ل�ست‬
‫ُ‬ ‫�شهيدة �أم قاتلة؟ ف�أنا ل�ست بعامل دين وال �أ�ستاذ بعلوم الفقه الإ�سالمي‪.‬‬
‫مفتيا ً وحتى �أين ل�ست �شيخا ً من �أولئك الذين مي�ضون وقتهم بامل�ساجد ودور العلم‬
‫وبح�ضور جل�سات درو�س الدين‪� ،‬أنا «عبد اهلل الربغوثي» م�سلم ال �أكرث وال �أقل‪،‬‬
‫�أ�صلي نعم �أ�صلي و�أ�صوم‪ ،‬و�ألتزم ال�سنة النبوية قدر الإمكان‪ ،‬نعم قدر الإمكان‪.‬‬
‫�أنا جمرد مهند�س ق�سامي‪ ،‬مهند�س فقط ال غري‪ ،‬مهند�س ق�سامي ال يكذب �أي�ضا ً‬
‫يا اهلل لقد قلت لها �أن اهلل �سوف يرزقها بثالثة �أوالد وثالث بنات‪ .‬يا اهلل نحن الآن يف‬
‫�شهر رم�ضان املبارك‪ ،‬ولقد وعدت و�أق�سمت‪� ،‬أعنّي يا اهلل �أعنّي يا اهلل‪.‬‬
‫ما هي �إال �أيا ٌم معدودة حتى كنت �أجهز �أحد اال�ست�شهاديني و�أظنه �أنه كان �أمين‬
‫بحر فقال يل‪ :‬يا �شيخ �أو�صني‪ .‬قل يل ماذا تريد �أن �أقول لنبينا حممد �صلى اهلل عليه‬
‫وادع يل اهلل‬
‫ُ‬ ‫و�سلم �إذا ما ا�ست�شهدت و�صعدت روحي للجنة‪ .‬فقلت له‪� :‬سلم يل عليه‬
‫�أن يي�سرّ يل �أمري‪ ،‬قال‪ :‬هل تريد منى �أن �أت�شفع لك عند اهلل ف�أنا ا�ست�شهادي‪ .‬وهنا‬

‫‪105‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫تذكرت ال�صفعة‪ ،‬تذكرت املر�أة فقلت له‪ :‬ال ت�شفع يل ف�سوف ي�شفع يل �أخوك نبيل‬
‫حلبية �أ َّما �أنت ف�أريد منك �أن ترجو اهلل ع َّز وج َّل �أن يبعد الغم والهم عن �أختي فالنة‬
‫بنت فالن و�أن يرزقها بثالثة �أوالد وثالث بنات‪ ،‬فلقد وعدتها بذلك‪ ،‬وق�ص�صت‬
‫الق�صة على كل من نبيل حلبية و�أ�سامة بحر‪.‬‬
‫ما �إن اجنلى �شهر رم�ضان املبارك وحل العيد ال�صغري‪ ،‬وما �إن جاء العيد الكبري‬
‫بعد نحو �شهرين‪ ،‬حتى و�صلني خرب حمل تلك الأخت وما هي �إال �أ�شهر معدودة‬
‫حتى كانت قد �أجنبت ولدا ً جميالً اتبعته بعد نحو ع�رشة �أ�شهر بولد �آخر �أجمل من‬
‫ال�سابق ثم ولدا ً ثالثاً‪ ،‬ا�سمته عبد اهلل‪.‬‬
‫تلك الأ�سئلة الفقهية كانت دائما ً تزعجني ولكن احلمد هلل �أنه كان حويل من الأخوة‬
‫من هم �أكرث مني علما ً ومعرف ًة ب�أمور الدين‪� ،‬أعلم �أنه من يقتل يف �سبيل اهلل وهلل وحده‬
‫ف�إن م�صريه اجلنة واملغفرة‪ ،‬و�أن من قتل حلاجة من حاجات الدنيا الزائلة ف�إن‬
‫م�صريه العذاب الأليم ونار جهنم‪� ،‬أعلم ذلك‪ ،‬ولكني �أعلم �أين ل�ست بعامل دين ف�أنا‬
‫جمرد مهند�س على الطريق‪.‬‬

‫مهند�س ال �أكرث وال �أقل‬


‫ٍ‬ ‫جمرد‬
‫باهلل عليكم ال حتملوين �أوزاركم‪ ،‬باهلل عليكم‪ ،‬هذه املرة كاد �أن يقتل لوال �سرت اهلل‬
‫ولوال لطفه بي وبكتائب الق�سام‪ .‬و�صل يل ا�ست�شهادي كان قد �أعده الأخوة ليذهب‬
‫�إىل �إحدى العمليات اال�ست�شهادية‪ ،‬ا�ست�شهادي هكذا �أراد هو لكني مل �أرد‪ ،‬ومل �أ�سمح‬
‫له بذلك رغم �أنفه‪.‬‬
‫هناك بكوريا اجلنوبية قبل درا�ستي للهند�سة در�ست م�ساقات الأدب الكوري‪.‬‬
‫وكان �أحد تلك امل�ساقات هو قراءة الوجوه وتف�سري تعابريها‪ ،‬هناك يف كوريا الوجوه‬
‫�أكرث �إخفا ًء ملا بداخل القلوب‪� ،‬أما هنا يف فل�سطني ف�إن الوجوه مر�آة للقلوب‪ ،‬والعقول‪،‬‬
‫جاءين بعد �إجراءات �أمنية �أُعدت �سلفا ً ال�ستقباله و�إعداده للعملية اال�ست�شهادية‪،‬‬
‫فقمت بت�صويره و�إلبا�سه احلزام النا�سف و�إعداد املالب�س املنا�سبة للموقع امل�ستهدف‪.‬‬
‫مل �أكلمه ومل �أ�س�أله �أي �س�ؤال‪ ،‬طوال تلك الفرتة‪ ،‬لكن عندما و�صل �إىل الباب �صافحته‬
‫و�شددت على يده وقلت ملاذا تريد �أن تفجر نف�سك؟ ملاذا تريد �أن تكون �شهيداً؟‬

‫‪106‬‬
‫�صمت وطال �صمته فقمت بالإطاحة به �أر�ضا ً وقمت بتكبيله وفك احلزام النا�سف‬
‫عن ج�سده وطلبت من �أخوتي املرافقني يل �سيد احلاج قا�سم و�أبي �أحمد اخلطيب �أن‬
‫ينقلوه للأخوة يف وحدة �أمن الق�سام‪.‬‬
‫مل ي�س�ألني الأخوة عن �سبب ما فعلته‪ ،‬فلم تكن تلك عاد ًة لهم فهم ق�ساميون‬
‫�صامتون وهو يعلمون �أن الأمر خطري بل �أ�شد من اخلطري‪ ،‬فلذلك �سارعوا ب�إي�صاله‬
‫مكبالً مغطى العينني والفم �إىل الأخوة بوحدة الأمن الق�سامي يف ال�ضفة الغربية‬
‫والقد�س ال�رشيف‪ ،‬ما �إن عادا �إيل م�رسعني حتى �أعطيتهما عنوان نقطة معينة‪،‬فذهبا‬
‫�إليها و�أح�رضا �أخا ً ا�ست�شهاديا ً كان ينتظر يف تلك النقطة‪ ،‬فقمت ب�إعداده وجتهيزه‬
‫وذهب بعد ذلك �إىل حال �سبيله‪� ،‬إىل لقاء ربه بعد �أن و�صل ونفذ عمليته اال�ست�شهادية‪.‬‬
‫بعد ذلك ان�شغلت عدة �أيام ملتابعة �أعمالٍ جهادية مبدينة �أخرى فما �إن عدت للمدينة‬
‫التي كانت �ساحة تلك احلادثة حتى ذكرين الأخوة بذلك ال�شاب‪ ،‬فذهبت لر�ؤيته‬
‫فوجدت �شابا ً قد �أنهك من التحقيق ب�شكل كامل‪.‬‬
‫فقلت ل�سيد ال�شيخ قا�سم �أنا مل �أطلب التحقيق معه �أنا طلبت �أن يو�ضع هناك لدى‬
‫�أمن الق�سام فقط ال غري‪ .‬وهنا �أقول �أن التحقيق معه كان قا�سيا ً جدا ً �أو�صله ل�شفري‬
‫�شاب ومل �أجد تف�سريا ً ملا‬
‫ٍ‬ ‫املوت بكل ما حتمله الكلمة من معنى‪ .‬فلقد وجدت �شبه‬
‫حدث �سوى �سوء تن�سيق كنت �أنا امل�س�ؤول عنه‪ ،‬ولي�س �سيد ال�شيخ قا�سم �أو الأخوة‬
‫ب�أمن الق�سام؛ فلقد ظنوا �أن هناك داعيا ً �أمنيا ً ملا حدث وخا�صة بعد �أن �شاهد �سيد‬
‫أطحت به‬‫ُ‬ ‫ال�شيخ و�أبو �أحمد كيف قمت �أنا بالت�رصف مع ذلك ال�شاب عندما قمت و�‬
‫�أر�ضا ً وكبلته‪ ،‬ونزعت من عليه احلزام النا�سف‪ .‬طلبت منهم �أن يهتموا به‪ ،‬و�أن‬
‫يعيدوا له �صحته التي كان قد فقد منها الكثري‪.‬‬
‫عدت �إليه بعد يوم واحد‪ ،‬و�س�ألته ملاذا تريد تفجري نف�سك؟ قال‪� :‬أنا ل�ست عميالً‬
‫�أق�سم باهلل العظيم‪.‬‬
‫قلت‪� :‬أعلم ذلك علم اليقني ولكن ما ال �أعلمه هو �سبب �إقدامك على �أن تكون‬
‫ا�ست�شهادياً‪ ،‬قل يل واذهب بحالك‪.‬‬
‫قال‪� :‬أنا والدي كان عميالً باالنتفا�ضة الأوىل‪ ،‬قلت‪� :‬أعلم ولكن والدك قد تاب وحج‬
‫بيت اهلل وقد تويف �إىل رحمة اهلل منذ �أعوام‪ .‬قال‪ :‬رغم ذلك ف�إن �سمعته ال�سيئة ما زالت‬

‫‪107‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫متت خطبتها‬ ‫تالحقنا‪ ،‬قلت‪ :‬كيف؟ قال‪ :‬لقد انهت �أختي الدرا�سة اجلامعية‪ ،‬ولقد َّ‬
‫لأحد زمالئها يف اجلامعة ولكن قبل موعد الزواج ف�سخ ذلك ال�شاب خطبته وف�سخ‬
‫عقد الزواج و�سافر خارج فل�سطني �إىل الأردن‪ .‬ولأين �أكرب �أخوتي قررت اللحاق به‬
‫و�س�ؤاله عن �سبب ما قام به‪ ،‬فقال يل �أنه قام مبا فعله لأن �أهل القرية كانوا يلومونه‬
‫على خطبته من ابنة والدي‪ ،‬والدي الذي كان ‪ -‬رغم توبته وحجه وموته‪ -‬ما يزال‬
‫عميالً بنظر �أهل القرية‪ ،‬ولذلك �أريد �أن ان ِّفذ عملية ا�ست�شهادية حتى يقال �أن عائلتي‬
‫هي عائلة ال�شهيد‪ ،‬اال�ست�شهادي املقاوم البطل‪ ،‬اعلم يا �أخي �أن والدي قد �أجنب �ست‬
‫بنات من �أمي وابنتني من زوجته الأخرى‪ ،‬فكيف �أ�ستطيع �صيانة عر�ضي و�صيانة‬
‫عر�ض �أخواتي �إن مل �أقم مبا �أردت القيام به!‬
‫قلت‪� :‬أال تعلم �أن اهلل ع َّز وج َّل ي�س�أل كل من يقتل عن �سبب قتله‪ ،‬و�أن اهلل يعترب من‬
‫قتل ليقال عنه �أنه بطل‪ ،‬فهو قتيل ال �شهيد‪ ،‬و�أن م�صريه جهنم وبئ�س امل�صري‪.‬‬
‫قال‪� :‬أعلم واهلل �أين �أعلم‪ ،‬ولكن اهلل غفور رحيم‪ .‬اعتذرت منه عما حلق به من‬
‫جراء التحقيق معه‪ ،‬واعتذرت منه لعدم موافقتي على �أن يكون ا�ست�شهادياً‪ .‬ودعته‪،‬‬
‫و�أو�صله الأخوة اىل حيث كان يريد‪� :‬إىل قريته‪.‬‬
‫م�ضت عدة �أيا ٍم مل تطل عن �أ�سبوع قام خاللها ذلك ال�شاب ب�رشاء م�سد�س وانطلق‬
‫لإحدى املدن ال�صهيونية بعد �أن ترك و�صية يقول بها �أنه يق�صد وجه اهلل بعمله هذا‪،‬‬
‫ف�أطلق النار و�أ�صاب عددا ً من ال�صهاينة وقتل‪ ،‬قتل �أم ا�ست�شهد ال �أعلم ولن �أعلم �أبدا ً‬
‫فال يعلم ما يف القلوب �سوى رب القلوب‪.‬‬
‫�أما �أنا فمجرد مهند�س ال �أكرث وال �أقل‪ .‬عندما كنت �أنظر �إليه �أثناء ت�سجيل‬
‫�رشيط الفيديو عندما كان يقر�أ و�صيته التي كتبها هو بنف�سه‪ ،‬ف�إنه مل يذكر عددا ً‬
‫من الكلمات التي كنت �أ�سمعها ممن �سبقوه ليكونوا ا�ست�شهاديني‪ ،‬فهو مل يقل‬
‫بكلمة ب�إذن اهلل‪ ،‬وال كلمة بعون اهلل‪ ،‬وال حتى كلمة �إن �شاء اهلل‪ ،‬مل يقل ب�سم اهلل‬
‫وعليه �أتوكل‪� ،‬أو �أنا ال�شهيد احلي ب�إذن اهلل فالن‪ ،‬قال �أنا فالن ابن فالن ابن فالن‪،‬‬
‫�أما وجهه فلم �أ َر به نورا ً �أو هال ًة بل ر�أيت غ�ضبا ً وحزناً‪ .‬حزنا ً ؟! كيف يحزن وهو‬
‫ذاهب عند رب العباد؟ غ�ضبا ً ؟! وكيف يغ�ضب وهو من طلب �أن ينفذ تلك العملية‬
‫و�أ�رص على تنفيذها‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫الآخرون اال�ست�شهاديون كانوا كلهم �سعداء فرحني متعجلني للقاء اهلل‪ ،‬بل‬
‫�إين �أق�سم باهلل العظيم �أنا بداخل زنزانة العزل االنفرادي اخلا�ص �أن بع�ض �أولئك‬
‫اال�ست�شهاديني كان هو من ي�شد احلزام النا�سف حول نف�سه‪،‬وكان يطالب بكمية‬
‫�أكرب من املواد النا�سفة‪ ،‬بل �إن كثريا ً من اال�ست�شهاديني قال ‪ -‬واهلل ي�شهد على ذلك ‪-‬‬
‫عدد من �سوف يقتلهم‪ ،‬وي�صيبهم‪ ،‬ولقد �صدقوا كلهم دون ا�ستثناء‪.‬‬
‫�أحمد اهلل على �أين مل �أر�سله و�أحمد اهلل على �أنه مل ميت �أثناء التحقيق معه عند‬
‫الأخوة‪ ،‬قلت �أنا جمرد مهند�س ال �أكرث وال �أقل‪ ،‬ف�أعني يا اهلل على �أن ال �أخط�أ وال �أزل‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫ال�شهيد «جمد الربغوثي»‬

‫�أظن �أن ِك يا ابنتي اجلميلة ويا مالكي احلار�س‪ ،‬قد الحظتِ مدى‬
‫كرهي و�سخطي على من ي�سمون �أجهزة الأمن الفل�سطينية‪،‬‬
‫مثل جهاز الأمن الوقائي وجهاز املخابرات العامة‪ ،‬هذا‬
‫ال�سخط والكره مرده عدة �أ�سباب‪:‬‬
‫�أوله ذلك الف�ساد املايل والنهب الذي مار�سه قادة تلك‬
‫الأجهزة الأمنية والذين كانوا جمرد �أنا�س عاديني‪ ،‬و�أقل من عاديني ف�أ�صبحوا بعد‬
‫توليهم لقيادة تلك الأجهزة �أ�صحاب �أموال وعقارات يف كل مكان‪ :‬من دبي مرورا ً‬
‫بعمان و�صوالً �إىل ما وراء البحار‪ ،‬وب�سبب ف�سادهم املايل �أ�صبحوا �ألعوب ًة بيد من‬
‫يدفع لهم �أكرث �سواء من كان يدفع من ال�صهاينة �أم من الأمريكان �أم الربيطانيني‬
‫�أ�صحاب وعد بلفور امل�ش�ؤوم‪.‬‬
‫عندما �شكلت جهاز الر�صد الق�سامي بال�ضفة ملعرفة ما يدور يف تلك الأجهزة بعد‬
‫اعتقايل لدى �إحداها مبطلع االنتفا�ضة‪ ،‬فلقد علمت من خالل ذلك اجلهاز الق�سامي‬
‫الرا�صد العجب العجاب من �أولئك القادة وحمافظي املدن مثل حمافظ مدينة رام اهلل‬
‫من كانوا يديرون بيوتا ً للدعارة‪ ،‬ويديرون ع�صابة لالجتار باملخدرات وال�سيارات‬
‫امل�رسوقة‪ ،‬بل �إن قادة تلك الأجهزة الأمنية كانوا يبتزون العمالء الذين كانوا يعملون‬
‫يف جهاز ال�شاباك ال�صهيوين‪ ،‬ويجربونهم على دفع مبال َغ مالية جراء التغا�ضي ع َّما‬
‫كانوا يفعلونه �ضد �أبناء فل�سطني من جت�س�س عليهم و�أعمال �ضدهم‪ ،‬بل �إن هناك‬
‫من قادة الأجهزة الأمنية الفا�سدة من كان يقوم ب�إ�سقاط بع�ض ال�شبان الفل�سطينيني‬
‫الوطنيني عن طريق بنات الهوى‪ ،‬ه�ؤالء البنات اللواتي كن يعملن �ضمن �إطار هذه‬
‫الأجهزة الأمنية‪ ،‬ومل يكن عملهن �سوى ا�ستدراج ال�شبان للوقوع بالرذيلة ثم‬
‫ابتزازهم و�إ�سقاطهم يف �شباك العمالة ل�صالح تلك الأجهزة ول�صالح ال�صهاينة فيما‬

‫‪110‬‬
‫بعد‪� .‬أما �أكرث ما كان ي�ؤمل فيما اكت�شفناه عن تلك الأجهزة القذرة هو ا�ستعمالهم‬
‫لأ�شد و�أق�سى �أ�ساليب التعذيب �ضد �أبناء املقاومة‪ ،‬و�أقاربهم‪ .‬ورغم �أين قد �أُ�رست‬
‫و�أ�صبحت يف داخل زنزانتي بعيدا ً عن �ساحات و�شوارع ال�ضفة والقد�س‪� ،‬إال �أن‬
‫املعلومات وبحمد اهلل ما زالت ت�صل يل كلما �أمكن‪ ،‬من رجال الظل الق�سامي‪.‬‬
‫لقد و�صلني يا ابنتي احلبيبة كيف قامت تلك الأجهزة الأمنية احلقرية بتعذيب‬
‫ع ٍم لك وهو جمد الربغوثي بداخل جهاز املخابرات العامة تعذيبا ً جنونيا ً حيوانيا ً ال‬
‫�إن�سانياً‪ ،‬ا�ستمر ذلك التعذيب لأيام و�أ�سابيع طويلة‪.‬‬
‫كنت �أنا يف داخل زنزانتي �أغلي قلقا ً عما كان يجري ملجد الربغوثي هناك بزنازين‬
‫حتقيق املخابرات‪ ،‬تلك الزنازين التي كانت يف داخل مقر جهاز املخابرات العامة‬
‫الذي ال يبعد �سوى �أمتار قليلة جدا ً عن مقر ذلك احلقري العبثي حممود عبا�س‪.‬‬
‫كان التحقيق يجري ب�إيعاز منه �شخ�صيا ً من �أجل الق�ضاء على ما تبقى من رجال‬
‫حركة املقاومة الإ�سالمية حما�س يف ال�ضفة الغربية والقد�س املحتلة‪ ،‬ولي�س بعيدا ً‬
‫عن تلك الزنازين كان خال ِك جمد الربغوثي يتعر�ض لأ�شد �صنوف العذاب على يد‬
‫جهاز الأمن الوقائي مبدينة رام اهلل وكان حوله الكثري من �أبناء عائلتي و�أبناء حركة‬
‫املقاومة الإ�سالمية حما�س ممن يعذبون‪ ،‬لي�س ل�سبب‪� ،‬سوى �أنهم مقاومون‪� ،‬أو‬
‫منا�رصون لنهج املقاومة‪.‬‬
‫مرت الأ�سابيع‪ ،‬ف�صعدت روح عم ِك ال�شهيد جمد الربغوثي ابن قرية كوبر‪ ،‬جمد‬
‫الربغوثي امل�ؤذن مب�سجد تلك القرية الربغوثية املقاومة‪ ،‬ا�ست�شهد تاركا ً عددا ً من‬
‫�أطفاله بال �أب‪ ،‬وتاركا ً القرية وم�سجدها بال م�ؤذن‪.‬‬
‫حزنت القرية وت�أمل وبكى �أطفاله على فراقه وبكى الرجال‪ ،‬الرجال عندما‬
‫�شاهدوا جثمانه الطاهر قد امتلأ بعالمات التعذيب بال�سياط‪ ،‬وعذاب الكهرباء‬
‫�صعقاً‪ ،‬فا�ست�شهد‪ .‬بعد �أ�شهر طويلة على ا�ست�شهاد ال�شهيد جمد الربغوثي‪� ،‬أطلق‬
‫�رساح خالك عبد اهلل الربغوثي من زنزانة التحقيق عند جهاز الأمن الوقائي‪� ،‬أطلق‬
‫�رساحه بعد �أن �شارف على املوت �شهيدا ً حتت �سياط التعذيب‪ ،‬لكن اهلل قدر له النجاة‪،‬‬
‫وقدر اخلزي والعار لرجال �سلطة الف�ساد والإف�ساد �سلطة ذلك العبثي ول�صو�صه‬
‫حممد دحالن وجربيل الرجوب وتوفيق الطرياوي‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫وهنا يا ابنتي اجلميلة ويا مالكي احلار�س ا�سمحي يل �أن �أذكر بع�ض الأبيات‬
‫والكلمات املت�شابكة لعلي �أنف�س قليالً ما بداخل �صدري من �أمل وحرقة على ما �آلت‬
‫�إليه �أمور فل�سطني يف ظل حكم �أولئك الطغاة‪.‬‬

‫«م�ساجد الدار»‬

‫�أ�صبحت رمادا ً ف�أين الثوار‬ ‫قر�آن ربي و�سنة النبي املختار‬


‫و�سلطة العهر ترى وتتمخرت‬ ‫م�ستوطن حمتل طغى وجترب‬
‫و�أ�شباه رجالٍ ت�شرتى بالدوالر‬ ‫كالب العدا بقرانا تدور‬
‫باعوا الوطن والدين والثوار‬ ‫�أماتوا اجلهاد ودمروا امل�شوار‬
‫حتولوا ل�سجانني جالدين و�أحقر‬ ‫تعاهدوا مع املحتل بل �أكرث‬
‫ف�إن فل�سطني براء من �أولئك الأ�رشار‬ ‫يقتلون �أبناء جلدتهم فاحذر‬
‫عمالء احتالل بال م�شاعر‬ ‫فهم زرع �شيطان بقلب الدار‬
‫فالو�ضع بات �أخطر من اخلطري‬ ‫�شل عقلي و�أ�صبح بال تفكري‬
‫�إن عملهم بيدهم مل يتغري‬ ‫فاهلل ملا بالقوم ال يغري‬
‫على املحتل وعلى عميله الأحقر‬ ‫قم يا م�ؤذن كرب و�أعلن اال�ستنفار‬
‫�أمل يبنوا و ُيعلوا اجلدار‬ ‫�أمل يحرق جمنونهم املنرب‬
‫�أال يكفينا �صربا ً وانتظار‬ ‫و�أحاطونا ب�أ�سو�أ ح�صار‬
‫�أل�سنا عباد رب الأبرار‬ ‫�أل�سنا عباد الواحد القهار‬
‫قل يل بربك باخت�صار‬ ‫�أم �أ�صبحنا خرافا ً تنحر‬
‫�أين رجال فل�سطني االنت�صار‬ ‫�أين املجاهدين �أين االحرار‬
‫�أم �أ�صبحوا ن�سيا ً ب�أقبية الأ�رس‬ ‫هل �أ�صبحوا �شهداء يف القبور‬

‫�أعلم �أن ال�شم�س �سوف ت�رشق‪ ،‬و�أعلم �أن ظلم عبا�س ومن معه لن يدوم و�أن‬
‫م�صريهم لن يكون �سوى مزابل التاريخ و�أعلم �أي�ضا ً �أنه لي�س بعد القدو�س �إال‬
‫القد�س‪ ،‬والق�سام‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫مريانا‪� ،‬أ ْم �صفاء‬
‫بعد �أعوام على مطاردتي مع زوجتي وابنتي تاال وابني �أ�سامة قدر اهلل �أن حتمل‬
‫زوجتي يف تلك الظروف ال�صعبة‪ ،‬ففي بداية االنتفا�ضة كنت �أملك املال‪ ،‬بل �أمتلك‬
‫الكثري والكثري من املال‪ ،‬ولكن بعد اعتقايل لدى �أجهزة �أمن ال�سلطة ونهب تلك‬
‫الأموال‪ ،‬ا�ضطررت لبيع ما ميكن بيعه من ذهب و�سحب ما كانت متلك زوجتي من‬
‫مال‪ ،‬لكن االنتفا�ضة واملقاومة �أكرب بكثري من �أن ي�ستطيع رجل واحد تلبية ولو جزء‬
‫ب�سيط من احتياجاتها‪.‬‬
‫فلقد و�صل �سعر الر�صا�صة الواحدة ملبلغ ثالث دوالرات‪ ،‬نعم ثالث دوالرات‪،‬‬
‫و�صوالً خلم�س دوالرات ح�سب نوع الر�صا�صة وال�سالح لإطالقها‪ ،‬ولذلك بح�سبة‬
‫ب�سيطة جدا ً ف�إن �أي جولة تخو�ض بها �أ�شتباكا ً م�سلحاً‪ ،‬كنا نطلق عدة مئات من‬
‫الر�صا�صات وهذا يعني �آالف من الدوالرات بكل جولة ا�شتباك م�سلح‪.‬‬
‫عدا عن �رشاء الأ�سلحة التي �أ�صبحت نادرة و�أ�صبحت �أ�سعارها جنونية‪ ،‬فال�ضفة‬
‫الغربية حما�رصة وال جمال ل�رشاء الأ�سلحة بها �سوى من داخل �أرا�ضي فل�سطني‬
‫املحتلة عام ‪ 1948‬من جتار ال�سالح ورجال املافيات‪ .‬ومع تقدم �أعوام االنتفا�ضة‬
‫العام تلو العام كانت الأ�سعار تتقدم وترتفع‪ ،‬ولذلك �أ�صبح �أبو علي ال�سلوادي هو‬
‫من ميول كل تلك النفقات و�أكرث من ذلك فلقد كان ميول كل ما حتتاجه كتائب الق�سام‬
‫ومي ِّول احتياجات �أ�رس مقاتلي الق�سام املطاردين‪.‬‬
‫خالل تلك الفرتة �شهدت املقاومة حالة من اال�ستقرار املادي ومن القوة الكبرية‬
‫جدا ً من خالل �رشاء كل ما حتتاجه من �سالح وعتاد و�سيارات‪ ،‬ومن ا�ستئجار‬
‫م�ساكن ومواد لل�صناعات الع�سكرية‪ ،‬لكن بعد تلك الفرتة من اال�ستقرار املادي قامت‬
‫قوات االحتالل ب�شن حمالتها واقتحاماتها �ضد البنوك وامل�صارف املالية‪ ،‬و�ضد‬
‫حماوالت ال�رصافة وتبديل العملة‪ ،‬واعتقلت كل من ي�شتبه به ب�أنه من ممويل املقاومة‬
‫الفل�سطينية‪ ،‬وا�ستولت على املاليني من الأموال‪ ،‬مما �أدى �إىل وقوعنا ب�ضائقة مالية‬
‫�أكرب بكثري من ال�سابقة‪ ،‬وخا�صة �أننا كنا قد تو�سعنا كثريا ً بعملنا ولقد كان هناك‬
‫التزامات مالية مثل �أجور املنازل امل�ست�أجرة‪ ،‬وم�رصوف املطاردين‪ ،‬وم�رصوف‬
‫عائالتهم املطاردة معهم‪ .‬يف تلك الظروف قدر اهلل يا ابنتي �أن تولد �أختكِ؛ فب�سبب‬

‫‪113‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫االعتقاالت الكبرية �أ�صبحت حركتي �صعبة جدا ً و�أ�صبحت حركة م�ساعدينا �أ�صعب‬
‫و�أ�صعب‪ ،‬فلقد �أ�صبح �سيد ال�شيخ قا�سم و�أبو �أحمد اخلطيب مطلوبني �أي�ضا ً لقوات‬
‫العدو‪ ،‬و�أ�صبحت حركة �أبي علي ال�سلوادي م�ستحيلة يف ظل تلك الظروف‪.‬‬
‫وقدر اهلل �أن تت�ساقط الثلوج ب�شكل كبري مما �أدى �إىل �إغالق �شوارع مدينة رام اهلل‬
‫لعدة �أيام‪ ،‬مما �أتاح لعدد من رجال اجلبهة ال�شعبية لتحرير فل�سطني من الفرار من‬
‫�أحد املعتقالت املجاورة ملدينة رام اهلل وهو معتقل عوفر‪ ،‬ففر�ضت قوات االحتالل‬
‫منعا ً للتجول على املدينة‪ ،‬و�أ�صبحت املجنزرات تلك القوات تتجول ب�شوارع املدينة‬
‫بني الثلوج التي كانت تك�سو تلك ال�شوارع‪ .‬ويف م�ساء يوم اجلمعة يوم ‪2003/1/31‬‬
‫توجب نقل والدت ِك للم�ست�شفى‪ ،‬مل يكن بذلك اليوم وبتلك الليلة‪ ،‬ويف الظروف التي‬
‫قد ذكرتها‪� ،‬سوى �أنا و�أ ّم ِك و�أنت يا تاال و�أخي ِك الر�ضيع �أ�سامة‪.‬‬
‫كنت قد �أعددت خطة لإدارة عملية والدة �أخت ِك ال�صغرية‪ ،‬لكن الظروف امليدانية‬
‫منعت تلك اخلطة من �أن ترى النور‪ ،‬لكن اهلل ع َّز وج َّل كان دوما ً مع رجال فل�سطني‬
‫املقاومة‪ ،‬فل�سطني �أر�ض الرباط واملرابطني‪ ،‬وهنا طلبت منك �أن ترعي �أخي ِك الر�ضيع‪،‬‬
‫ورغم �أن عمركِ يف تلك الأيام مل يكن قد جتاوز الثالثة �أعوام ون�صف �إال �أنك قمتِ‬
‫برعايته ورعاية نف�س ِك جيداً‪.‬‬
‫تركت املنزل �أنا ووالدت ِك حماولني التوجه بال�سيارة �إىل �أحد امل�شايف املجاورة وهو‬
‫م�شفى الهالل الأحمر مبدينة البرية‪ ،‬لكن ال�سيارة مل تتمكن من ال�سري ب�شوارع‬
‫املدينة التي كانت قد �أقفلت ب�سبب الثلوج‪ .‬ولأن جنود االحتالل كانوا ال يتنقلون �إال‬
‫بوا�سطة جمنزرات فلقد ا�ستطعت �أن �أميز ال�شوارع التي �سلكتها تلك املجنزرات يف‬
‫�إطار فر�ضها ملنع التجوال وبحثها عن الفارين من رجال اجلبهة ال�شعبية الأبطال من‬
‫معتقل عوفر‪ ،‬ولأن معتقل عوفر ومدينة رام اهلل ومدينة البرية متال�صقة ب�شكل كبري‪،‬‬
‫ف�إن امل�ساحة التي كانت متاحة للفرار‪ ،‬كبرية جدا ً مما �أدى لنجاح تلك العملية املميزة‪.‬‬
‫�سريا ً على الأقدام فوق الثلوج اجتازت زوجتي الطرقات و�صوالً �إىل امل�شفى هناك‬
‫و�ضعت ابنتي «مريانا»‪� ،‬أق�صد «�صفاء»‪ .‬فلقد قمت بت�سجيل املولودة من خالل عقد‬
‫زواج مزور وبطاقات للهوية مزورة �أي�ضاً‪ ،‬تفاديا ً لت�رسيب اخلرب للعدو ال�صهيوين‬
‫من جهة ولقوات الأمن الفل�سطيني من جهة �أخرى‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫بعد �أن و�ضعت �أمك املولودة‪ ،‬عدت �أدراجي لأطمئن على �أطفايل هناك وبقيت عدة‬
‫�ساعات �أتنقل بني امل�شفى واملنزل‪ ،‬حتى طلع ال�صباح وبد�أت جرافات بلدية البرية‬
‫حتاول فتح الطرقات بعد ان�سحاب جمنزرات العدو‪ .‬وهكذا �أح�رضت �سيارتي لنقل‬
‫زوجتي من امل�شفى للبيت مبجرد �أن فتحت الطرقات �صباحاً‪ .‬يف تلك الليلة مل يكن‬
‫يف امل�شفى �إال عدد قليل جدا ً يعد على �أ�صابع اليد الواحدة مما جعل الأمور بداخل‬
‫امل�ست�شفى ت�سري بدون م�شاكل ووالدت ِك رغم �أملها‪ ،‬فقد �ساعدها ربنا و�سهل �أمور‬
‫والدتها بحمد اهلل‪.‬‬
‫باملنا�سبة يا ابنتي فلقد كان ا�سم �صفاء يف تلك الأوراق مريانا ومل تكن‬
‫م�سلمة بل كانت ن�رصانية من بيت حلم‪ .‬فلقد كانت تلك �إحدى الهويات التي‬
‫ت�سرتت بها بتلك الفرتة من املطاردة فلقد كنت ن�رصانيا ً وكذلك زوجتي و�أنتِ يا‬
‫تاال و�أخوكِ �أ�سامة مل يكن طبعا ً �أ�سم ِك تاال وال ا�سم �أخيك �أ�سامة بل كنتِ �سارة‬
‫وكان �أخوكِ �إليا�س‪.‬‬
‫بعد اعتقايل بقرابة العام تذكرت �أن �أخت ِك مل تكن متلك �شهادة ميالد با�سمها‬
‫وا�سمي وا�سم والدتها احلقيقيني‪ ،‬فكلفت املحامية بثينة وقامت مديرة جمعية‬
‫مانديال املخت�صة ب�ش�ؤون الأ�رسى باحل�صول على بطاقة �شهادة ميالد ملريانا‬
‫لت�صبح �صفاء‪� ،‬صفاء عبد اهلل الربغوثي‪.‬‬
‫عندما اعتقلت مل يكن �أحد بالدنيا يعلم �أ ّنه قد �أ�صبح لدي ثالثة �أطفال‪ ،‬حزنت‬
‫والدتي على اعتقايل ولكن �رسعان ما فرحت عندما علمت باملولودة اجلديدة التي‬
‫كانت حتمل ا�سمها‪ :‬ا�سم والدتي ففرحت �أمي �صفاء الربغوثي لأجل والدة �صفاء‬
‫عبد اهلل الربغوثي‪.‬‬
‫زوجتي التي كانت ع�ضدا ً و�سندا ً يل طوال فرتة مطاردتي مل تكن يوما ً عبئا ً علي‬
‫بل كانت دافعا ً يل لأ�ستمر مبقاومتي ب�سبب �صربها و�إميانها مبا �أقوم به‪ .‬فبعد‬
‫�أن كانت تعي�ش حياة مل�ؤها الرغد وبحبوحة احلال �أ�صبحت تعي�ش مطارد ًة بال‬
‫بيت ثابت وال مكان هانئ‪ ،‬فلقد كنا ننتقل خالل تلك الأعوام من مدينة �إىل �أخرى‬
‫ومن بيت �إىل �آخر حتى �أين ال �أكاد �أذكر عدد تلك البيوت والأماكن‪ ،‬عندما ولدت تاال‬
‫ارتدت �أكرث من مائة ف�ستان ب�أول مائة يوم لها بهذه الدنيا وارتدت احللي الذهبية‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫�أما �صفاء فلم ترتدي �سوى ف�ستانني اثنني فقط ال غري ب�سب �ضيق احلالة املادية‪،‬‬
‫وبدل �أن ترتدي احللي الذهبية‪ ،‬ارتدت قطعة �أ�سواره بال�ستيكية من امل�شفى كتب‬
‫عليها مريانا بنت �أنطوان‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫زراعة العقيدة‪�« ،‬سيد ال�شيخ قا�سم»‬

‫زراعة العقيدة �صعب جداً‪ ،‬لكن اقتالع تلك العقيدة بعد �أن زرعت �أ�صعب �ألف مرة‪،‬‬
‫بل يكاد �أن يكون م�ستحيالً‪ ،‬وهنا �أقول �أن عقيدة �أبناء الق�سام زرعت بالفطرة الطبيعية‬
‫التي كانت بو�صلتها الإ�سالم والعزة‪ ،‬فلم �أ�شاهد ق�ساميا ً واحدا ً طوال عملي اجلهادي‬
‫ال يقدم نف�سه لل�شهادة ويتقدم لل�صفوف مثل �أولئك الق�ساميني‪ .‬طوال �سنوات عمل‬
‫هذا املقاوم معي كان مبثابة الدرع احلامي يل‪ ،‬فلقد كان يحر�ص على �أمني ويتبع كل‬
‫الأمور التي قد �أ�سهو عنها‪ .‬كنت حممالً ب�أمور عديدة متنوعة مت�شعبة من متابعة �أمور‬
‫املقاومة وعملياتها‪� ،‬إىل التحديث على و�سائل تلك اخلاليا املقاومة و�صوالً للأمور‬
‫التقنية عرب �أجهزة احلا�سوب التي كنت �أبحر بها ‪ -‬قر�صانا ً يف ال�شبكة العنكبوتية ‪-‬‬
‫لعلي �أجد ما ينفع املقاومة‪ ،‬وبقد ٍر من معلومات ي�سهل اخرتاقها و�أرى ما بداخلها‪.‬‬
‫�أما �سيد فلقد كان ي�شاهد كل ذلك ب�صمت دون �أن ي�س�أل �أي �س�ؤال فلم �أكن �أدرك‬
‫�أن بني يدي معدنا ً نفي�سا ً ال يقدر بثمن‪ .‬كان �سيد القا�سم يعمل يف جمال تركيب‬
‫متديدات املاء للمنازل‪ ،‬ومل يكن له �أي عالقة بتلك الأمور االلكرتونية والكهربائية‬
‫التي كنت م�شغوالً بها طوال وقت تواجدي‪ ،‬خ�صو�صا ً يف حالة عدم وجود عم ٍل‬
‫ع�سكري �أقوم به‪.‬‬
‫حدثَ �أن احتجت لإحدى العمليات؛ عدة ع�رشات من العبوات النا�سفة فطلبت‬
‫من �سيد �أن يفعل مثلما �أفعل مل يرتدد بل بد�أ على الفور ي�ؤدي ذلك العمل ب�صورة‬
‫مذهلة‪ ،‬ف�أوقفته عن العمل و�س�ألته كيف تقوم بتلك الأمور من حلام وو�صل للقطع‬
‫وجتمي ٍع لها‪ ،‬كيف؟ قال‪ :‬لقد كنت بجوارك طوال ع�رشات جل�سات التدريب التي‬
‫كنت تدرب بها املهند�سني والفنيني على تلك الأمور‪ ،‬وكنت �أراقب و�أ�شاهد و�أقر�أ ما‬
‫كنت قد كتبته يف كرا�سات تلك الدورات و�أ�شاهد الر�سوم الهند�سية وهكذا حفظت‬
‫الكثري منها وكنت �أن�شغل بر�سمها ب�شكل تف�صيلي‪ ،‬لأين كما تعلم كنت ال�شخ�ص‬

‫‪117‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫الوحيد الذي كان ي�سمح له بالتجول بحرية مطلقة معك ومع املتدربني‪ ،‬ولقد كنت‬
‫يف بع�ض الأحيان بعد �أن �أنتهي من التدريب �أقوم ب�إعادة الأدوات التي تدرب عليها‬
‫املهند�سون �إىل �أماكنها وهكذا تعلمت‪.‬‬
‫يف تلك اللحظة وعندما �سمعت ما قاله توقفت عن �صناعة ما كان بني يدي من‬
‫عبوة نا�سفة‪ ،‬وبد�أت ب�إعطائه دوره مكثفة ا�ستمرت عدة �أيا ٍم وليالٍ متكنت خاللها‬
‫من �صقل �أحد �أهم الفنيني بل �أحد �أهم املهند�سني الق�ساميني‪ ،‬فلقد �أ�صبح �سيد القا�سم‬
‫بعد فرتة التدريب يقوم ب�إعداد الكثري من العبوات متعددة الأغرا�ض والأ�شكال‪.‬‬
‫لقد دربت الع�رشات من املهند�سني الذين كان بع�ضهم قد �أنهى درا�سة املاج�ستري‬
‫ويعد لدرا�سة الدكتوراه ولكن ي�شهد اهلل �أن �سيد ال�شيخ قا�سم فاقهم �رسع ًة بالتعلم‬
‫واتقانا ً ل�صنع ما تعلمه‪.‬‬
‫لقد �أكمل �سيد القا�سم من بعدي م�شواره على درب مهند�س الق�سام ف�صنع �أقوى‬
‫العمليات تقنياً‪ ،‬و�أدا َر �أف�ضل اخلطط ع�سكرياً‪� ،‬سيد ال�شيخ قا�سم مهند�س على الطريق‪.‬‬
‫وهكذا �أقول �أن �صعوبة التدريب الذي تلقاه طوال تلك الأيام جعل �إدارته املعركة‬
‫�سهل ًة وب�سيط ًة‪� ،‬صعب يف التدريب �سهل يف املعركة‪:‬‬
‫وهكذا زرعت ‪ -‬بجوار عقيدة الق�سام بقلب �سيد القا�سم‪ -‬علوم هند�سة الق�سام‪،‬‬
‫فلم يتمكن �أحد من اقتالعها �أبداً‪ .‬بل قام ابن الق�سام بزراعة تلك العلوم والعقائد‬
‫بداخل �صدر وعقول �شباب الإ�سالم ورجال الق�سام‪.‬‬

‫تر�س‪ ،‬وترو�س‬
‫بهذه الوم�ضة �أريد �أن �أعر�ض «�آلة الق�سام»‪ ،‬تلك الآلة التي كانت مليئة برتو�س‬
‫الق�ساميني‪ ،‬تلك الرتو�س التي متار�س عملها ب�صمت وثبات واقتدار‪.‬‬
‫ق�ص�صت‬
‫ُ‬ ‫وهنا يا ابنتي احلبيبة ويا مالكي احلار�س يجب �أن تعلمي �أنني عندما‬
‫علي ِك ما حدث من �أمور و�أحداث جرت خالل م�سريتي اجلهادية‪� ،‬أنني ل�ست �سوى‬
‫جمرد تر�س �صغري جدا ً جدا ً يف تلك الآلة التي حتوي على الرتو�س‪ ،‬الرتو�س التي‬
‫�سيطرت بعملها املتوا�صل بجد و�صمت �أروع �صفحات املقاومة على تراب فل�سطني‪،‬‬
‫كل فل�سطني‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫وهنا عندما �أعرج على ا�سم �أحد تلك الرتو�س الق�سامية ف�أنا �أعرج على ما‬
‫قمت �أنا به معه‪ ،‬ال على ما قام به هو خالل مقاومته للعدو ال�صهيوين‪ ،‬فعندما‬
‫ذكرت املهند�س «�أمين حالوة» فلم �أذكر ما قام هو ب ِه بعيدا ً عني‪� ،‬أو ما قام‬
‫به منفردا ً من �أعمال مقاومة و�أعمال جهادية‪ .‬فلقد قام هذا ال�شهيد املهند�س‬
‫«�أمين حالوة» بعد ٍد كبري من تلك الأعمال املقاومة بل قام ب�أحد �أهم تلك الأعمال‬
‫والعمليات وهي عملية «الدولفيناريوم» على �شاطئ بحر فل�سطني املحتلة تلك‬
‫العملية التي قتل خاللها الع�رشات و�أ�صيب املئات عندما فجر اال�ست�شهادي‬
‫«�سعيد احلوتري» نف�سه بني ال�صهاينة عندما كانوا يلعبون وي�سكرون يف ذلك‬
‫امللهى الليلي الذي يقع بجوار �شاطئ البحر‪ ،‬بعد �أن قام املهند�س «�أمين حالوة»‬
‫بر�سم اخلطة و�إعداد املادة املتفجرة التي و�ضعت بداخل طبلة عزف عليها‬
‫اال�ست�شهادي حلنه‪ ،‬حلن املقاومة‪.‬‬
‫وما هذا �إال مثل ب�سيط جدا ً على تلك الأ�سماء التي جاء ذكر بع�ضها خالل كتابتي‬
‫كتاب بل كتب خا�صة لرتوي‬ ‫ً‬ ‫هذه الأوراق‪ ،‬تلك الأ�سماء التي يحتاج كل ا�سم منها‬
‫�سريته اجلهادية‪ ،‬على طريق حترير فل�سطني كل فل�سطني والقد�س والأق�صى‪،‬‬
‫ولذلك يجب �أن تعلمي �أن هناك الع�رشات بل املئات من مقاومي �آلة الق�سام الذين‬
‫قاموا ب�أ�ضعاف �أ�ضعاف ما قمت به‪ ،‬لكنهم يا ابنتي �صامتون منهم من كتب اهلل له‬
‫ال�شهادة‪ ،‬ومنهم من كتب له اهلل الأ�رس‪ ،‬ومنهم ما ال يزال قاب�ضا ً على جمر املقاومة‪،‬‬
‫يقاوم ويرابط ب�صمت‪ .‬ولذلك �آمل من ِك عندما تكربين ب�أن ت�سطري جتارب �أولئك‬
‫املقاومني الق�ساميني يف كتب‪ ،‬لرتى النور تلك ال�سرية الطيبة لأولئك الطيبني‪� :‬شهداء‬
‫كانوا �أم �أ�رسى‪� ،‬أم مقاومني‪.‬‬
‫تثور النار �إن خنقت باحلطب‬
‫فكيف ال يثور ابن الق�سام وقد غ�ضب‬
‫على دم �شعب ي�سكب‬
‫ويحرق كل من للحق اغت�صب‬

‫والنور بن�رش �سري �أولئك املقاومني‪ ،‬هي ثورة ال تقل على ثورات من يحمل‬

‫‪119‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫البندقية ويقاوم بها‪ ،‬فالكلمة ال�صادقة يف هذا الزمن ال�صعب قد تكون �أقوى من‬
‫الر�صا�ص و�أ�شد ت�أثريا ً من العبوات النا�سفة‪.‬‬
‫واعلمي يا ابنتي �أنه من ال ي�شكر النا�س ال ي�شكر اهلل ع َّز وج َّل ولذلك ف�أنا �أ�شكر‬
‫كل من علمني حرفا ً �أو كلم ًة‪ ،‬كل من �أمدين بر�صا�صة لأقاوم بها‪� ،‬أ�شكر كل من‬
‫قاتلت �إىل جوارهم �أ�شكرهم و�أ�شكرهم و�أت�رشف ملجرد �أين قابلتهم هناك ب�ساحات‬
‫املعركة‪ ،‬واعلمي يا مالكي احلار�س �أننا ال نختار املعارك التي نخو�ضها بل املعارك‬
‫هي من تختارنا‪.‬‬

‫طي اجلراح‬
‫ا�شتدت حمالت املداهمة واالعتقال و�أ�صبحت �أكرث تركيزا ً على كل من يعتقد �أنه‬
‫ميت ب�صل ٍة ما يل‪ ،‬من قريب كانت �أو من بعيد‪ ،‬وخالل عدة �أعوام �أعتقل الع�رشات من‬
‫مهند�سي الق�سام ومن القادة امليدانيني لأولئك القادة واملهند�سني‪ ،‬كان هناك دائما ً‬
‫بديل ي�سارع �إىل �إيجاده �أبو علي ال�سلوادي و�أقوم �أنا بالتكفل ب�إعداده وتدريبه لكي‬
‫ينخرط يف ميدان املعركة‪.‬‬
‫�أما من كان �إيجادهم �صعبا ً فهم امل�ساعدون ال�شخ�صيون واملرافقون فلقد كنت‬
‫�أدير هذه الدائرة ب�شكل مغلق ولقد كان عد ٌد من �أولئك الأ�شخا�ص �أمثال �سيد القا�سم‬
‫و�أبي �أحمد اخلطيب الذي �أم�ضى برفقتي عدة �سنوات ولذلك فلقد كان ا�ستبدال �أي‬
‫�أحد منهم �صعبا ً للغاية ولكن ب�سبب ارتباطهم املبا�رش مع مهند�سي الق�سام والقادة‬
‫امليدانيني ‪ -‬من �أجل التن�سيق بيني وبينهم ‪ -‬فلقد �أدى ذلك لأن ي�صبحوا مطلوبني‬
‫لقوات االحتالل بعد �أن كانوا يقومون بكل ن�شاطاتهم ال�سابقة بدون �أن يكون‬
‫االحتالل قد �صنفهم على �أنهم ممن يعملون يف جمال املقاومة‪ ،‬وهكذا �أ�صبح كل‬
‫عنا�رص الدائرة الأمنية املحيطة بي مطلوبني مطاردين‪ ،‬فكان لزاما ً حمايتهم ومتابعة‬
‫�ش�ؤونهم على �أكمل وجه‪ ،‬ولأن الأحداث كانت مت�سارعة‪ ،‬فلقد كان مطلوبا ً مني �أن‬
‫�أبد�أ بالبحث عن �أماكن جديدة للإقامة‪،‬غري تلك القدمية التي ت�شكل خطرا ً على �أمني‪.‬‬
‫ولأين كنت �آنذاك من�شغالً بزوجتي و�أطفايل الثالثة فلقد كانت الأمور �أكرث �صعوبة‬
‫ب�سبب ا�ضطراري للخروج كثريا ً لإح�ضار م�ستلزمات املعي�شة من طعام و�رشاب‬

‫‪120‬‬
‫وبخا�صة �أن زوجتي قد مر�ضت بعد والدتها البنتي �صفاء‪ ،‬وظلت راقد ًة يف ال�رسير‬
‫عدة �أ�سابيع كنت خاللها �أراعي �أطفايل و�أقدم لهم احتياجاتهم اليومية‪ .‬يف ظل تلك‬
‫الظروف‪ ،‬وبعد خم�سة وثالثني يوما ً من والدة زوجتي ورقودها املتوا�صل على‬
‫�رسير ال�شفاء‪ ،‬ا�ضطررت لإيجاد م�سكنٍ جدي ٍد يكون �أكرث مالءم ًة من م�سكني احلايل‬
‫الذي كنت قد �أطلت الإقامة به‪.‬‬
‫خالل عمليات البحث عن �شقة �سكنية مت ر�صدي من قبل �أحد العمالء وهو‬
‫�صاحب ملكتب عقارات وت�أجري �شقق‪ .‬بالطبع مل يتعرف عليها من خالل ا�سمي‬
‫ولكنه ا�ستطاع التعرف علي من خالل مالحمي ومن خالل �صورة التقطت يل‬
‫ب�إحدى الكامريات املوجودة بداخل مكتب ِه والتي عر�ضها هو على جهاز ال�شاباك‬
‫فتعرفوا على �شخ�صيتي وهكذا مت ا�ستدراجي من خالل موعد �أتفق عليه مل�شاهدة‬
‫�إحدى ال�شقق وكان ذاك املوعد بجوار بلدية البرية‪.‬‬
‫يف �صباح يوم ‪ 2003/3/5‬توجهت �إىل امل�شفى �صباحا ً ملعاجلة ابنتي تاال التي كان‬
‫واجبا ً عليها مراجعة طبيب العيون‪ ،‬ولأن والدتها كانت هي الأخرى راقدة بفرا�ش‬
‫املر�ض‪ ،‬ولأن كل املرافقني الذي كانوا يعملون معي �أ�صبحوا مطلوبني للعدو‪ ،‬فلقد‬
‫ا�ضطررت للذهاب بنف�سي ملعاجلتها‪.‬‬
‫مل يكن الطبيب املعالج قد ح�رض على موعده املحدد‪.‬وقيل يل �أنه بعيادته التي‬
‫كانت ب�أحد امل�شايف اخلا�صة �أنه �سوف يح�رض خالل �ساعة �أو �أكرث ولأن هناك موعدا ً‬
‫م�سبقا ً مع �صاحب مكتب ت�أجري ال�شقق فلقد ا�ضطررت �إىل �أخذ ابنتي معي لذلك‬
‫املوعد على �أمل م�شاهدة ال�ش ّقة والعودة ثانيا ً �إىل م�شفى العيون‪.‬‬
‫وما �إن و�صلت �إىل موقف �سيارات بلدية البرية ونزلت من ال�سيارة وعلى يدي‬
‫ابنتي‪ ،‬حتى هاجمني كلبان بولي�سيان‪ ،‬فقمت بالإ�رساع بقذف ابنتي تاال بداخل‬
‫ال�سيارة و�إغالقها عليها حماوالً الت�صدي للكلبني اللذين كان �إحدهما قد بد�أ ينه�ش‬
‫قدمي والآخر بد�أ ينه�ش ال�سرتة ال�شتوية التي كنت �أرتديها‪ .‬قبل �أن �أمتكن من‬
‫التخل�ص من الكلبني البولي�سيني كانت جمموعة من قوات االحتالل حتيط بي م�صوب ًة‬
‫بنادق ر�شا�شاتها نحوي ف�ألقوين �أر�ضا ً وكبلوين وع�صبوين واقتادوين �إىل �سيارة‬
‫كانت قد توقفت حولهم �أثناء مهاجمتهم يل‪ .‬مت اقتيادي �إىل مع�سكر حتقيق ومعتقل‬

‫‪121‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫عوفر املجاور‪ .‬قبل الو�صول مت رفع الغطاء عن ر�أ�سي مع �إبقاء الع�صبة على وجهي‬
‫متت �إزالة الع�صبة عن وجهي لأجد‬ ‫وما �إن توقفت ال�سيارة بداخل املع�سكر حتى َّ‬
‫نف�سي �أمام �شخ�ص مقنع نظر يل وهز ر�أ�سه كان ذلك املقنع هو �صاحب مكتب ت�أجري‬
‫ال�شقق‪ .‬لقد عرفته فلقد كان ق�صريا ً �سمينا ً يرتدي حذاء ذا كعب عال ٍ نوعا ً ما‪ ،‬ثوان ٍ‬
‫معدودة تلك التي لزمته للتعرف علي قبل �أن يهز بر�أ�سه املغطى وثوان ٍ هي �أي�ضا‬
‫تلك امل َّدة التي لزمتني لأقرر رغم �أين مكب ٌل مقي ٌد ب�أن �أقوم ب�إعدامه‪.‬‬
‫لقد �أق�سمت �أن �أول عمل �سوف �أقوم به هو �إعدام ذلك احلقري العميل‪ .‬مل تكن‬
‫عندي م�شكلة ب�إعدامه‪ ،‬دائما ً كانت امل�شكلة تكمن بالطريقة التي �سوف �أعدمه بها‪،‬‬
‫فما ال تعلمينه يا ابنتي هو �أين على مدار �أعوام من املقاومة قمت ب�إعدام عد ٍد من‬
‫العمالء كنت �أقوم ب�إعدام بالطريقة التي تتنا�سب مع جرميته التي ارتكبها‪ ،‬فمن‬
‫ت�سبب ب�سقوط قذيفة �أدت �إىل ا�ست�شهاد مقاوم من �أولئك العمالء فلقد كنت �أحول‬
‫ج�سده �إىل �أ�شالء بعد �إلقائه بداخل حفرة تكون قد لغمت باملواد النا�سفة‪ ،‬فال يعقل‬
‫�أنه بعد �أن ت�سبب ذلك العميل بتحويل ج�سد �أحد املقاومني �أي �أ�شالء جراء �إحدى‬
‫قذائف العدو التي وجهت بناء على معلومات ذلك العميل ال �أقوم �أن بعد ثبات التهمة‬
‫عليه بتحويل جلده لأ�شالء‪ ،‬فالعني بالعني وال�سن بال�سن‪ ،‬والبادئ �أظلم‪ .‬و�أنا ل�ست‬
‫ممن يعفون عن العمالء الظاملني‪.‬‬
‫�أما العمالء الذين كانوا يتعاونون مع املحتل دون �أن ي�ؤدي تعاونهم وخيانتهم‬
‫�إىل ا�ست�شهاد �أحد من �أبناء املقاومة فلم �أق�سم بقتلهم بل بفح�صهم وك�شفهم وحتويل‬
‫حياتهم بداخل ال�ضفة والقد�س جحيما ً‪ ،‬مما كان يدفعهم �إىل الفرار �إىل �أح�ضان العدو‬
‫�إىل مدينة بداخل �أرا�ضينا املحتلة عام ‪1948‬م‪..‬‬
‫مل �أتطرق ب�إ�سهاب ملو�ضوع العمالء لأنه مو�ضوع �أمقته جدا ً وال �أحبه‪ .‬وكنت‬
‫غالبا ً مرغما ً على التعاطي مع ق�ضاياهم القذرة بحق �أبناء املقاومة و�أبناء فل�سطني‪،‬‬
‫فالعمالء هم �أقذر ظاهرة عرفتها فل�سطني جراء االحتالل ال�صهيوين �سواء عمال�ؤه‬
‫املبا�رشون �أم عمال�ؤه بالوكالة‪ ،‬قادة �أجهزة �أمن ال�سلطة الذين كانوا يعلقون �أو�سمة‬
‫العمالة متفاخرين بها راق�صني على دماء �شهداء فل�سطني‪ .‬قبل �أن �أعود ملا قد ح�صل‬
‫معي �سوف �أعرج قليالً ملا حدث مع ِك بعد �أن �ألقيت ِك داخل ال�سيارة و�أغلقت الباب عليكِ‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫وما �إن مت اقتيادي بعيدا ً عن ِك حتى مت فتح ال�سيارة والإلقاء ب ِك �أر�ضا ً مبوقف‬
‫�سيارات بلدية البرية وقاموا ب�أخذ �سيارتي معهم ظنا ً منهم �أن �سيارتي حتتوي على‬
‫ما ميكن �أن يفيدهم بخ�صو�ص ق�ضيتي‪.‬‬
‫قيل يل بعد فرتة من اعتقايل عرب �أحد املحامني الذين كانوا يتابعون ق�ضيتي من‬
‫الناحية الق�ضائية �أنه بعد �أن �ألقى جنود االحتالل ب ِك �أر�ضا ً جاء عد ٌد من موظفي‬
‫البلدية الذين �شاهدوا عملية مداهمة قوات االحتالل يل واعتقايل فقاموا ب�أخذك‬
‫حماولني التعرف على �شخ�صيت ِك وهويتكِ‪.‬‬
‫وعندما �س�ألوكِ قلتِ لهم �أن �أ�سم ِك لينا �أ�رشف و�أن ِك من مدينة نابل�س‪ ،‬فلقد كان‬
‫هذا هو �آخر ا�سم قد �أطلقته علي ِك بعد ا�سم ِك ال�سابق الذي كان �سارة‪.‬‬
‫مل يتمكنوا من حتديد هويت ِك ب�أي �شكل من الأ�شكال‪ ،‬لأنه مل يكن �أحد قد �شعر‬
‫بغياب ِك �أو افتقدكِ ف�أنا معتقل و�أم ِك مري�ضة ترقد على �رسير ال�شفاء وكنت قد تركتها‬
‫نائمة هي و�أخاك �أ�سامة و�صفاء عندما تركنا املنزل �صباحاً‪.‬‬
‫وهكذا بقيتِ يا ابنتي حتى ما بعد �ساعات امل�ساء دون �أن يتم التعرف على هويت ِك‬
‫فلم يكن عمركِ قد جتاوز الأعوام الأربعة بعد‪ ،‬ولأن ِك �أم�ضيتِ ما يزيد عن ن�صف‬
‫تلك الأعوام الأربعة متنقل ًة من م�سكن لآخر ومن مدينة �إىل �أخرى فلقد جعلتِ كل من‬
‫يحاول �س�ؤالك عن �أي معلومة �سواء باال�سم �أو مكان الإقامة يدخل مبتاهة ال ميكنه‬
‫اخلروج منها ب�أي نتيجة‪.‬‬
‫بد�أت املحطات الف�ضائية والتلفزيونية بنقل ما حدث ونقل �صوركِ يف تقاريرها‬
‫الإخبارية وحل�سن حظ ِك فلقد تعرفت علي ِك جدت ِك رغم �أنها مل َت َركِ منذ عامني و�أكرث �إال‬
‫�أنها عرفتك و�صاحت ب�أخوالك هذه تاال اذهبوا للمدينة و�أح�رضوها فورا ًهذه حفيدتي‪.‬‬
‫و�صل �أخوال ِك بعد منت�صف الليل �إىل مدينة رام اهلل حيث كنتِ قد نقلتِ �إىل هناك �إىل‬
‫�أحد منازل �أبناء العائلة الذي �أخذكِ من بلدية البرية بناء على طلب �أخوال ِك منه‪ ،‬ثم مت‬
‫نقل ِك �إىل القرية لأح�ضان جدت ِك وطبعا ً مل تفلح جدت ِك و�أخوال ِك باحل�صول على �أي‬
‫معلومة من ِك �سوى و�صف ِك ملا جرى معي من اعتقال وكالب وكالب وكالب‪.‬‬
‫كانت زوجتي متعودة على غيابي ل�ساعات طويلة عن البيت �إال �أن هذا الغياب‬
‫يكون عادة غيابي �أنا وحدي ولي�س غيابي مع �أي �أحد من �أطفايل‪ .‬قلقت وانتظرت‬

‫‪123‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫فلقد كانت تعلم �أن عليها االنتظار يف حالة غيابي املفاجئ ملدة �أربع وع�رشين �ساعة‬
‫قبل �أن نعود �إىل القرية‪ ،‬ولأن قلقها قد زاد‪ ،‬قامت بت�شغيل جهاز التلفاز متابع ًة‬
‫ن�رشات الأخبار حيث علمت عن اعتقايل و�أ�رسي لدى قوات العدو ال�صهيوين‪.‬‬
‫انتظرت حتى �صباح اليوم التايل وعادت �إىل القرية مع ما بقي معها من �أبنائي‬
‫وهم �أ�سامة والر�ضيعة �صفاء؛ �صفاء التي كان عمرها يوم اعتقايل خم�سة وثالثني‬
‫يوماً‪ .‬ما �إن و�صلت زوجتي القرية حتى داهمت قوات االحتالل القرية‪ ،‬ومنزل عمي‬
‫والد زوجتي واعتقلوا كل من كان هناك‪ ،‬وتعر�ضت زوجتي للتحقيق امل�ستمر لكنهم‬
‫مل يتمكنوا من معرفة �أي �شيء منها ومل يح�صلوا على �أي معلومة مفيدة‪ ،‬فزوجتي‬
‫مل تكن تعلم �أ�صالً عن �أي عمل من الأعمال التي كنت �أقوم بها‪ ،‬فلقد كانت مهتمة‬
‫برعاية الأطفال طوال مدة وجودها عندي و�أنا مطارد‪ ،‬ومل تكن قد �شاهدت طوال‬
‫م�ساعدي ن�سا ًء كانوا �أم رجاالً‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫تلك املدة وجه �أي �أحد من‬
‫ولذلك بعد انتهاء التحقيق معها مت �إطالق �رساحها‪ ،‬وهكذا عاد ا�سم تاال لتاال‪،‬‬
‫ومل تقتنع هي بهذا اال�سم‪ .‬وت�سلم به �إال بعد عدة �شهور من تكرار مناداتهم بها بهذا‬
‫اال�سم رغم مرور �أعوام على عودة ا�سمها احلقيقي لها �إال �أنها تف�ضل ا�سم لولو وهو‬
‫ا�سم الدلع الذي كنت �أناديها به عندما كان ا�سمها لينا‪ ،‬وظل ا�سم لولو ا�سما ً رديفا ً‬
‫لإ�سمها حتى اليوم‪.‬‬
‫�أما جميلة اجلميالت �صفاء فلقد ولدت حتت ا�سم مريانا فلقد �أ�صبح ا�سمها‬
‫�صفاء واعتادت عليه منذ عودتها �إىل قرية بيت رميا‪� .‬أما �أ�سامة �أو �إليا�س �أو خم�س‪،‬‬
‫فقد ا�سرتجع هو الآخر ا�سمه ب�شكل �أ�رسع من تاال لأنه كان ما يزال �صغريا ً ولأننا‬
‫كنا نناديه يف داخل املنزل با�سم الغ�ضنفر‪ ،‬فلقد بقي الغ�ضنفر لقبا ً له حتى يومنا هذا‬
‫و�أ�سامة ا�سم له‪.‬‬
‫وبالعودة ملا جرى معي بعد اعتقايل‪ ،‬اعتقايل الذي عربت عنه بب�ضعة جمل‬
‫مت�شابكة‪ ،‬فقلت وا�صفا ً حالتي اجل�سدية والنف�سية يف ذلك اليوم الأول الذي توا�صل‬
‫لي�صبح �سل�سل ًة من الأيام التي توالت على مدار �ستة �أ�شهر من التحقيق املتوا�صل‪،‬‬
‫بيوم بد�أ ومل ينت ِه �إال بانتهاء الأ�شهر ال�ست �أو املائة وثمانني يوما ً التي جمعت لت�صبح‬
‫يوماً‪ ،‬يوما ً واحداً‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫قلت يف ذلك اليوم‪:‬‬
‫مكبل اليدين والقدمني معلق‬
‫�سقف الزنزانة من املرفق‬
‫فجر ر�صا�ص بال �شم�س ت�رشق‬
‫وبال �أمل وعيون ت�رشق‬
‫احتالل جترب وقلب املنطق‬
‫�س�ؤال وا�ستجواب ّ‬
‫مت حتقيق‬
‫ج�سدي يت�أمل و�سياطهم كاحلريق‬
‫عظام تك�رس وعظام ت�سحق‬
‫بحري هائج وفكري غريق‬
‫قلبي يت�أمل و�أ�شعر بال�ضيق‬
‫�أ�رست وعذبت ومل ي�سقط البيدق‬
‫و�صعدت روحي من �شدة الأمل للخالق‬
‫ال روحي مل ت�صعد لل�سماء‬
‫مل ا�ست�شهد وما زلت باملحقق �أحملق‬

‫نعم‪ ،‬مل �أ�ست�شهد ولكني كنت بني الوعي والالوعي �أ�صارع �أمل ج�سدي لكي ال‬
‫تك�رس �إرادتي ولكي ال يتدمر ما قمت به طوال عدة �أعوام يف �صفوف املقاومة من‬
‫بنيان مع رجال املقاومة‪ ،‬رجال الق�سام‪.‬‬
‫كنت �أدرك �أن مثل هذه اللحظة قد ت�أتي‪ ،‬فلم يكن �أمام من يقاوم االحتالل �سوى‬
‫لظروف عديدة ال داعي للتطرق‬ ‫ٍ‬ ‫ال�شهادة �أو االعتقال �أو الن�رص‪ ،‬الن�رص كان �صعبا ً‬
‫لها وال لأ�سبابها تلك الأ�سباب التي جرت على �أهل فل�سطني النك�سة والنكبة و�أو�سلو‬
‫والكثري غريها‪ ،‬ولذلك فلقد كنت م�ستعدا ً لل�شهادة عرب �إخال�ص النية هلل وحده هلل ع َّز‬
‫وج َّل‪ ،‬فاملقاومة مل تكن ال ل�سلطة وال جلاه بل كانت هلل لرب العزة رب فل�سطني‪ ،‬الذي‬
‫كتب علينا اجلهاد طريقا ً لتحرير املقد�سات‪.‬‬
‫�أما االعتقال فلقد كنت م�ستعدا ً له من عدة نواح ٍوبطرق خمتلفة كان �أولها ج�سدياً‪،‬‬

‫‪125‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫فرغم ان�شغايل طوال الأعوام املا�ضية ب�أعمال املقاومة �إال �أين كنت ما �أزال �أحافظ على‬
‫لياقتي البدنية على �أف�ضل حال‪ ،‬فلقد وا�صلت تدريبي وتقوية ع�ضالتي ال�ستعمالها‬
‫يف خو�ضي املعارك امل�سلحة‪� ،‬أو يف خو�ض معركة ك�رس الإرادة يف زنازين التحقيق‪،‬‬
‫�سواء �أكانت تلك الزنازين لدى ال�صهاينة �أم لدى �أعوانهم من �أجهزة �أمن ال�سلطة‪� .‬أما‬
‫من الناحية الأمنية‪:‬‬
‫فلقد كانت ا�ستعداداتي تنق�سم �إىل ق�سمني‪:‬‬
‫�أولها‪ :‬تلك اخلربة الكبرية واملعرفة التي تعلمتها مني «�أبي علي ال�سلوادي» و»�سيد‬
‫القا�سم» و»�أمين حالوة» وغريهم من رجال الق�سام الذين كانوا قد مروا بتجارب‬
‫اعتقال �سابقة ومتكررة على مدى الأعوام ال�سابقة‪ .‬فمن خالل جتاربهم االعتقالية‬
‫متكنت معهم من و�ضع ت�صور ملا �سوف يحدث معي �أو مع �أي �أحد من املقاومني �إذا‬
‫ما مت �أ�رسه ولذلك قمنا ب�إعداد كرا�سة ي�رشح بها الأخوة �أبو علي ال�سلوادي و�سيد‬
‫القا�سم و�أمين حالوة كيفية �إدارة املعركة االعتقالية‪ ،‬وهكذا ورغم عدم اعتقايل لدى‬
‫ال�صهاينة من قبل �إال �أين كنت �أحمل بعقلي ت�صورا ً كامالً يل �سوف �أالقيه عندهم‬
‫ولكيفية ردود فعلي على ما �س�أواجه به هناك‪ ،‬ب�أقبية التحقيق‪.‬‬
‫ثانيها‪ :‬فلقد كان من نوع �آخر ف�ضلت �أن �أقوم به لأ�سباب تطورت وتعددت‬
‫�أ�سبابها‪ ،‬فلقد كنت على مدى �أعوام �أقوم بجمع كل املعلومات التي قد يكون �أدىل بها‬
‫بع�ض املعتقلني الذين تربطهم بي عالقة عمل جهادي من خالل معلومات ح�صلت‬
‫منها بعد �أن �أنهوا التحقيق ومت و�ضعهم داخل ال�سجون‪� ،‬أو من خالل املعلومات التي‬
‫ح�صلت عليها عرب املحامني الذين كانوا ميلكون لوائح االعرتاف ولوائح االتهام التي‬
‫قدمت �إىل املحاكم ال�صهيونية‪ ،‬وبذلك كنت وبن�سبة جتاوزت الت�سعني باملائة �أعلم ما‬
‫مت تداوله عني حتديداً‪ ،‬و�أعلم التهم التي �سوف توجه �إيل‪ .‬تلك التهم مل تعنيني �أبداً؛‬
‫ف�أنا مقاوم مهند�س‪.‬‬
‫�أما ماذا كان يهمني ويعنيني فهو عدم ك�رس حوار ال�صمت مبا يخ�ص العمل‬
‫الهيكلي لكتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام‪ ،‬ومبا يخ�ص خطتها امل�ستقبلية و�أهدافها‪،‬‬
‫�أو خمازن ال�سالح والذخرية وم�ستودعات املواد املتفجرة‪ .‬ذلك ما كان يعنيني �أوالً‪.‬‬
‫�أما ثانيا ً فهم املقاومون الذين عملوا معي ومل تكن هوياتهم قد ك�شفت لدى قوات‬

‫‪126‬‬
‫العدو‪ .‬تلك الهويات التي �أق�سمت برب العزة على �أن �أ�ست�شهد قبل البوح بها وقبل‬
‫متكن العدو من �أولئك الق�ساميني �أمراء الظل‪� ،‬أو �أن �أمكن العدو من احل�صول على‬
‫ر�صا�صة واحدة من ر�صا�صات الق�سام‪.‬‬
‫على هذه الأر�ضية التي بنيت عليها �إ�سرتاتيجيتي توكلت على اهلل‪� .‬أما ال�صهاينة‬
‫فلقد �أوكلوا �أمرهم لل�شيطان وبنوها على �أر�ضية ما يعرف با�سم التحقيق الع�سكري‪.‬‬
‫التحقيق الع�سكري هو التحقيق الذي ميار�س به ال�صهاينة كل الأ�ساليب الال�إن�سانية‬
‫من �أجل انتزاع املعلومات من املعتقل‪ .‬طوال �شهرين من التحقيق معي مبدينة القد�س‬
‫مبركز التحقيق �سجن امل�سكوبية‪ ،‬ك�رس ما ك�رس من عظامي وو�صلت حالة ج�سدي‬
‫�إىل حافة الإنهيار‪ ،‬لكن اهلل ع َّز وج َّل �أعلى و�أقوى‪ ،‬اهلل رب القد�س حيث كنت �أعذب‬
‫يف تلك الأقبية املظلمة على يد طغا ِة الزمان ومدن�سي املكان‪ ،‬مدن�سي بيت املقد�س‬
‫ومدن�سي اج�ساد اال�رسى واملعتقلني‪ .‬ما �إن انق�ضى ال�شهران حتى مت ا�صطحابي �إىل‬
‫مركز حتقيق �آخر ال ا�سم له وال عنوان على اخلارطة‪ ،‬مركز ي�صطلح على ت�سميته‬
‫باملركز ال�رسي اخلا�ص‪� ،‬رسي وخا�ص‪ .‬فعالً هناك بد�أت جولة جديدة ا�ستمرت نحو‬
‫�أ�شهر و�أكرث كنت خاللها ميتا ً يحمل بقايا �أنفا�س‪� ،‬أنفا�س �أجراها اهلل بج�سدي حارما ً‬
‫�إياي من ال�شهادة التي كنت �أطمع بها‪ ،‬فال�شهادة كانت هديف وغايتي التي كنت �أ�سعى‬
‫�إىل الو�صول �إليها عرب حتدي �أولئك ال�صهاينة الربابرة‪ .‬مل �أ�ست�شهد و�أخذت على نقالة‬
‫�إىل زنزانة ب�سجنٍ يف القد�س مر ًة �أخرى‪ .‬هناك يف القد�س عدت �أ�شالء �إن�سان‪ ،‬حمموالً‬
‫على نقالة ال ينق�صها �سوى كي�س �أ�سود من تلك الأكيا�س التي تو�ضع بداخلها اجلثث‪.‬‬
‫�ألقيت يف تلك الزنزانة نحو �أ�سبوعني �أو �أكرث‪ ،‬ثم مت نقلي مرة �أخرى �إىل �شمال‬
‫فل�سطني‪� :‬إىل معتقل «جم ّدو»‪ .‬هناك و�صلت ففكوا الرباط عن عيني ثم و�ضعوين‬
‫بال قيد ب�أحد الأق�سام هناك للمرة الأوىل من ما يزيد عن ثالثة �أ�شهر ون�صف‪ ،‬ر�أيت‬
‫ال�شم�س للمرة الأوىل‪ ،‬و�أي�ضا ً ر�أيت �أنا�سا ً غري املحققني ال�صهاينة‪ ،‬لكن �أولئك النا�س‬
‫كانوا ذئابا ً ب�أج�سام ب�رش‪ .‬ما �إن و�صلت �إىل ذلك املعتقل و�إىل ذلك الق�سم الذي �أعد‬
‫خ�صي�صا ً يل وال�ستقبايل‪ ،‬حتى وجدتهم ي�صلون فتو�ض�أت و�أ�رسعت لأقف خلفهم‬
‫لأ�صلي‪ ،‬لأ�صلي ومل �أ�ص ِّل‪ ،‬مل �أُ�ص ِّل بنية اجلماعة بل �صليت بنية الفرد‪ ،‬رغم �أن‬
‫�إمامهم كان طويل اللحية وكبريا ً يف العمر �إال �أين مل �أرحت له لأين عندما دخلت لأ�صلي‬

‫‪127‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫ملحت عينه ترقبني �أثناء توجهي من الباب لأقف يف �آخر �صف‪ ،‬فلقد كان باب خيمة‬
‫ال�صالة يقع على ميني ال�صف املقابل وهو ميني اخليمة‪ ،‬مل �أرحت لنظراته وال لطريقة‬
‫�أدائه لل�صالة‪ ،‬فلقد كان هو وكان من معه من عدة ع�رشات من امل�صلني مثل العازفني‬
‫بجوقة مو�سيقية مدربة على �أح�سن تدريب مل يكن بينهم �أحد ن�شاز كانوا مثل‬
‫الرجال الآليني‪ ،‬ذئابا ً ب�أج�ساد رجال‪ ،‬ورجاال ً �أ�شباه �آالت تتحرك بتناغم م�ستفز‪.‬‬
‫ما �إن انتهيت من ال�صالة حتى كان العديد منهم قد مر من �أمامي متجها ً �إىل باب‬
‫اخليمة للخروج‪ .‬بقي �إمامهم الأكرب مع اثنني من مرتدي اللحى‪ ،‬تلك اللحى التي‬
‫حاولوا من خاللها �إخفاء حقيقة هويتهم عني‪ ،‬ف�سلموا علي ما �إن انتهيت من ال�صالة‬
‫وعرفوين ب�أنف�سهم على �أنهم فل�سطينيون من مناطق فل�سطني املختلفة وعلى �أنهم‬
‫مقاومون وثائرون‪.‬‬
‫قدموا يل الطعام‪ ،‬الكثري الكثري من الطعام واحلليب‪ .‬وهكذا م�ضى اليوم الأول‬
‫�صالة بنية الفرد وطعاما ً عن مئة فرد‪ .‬يف اليوم الثاين قدم يل �إمامهم الأكرب حقيبة‬
‫مدعيا ً �أنها قد و�صلت من ال�شيخ «جمال �أبو الهيجاء» �آمر املقاومة الق�سامية مبدينة‬
‫جنني‪ ،‬وقد كان ال�شيخ «جمال �أبو الهيجاء» قد اعتقل منذ نحو عام‪ .‬ما مل يكن يعلمه‬
‫�إمامهم الأكرب الذي قدم يل احلقيبة على �أنها من ال�شيخ «جمال �أبو الهيجاء» هو‬
‫�أين كنت �أعلم �أن ال�شيخ موجود يف �سجن‪� ،‬سجنٍ �آخر �أكرث حرا�سة‪� ،‬سجن مبني‬
‫من الإ�سمنت واحلديد ولي�س هنا ب�سجن اخليام؛ لأن ال�صهاينة كانوا ال ي�ضعون‬
‫مت حكمهم واقرتب موعد �إطالق‬ ‫ب�سجن اخليام «جم ّدو» �أو �سجن خيام «عوفر» من ّ‬
‫�رساحهم‪ ،‬فكيف يكون �أبو الهيجاء معتقل يف «جم ّدو»؟ وكيف �أ�صالً يتم �إح�ضاري‪،‬‬
‫�إح�ضار «عبد اهلل الربغوثي» الذي يوجه له تهما ً ال تعد وال حت�صى �إىل �سجن �ضعيف‬
‫احلرا�سة و�أ�شبه ما يكون باملنتزه املليء باخليام؟‬
‫فتحت احلقيبة فوجدت بها ر�سالة من «جمال �أبو الهيجاء» كان ال�شيخ كما ي ّدعي‬
‫قد كتبها يل‪ ،‬كتب بها كلمات لالطمئنان عن �أحوايل وو�ضع بنهايتها عددا ً من �أرقام‬
‫الهواتف التي تخ�ص قيادات �سيا�سية مثل الأخ خالد م�شعل‪ ،‬والأخ عبد العزيز‬
‫الرنتي�سي وغريهم �أ�سماء كثرية و�أرقام �أكرث‪ ،‬لكن مل يكن بني تلك الأ�سماء والأرقام‬
‫رقم من �أر�سل �إيل احلقيبة رقم ال�شيخ جمال �أبو الهيجاء‪ ،‬ومل �أ�س�أل �أحدا ً عن رقمه‬

‫‪128‬‬
‫حتى ال ي�شكوا �أين قد �أ�صبحت �أ�شك بهم‪.‬‬
‫ظللت عدة �أيام على حايل �أ�صلي منفردا ً و�أنا خلف �إمامهم دون �أن �أثري �شكوكه‬
‫ودون �أن يدري �أو يعلم‪ ،‬وكنت �أنام كثريا ً ب�سبب التعب الذي كان قد حلق بي خالل‬
‫جولتي بالتحقيق يف امل�سكوبية بالقد�س وباملركز ال�رسي‪ ،‬وكنت �أتناول الطعام‬
‫وال�رشاب كلما متكنت‪.‬‬
‫كان هناك �صوت يوا�صل تذكريي �أين �سوف �أخو�ض جولة ثالثة من التحقيق‬
‫فال ميكن �أن يكون ال�صهاينة قد ا�ست�سلموا بهذه ال�سهولة فهم مل يتعبوا رغم �أنهم‬
‫�سهروا الليايل يف جل�سات التحقيق �إال �أنه كان يتم تغيري طاقم املحققني بني احلني‬
‫والآخر‪� ،‬أما �أنا فلم يتم تغريي طوال تلك الأ�شهر‪.‬‬
‫م�ضت عدة �أيام �أظنها قد جتاوزت الأ�سبوع‪� ،‬أتى بعدها �إمامهم الأكرب لي�س�ألني‬
‫�إن كان قد فرغ �شحن بطاريات الهواتف النقالة التي معي تلك التي �أر�سل منها‬
‫جمال �أبو الهيجاء اثنني ولي�س واحدا ً مو�صوال ً عرب �شبكة االت�صال الفل�سطينية‬
‫وهو لال�ستعمال داخل فل�سطني كما كتب يل والهاتف الآخر م�شبوك عرب �أحد‬
‫�رشكات االت�صال ال�صهيونية وهو لال�ستعمال اخلارجي‪ ،‬فقلت ال �أدري �إذا ما كانت‬
‫البطاريات قد فرغت �أم ال لأين مل �أ�ستعمل تلك الأجهزة �أ�صالً‪ .‬وقبل �أن ي�س�أل عن‬
‫ال�سبب قلت له �أين كنت قد ن�سيت وجودها �أ�صالً ب�سبب ت�شو�ش �أفكاري وتعب‬
‫ج�سدي‪� .‬أما احلقيقة فلقد كنت �أحاول �أن �أك�سب �أكرب وقت ممكن يف هذا املكان لعلي‬
‫�أ�سرتجع بع�ضا ً من قوتي اجل�سدية جلولة حتقيق �شعرت ب�أنها قادمة ال حمالة‪.‬‬
‫يف �أحد �أركان �إحدى اخليام جل�ست لكي �أجري �أول مكاملة يل مبجرد �أن تركني‬
‫�إمامهم وذهب حلاله‪ ،‬ات�صلت بزوجتي فردت علي قلت لها ال وقت عندي قد ينتهي‬
‫�شحن البطارية فال تتحدثي واتركيني �أحتدث �أنا‪ ،‬فطم�أنتها عن �أحوايل وحاولت‬
‫�إراحة نف�سها جراء فراقي‪ .‬ووقوعي يف الأ�رس‪ .‬طلبت منها �أن تعطيني ابنتي تاال‪ ،‬تاال‬
‫مالكي احلار�س وبد�أت بالتحدث معها كانت ت�س�ألني با�ستمرار عن مكان وجودي‬
‫فكنت �أرد عليها �أنا عند �أ�صحابك و�أ�صدقائك‪ ،‬فكان من حولها يطلبون منها �إعادة‬
‫ال�س�ؤال عن مكان وجودي فكنت �أكرر �أنا عند �أ�صحابك‪� ،‬أ�صحابك احللوين و�أقفلت‬
‫ال�سماعة مودعاً‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫�أ�صحاب تاال احللوين‬


‫كانت تاال متلك ع�صفورين من الع�صافري املغردة‪ ،‬بقيت حمتفظة بهما طوال‬
‫�أعوام وجودها مطاردة معي‪ ،‬وعندما كان �أحد تلك الع�صافري ميوت‪ ،‬كنت على‬
‫الفور �أقوم ب�رشاء ع�صفورين �آخرين جديدين و�إعادة الع�صفور احلي الذي بقي‬
‫وحيدا ً ل�صاحب حمل بيع الطيور‪.‬‬
‫وهكذا وطوال �أعوام كانت تاال ال �صديق لها �إال ع�صافريها املغردة التي كانت‬
‫تقوم ب�إطعامهم كل يوم وتطبق قف�صهم‪ .‬ما �إن انهت تاال مكاملتها معي حتى ذهبت‬
‫�إىل قف�ص الع�صافري لتبحث عني بداخله‪ ،‬فلقد قلت لها �أين عند �أ�صحابها احللوين‬
‫جال�سا ً داخل القف�ص و�أتناول طعامي‪ .‬ولأن غالبية �أفراد �أ�رستي هم �أ�رسى �سابقون‬
‫فلقد انتبهوا ملعنى ما قلته لتاال وعلموا �أين موجود يف ق�سم العمالء واجلوا�سي�س ذلك‬
‫الق�سم الذي يطلق عليه فل�سطينيا ً با�سم الع�صافري �أو غرف العار‪.‬‬
‫بعد ذلك حتدثت مع والدتي ووالدي بعمان مكاملة طويلة حماوالً طم�أنتهم عني‬
‫وعن �أحوايل‪ ،‬ومل �أعاود ا�ستعمال الهواتف النقالة مرة �أخرى طوال الأيام التالية‪،‬‬
‫خوفا ً من �أن يخطئ �أو يزل �أحد من �أبناء عائلتي ب�أي كلمة �أو معلومة فت�رض هذه‬
‫الكلمات �أخوتي باملقاومة‪ .‬ما �إن اكتمل الأ�سبوع الثاين حتى مت اخباري من قبل‬
‫�إمامهم الأكرب �أين �سوف �أنقل �إىل ق�سم �آخر‪.‬‬
‫عند �أولئك العمالء وطوال تلك الفرتة قدم يل �أف�ضل الطعام ومل ي�س�ألني �أحد عن‬
‫�أي �شيء‪ .‬فلقد كان املطلوب منهم توفري و�سائل الراحة يل‪ ،‬وجعلي �أحتدث عرب‬
‫الهاتف ظنا ً منهم �أنهم �سيتم ّكنون من تعقب تلك الكلمات في�صلون �إىل �شيء ما �ضد‬
‫املقاومة ورجالها‪.‬‬
‫ارتديت حذائي‪ ،‬و�أعطيت احلقيبة وما بداخلها �إىل �إمامهم وكبري جوا�سي�سهم‪،‬‬
‫وغادرت ذلك الق�سم متوجها ً �إىل الباب اخلارجي له‪ .‬هناك كان ينتظرين عد ٌد من‬
‫جنود قوات االحتالل الذين قاموا بتقييد يدي وقدمي ثم و�ضعوا ع�صبة على عيني‬
‫واقتادوين �إىل عربة انطلقت م�رسع ًة �إىل مدينة القد�س‪� ،‬إىل مركز حتقيق امل�سكوبية‪،‬‬
‫هناك بد�أت معي جولة جديدة من التحقيق مل تختلف عن اجلوالت ال�سابقة‪� ،‬إال �أين‬
‫تعر�ضت يف �أول يوم لتلك اجلولة لك�رس ذراعي‪ .‬كان الدافع الذي يحرك ال�صهاينة‬

‫‪130‬‬
‫ويدفعهم لفقد �أع�صابهم مرده �أن رجال كتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام وعلى ر�أ�سهم‬
‫«�أبو علي ال�سلوادي» و«�سيد القا�سم» قاموا بعدة هجمات على قوات الكيان ال�صهيوين‬
‫الغا�صب عقابا ً جلرائمهم التي مل تكن تتوقف �أبدا ً �ضد كل فل�سطيني مدين ٍ كان �أم‬
‫ع�سكري ٍمقاوم ٍكان �أم م�سامل ٍ‪ ،‬مما جعل قيادة ال�شاباك ال�صهيوين ت�صاب به�سترييا‬
‫عمياء �أرادت من خاللها ك�رس �إرادتي وجعلي �أنهار كا�شفا ً �أ�رسار املقاومة وخباياها‪.‬‬
‫يف تلك الفرتة ومن �شدة العذاب �أق�سم �أين �شاهدت املوت وحتدثت معه وجها ً‬
‫لوجه‪ ،‬الم�سته وعرفته عن قرب �صادقت املوت و�صادقني م�شفقا ً علي مما حل بي‬
‫من عذاب‪ ،‬قدر اهلل يل �أن ال �أ�ست�شهد وقدر اهلل مللك املوت �أن ال يقب�ض روحي‪.‬‬

‫«ا�سري بال كفن»‬


‫عبداهلل يا �ساكن الوجدان‬
‫يا �صالح هذا الزمان‬
‫اليوم بت فار�سا ً بال ح�صان‬
‫ا�سريا ً ب�سجن بال عنوان‬
‫�شهيدا ً حيا ً بال كفن‬
‫بزنزانة العزل العفن‬
‫�صابرا ً على امل�صائب واملحن‬
‫رغم ظلم العدو اللعني‬
‫يامن بذل الغايل والثمني‬
‫من اجل ان يرفع اجلبني‬
‫ومي�شي منت�صب القامة ال يهني‬
‫كهزيج الرعد ب�سماء فل�سطني‬
‫عزيز النف�س كالتني والزيتون‬
‫ك�صخرة االق�صى ومعراج ال�سنني‬
‫ابا ا�سامة يا وح�شا ً ال يلني‬
‫�ستبقى منارة املجاهدين‬

‫‪131‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫بعد م�ضي �شهرين على هذه احلال وتلك الليايل الطويلة كان قد م�ضى على‬
‫وجودي يف الأ�رس وداخل �أقبية التحقيق قرابة �ستة �أ�شهر‪ ،‬وعدة �أيام‪ ،‬مت اقتيادي‬
‫بعدها من مدينة القد�س احلبيبة‪� ،‬إىل �صحراء فل�سطني الأ�سرية‪� ،‬إىل �صحراء النقب �إىل‬
‫�سجن بئر ال�سبع‪ ،‬هناك و�صلت مودعا ً القد�س‪ ،‬مودعا ً �إياها والكلمات تدور داخل‬
‫ر�أ�سي دون �أن تتمكن �شفاهي من النطق بها من �شدة التعب و�أمل اجل�سد؛ فقلت‬
‫مودعا ً مناجيا ً القد�س احلبيبة و�أ�سوارها ال�شاخمة وظالل �أ�سوارها‪� ،‬أ�سوار الرباق‪،‬‬
‫و�أ�سوار الأ�رس‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫يا ظالل القد�س قومي وناجني‬
‫�أ�سواركِ باتت �صامت ًة ال حتاكيني‬
‫غا�ضبة مني لأين من الأ�رسى امل�ساجني‬
‫�أم لأين مل �أ�ست�شهد مع املجاهدين‬
‫برب ِك كربي وعلى الأذان‬
‫وال تخ�ضعي للظلم واال�ستبداد والطغيان‬
‫حزينٌ �أنا الجلك يا جنَّة الر�ضوان‬
‫يا مدينة املحبة والعفو والغفران‬
‫�أل�ستِ درة تاج الأر�ض وفل�سطني‬
‫و�أ�سواركِ معراج �سيد املر�سلني‬
‫�أمل ي�ست�شهد لأجل ِك اال�ست�شهاديون‬
‫�أمل ي�ضحوا بالروح والغايل والثمني‬
‫فلماذا �أنت �صامت ٌة و�أنا حزين‬
‫فالن�رص قادم ب�إذن رب العاملني‬
‫فكل حمت ٍل لأر�ضك لرتابك فانٍ‬
‫و�سوف تبقني �شاخم ًة بال هوان‬
‫ف�أنتِ مدينة العدل وامليزان‬
‫و�أنت جوهرة الدر املكنون‬
‫فرتاب القد�س لي�س جمرد طني‬

‫‪132‬‬
‫فالقد�س مبارك ٌة وما حولها بالقر�آن‬
‫ف�أنتِ �أ ّول قبلة امل�ؤمنني امل�صلني‬
‫و�أنتِ يا قد�س ثاين احلرمني ال�رشيفني‬
‫يا ظالل القد�س يا جنة اجلنان‬
‫�أ�سمعيني �صوت ِك و�أ�سمعيني الأذان‬
‫فالن�رص قادم والعدو املحتل فانٍ‬
‫فقلوب رجال الق�سام مليئ ٌة بالإميان‬
‫يا ظالل القد�س �أ�سمعيني الأذان‬
‫يا ظالل القد�س �أ�سمعيني الأذان‬
‫ف�أنا الأ�سري ال�شهيد الولهان‬
‫ل�سماع �صوت ِك من خلف الق�ضبان‬
‫�أنا من ال يبيع وال يهادن‬
‫�أنا من بدين رب القد�س دان‬
‫�أنا من بدين رب القد�س دان‬
‫يا ظالل القد�س �أ�سمعيني الأذان‬

‫و�صلت �إىل �سجن بئر ال�سبع ومت و�ضعي بق�سم العزل االنفرادي‪ ،‬كان ق�سما ً‬
‫يحتوي على ع�رش غرف ي�سكن بكل واحدة منها �أ�سري �أمني �أو �سجني مدين‪ ،‬هناك‬
‫يف تلك الغرف املعزولة عن باقي �أق�سام ال�سجن‪ ،‬كان موجودا ً �شيخي ووالدي الغايل‬
‫علي وعلى قلبي ال�شيخ جمال �أبو الهيجاء‪ ،‬وكان ب�إحدى الغرف الأخرى يقبع‬
‫�صديقي العزيز �أ�سد مقاومي بيت حلم �أحمد املغربي وحيداً‪ ،‬وعد ٌد �آخر من �ضمنهم‬
‫مروان الربغوثي �أمني �رس حركة فتح والذي كان قد مد يل يد العون عند خروجي من‬
‫معتقل جهاز الأمن الوقائي يف ال�ضفة الغربية‪ ،‬مد يل يد العون رغم �صعوبة و�ضعه‬
‫لكونه كان مطاردا ً مطلوبا ً من قوات االحتالل‪.‬‬
‫بعد عدة �شهور �أم�ضيتها بني �أولئك الأ�رسى املقاومني الأبطال‪ ،‬مت اقتيادي‬
‫للتحقيق مرة �أخرى‪ ،‬هذه املرة مل يكن ال�سبب يدور حول ن�شاط كتائب الق�سام بل‬

‫‪133‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫يدور حول اختفاء عميلهم الذي �أر�شدهم �إيل‪� ،‬صاحب مكتب ت�أجري ال�شقق‪ .‬مكثت‬
‫يف التحقيق �أ�سبوعا ً واحدا ً ال �أكرث وال �أقل‪ ،‬ولكني مل �أعد للق�سم الذي كان به �أخوتي‬
‫املقاومون بل مت و�ضعي بق�سم خا�ص ال يحتوي �إال على غرفة واحدة فقط ال غري‬
‫ا�سمه ق�سم احلرا�سة املغلقة‪ ،‬غرفة يوجد بداخلها عدة كامريات مراقبة‪ ،‬تراقب كل‬
‫حركة �أقوم بها وكل نف�س �أتنف�سه‪ .‬مكثت يف تلك الغرفة ملدة عام وثمانية �أ�شهر مل‬
‫�أ َر خاللها �أي خملوق �سوى �ضابط �صهيوين واحد وثالثة جنود كانوا هم املكلفني‬
‫بحرا�ستي ومتابعة �أموري‪.‬‬
‫كنت عندما اعتقلت قررت �أن �أقتل ذلك العميل ولكني كنت حمتارا ً بطريقة قتله‪،‬‬ ‫ُ‬
‫لكني خالل �أ�شهري ال�ست يف داخل �أقبية التحقيق قد تو�صلت لأف�ضل طريقة ممكنة‬
‫�أن �أعاقب ُه بها و�أجعل من موته عرب ًة ودر�سا ً لكل من ت�سول له نف�سه ب�أن يتعاون‬
‫مع العدو ويبيع �رشفه ودينه‪ ،‬ذلك العميل كان يقيم بال�ضفة الغربية حتت �ستار‬
‫�أنه �صاحب ملحل ومكتب ت�أجري العقارات فهو كان من �أبناء منطقة �أخرى ومدينة‬
‫�أخرى لن �أذكرها‪� ،‬أما طريقة موته ف�سوف �أذكرها‪ ،‬فبعد التحقيق معه مبجرد �أين‬
‫قمت ب�إر�سال ا�سمه لأخوتي رجال الق�سام‪ ،‬ات�ضح �أن له دورا ً بت�صفية اثنني من‬
‫�أبناء �أحد التنظيمات الفل�سطينية مبدينة رام اهلل‪ ،‬وما �إن �أكمل الأخوة حتقيقهم معه‬
‫حتى �أر�سلوا يل يف �سجني نتيجة ذلك التحقيق منتظرين ما �سوف �أ�صدره من حكم‬
‫على ذلك العميل الذي �سلمني لقوات العدو من جهة‪ ،‬والذي �أدت عمالته ال�ست�شهاد‬
‫عدد من الثوار‪.‬‬
‫طلبت من الأخوة �أن يبحثوا عن �أحد مواقع البناء اجلديد التي تقرر �إن�شاء جممع‬
‫�أو بناية �ضخمة عليها‪ .‬فوجدوا املكان‪ ،‬وهناك مت دفن العميل حيا ً حتت اال�سمنت‬
‫الذي بنيت عليه �أ�سا�سات ذلك البناء‪ .‬كم �أكره العمالء! وكم �أرغب بحرقهم جميعا ً‬
‫حتى �أطهر املجتمع الفل�سطيني منهم!‬
‫ما �إن مر العام والأ�شهر الثمانية حتى عدت �إىل نف�س الق�سم الذي كان به‬
‫ٌ‬
‫بع�ض منهم قد‬ ‫الأخوة املقاومون والثائرون‪ ،‬لكني مل �أجد واحدا ً منهم فلقد كان‬
‫انتقل �إىل �أق�سام ال�سجن العادية ومت نقل الآخرين �إىل �أق�سام للعزل يف �سجون‬
‫�أخرى‪ .‬يف ذلك الق�سم وجدت ت�سعة جمانني‪ ،‬جمانني بكل ما حتمل الكلمة من‬

‫‪134‬‬
‫معنى‪ ،‬كانوا طوال الليل ال يكفون عن ال�رصاخ عن طريق الأبواب وعن �سكب‬
‫املاء خارج غرفهم‪ .‬مكثت على هذه احلال نحو عام �أو يزيد قليالً بعدها بد�أ عدد‬
‫�أولئك املجانني الت�سعة يتناق�ص �شيئا ً ف�شيئا ً ويحل حمل كل من يغادر منهم‬
‫واحد من الأخوة املقاومني‪ .‬كان �أول الوا�صلني «�أحمد املغربي» �صديقي العزيز‬
‫وابن �أمري مدينة بيت حلم‪ ،‬ثم «ح�سن �سالمة «ثم و�صل عدد �آخر من الأخوة‬
‫الأ�رسى الأمنيني‪.‬‬
‫طوال تلك الفرتة املمتدة من خروجي من التحقيق كنت �أعمل على عدة �أمور من‬
‫�أهمها تعلم و�إتقان اللغة العربية قراء ًة وكتابة‪ .‬ولقد حققت هذا الهدف خالل ب�ضعة‬
‫�أ�شهر‪ ،‬و�أ�صبحت �أقر�أ ال�صحف العربية والكتب العربية �أي�ضاً‪.‬‬
‫�أما الهدف الثاين فلقد كان �إعادة ما كنت قد خ�رسته من كتلة ع�ضلية �أثناء �أ�شهر‬
‫التحقيق ال�ست ب�سبب قلة احلركة وانعدامها وب�سبب القيود وال�سال�سل وب�سبب قلة‬
‫الطعام‪� ،‬إن كان ما يقدم ي�سمى طعاما ً �أ�صالً‪.‬‬
‫متكنت بحمد اهلل من ا�ستعادة �صحتي اجل�سدية �إىل ما كانت عليه �سابقا ً �إن‬ ‫ُ‬ ‫ولقد‬
‫مل يكن �أف�ضل‪ .‬فلقد كنت �أقوم باجلري ملدة �ساعة كاملة كل يوم ؛ وهي ال�ساعة التي‬
‫ي�سمح يل باخلروج بها من الزنزانة‪ .‬كنت �أمار�س متارين ال�ضغط ومتارين تقوية‬
‫ع�ضالت املعدة‪ .‬وباخت�صا ٍر �شديد كنت �أقر�أ كل �أنواع الكتب التي ميكنني احل�صول‬
‫عليها‪ ،‬وكنت �أحافظ على جدول تدريبي الريا�ضي دون �أن �أ�سمح لأي عامل خارجي‬
‫للت�أثري على ذلك اجلدول‪ .‬وبعد ذلك بد�أت حماكمتي ومت احلكم علي ب�سبع و�ستني‬
‫م�ؤبدا ً وخم�سة �آالف ومائتي عام !!‬
‫يف ذلك اليوم الذي حكم علي به حكم على قلعة جدي ب�أن تفجر‪ ،‬ففجروا القلعة‬
‫و�أ�صبحت كومة من ركام احلجارة املكومة ف�صعد �أبنائي �إىل �أعلى الكومة وغر�سوا‬
‫عليها علما ً فل�سطينيا ً وعلما ً �أخ�رض حم�ساويا ً كتب عليه‪ :‬اهلل �أكرب‪.‬‬
‫قمت به طوال حياتي �سواء �أكانت تلك‬ ‫مل �أحزن يوما ً من الأيام على �أي �شيء ُ‬
‫احلياة قبل �أن �أدخل فل�سطني‪� ،‬أم بعد �أن دخلت فل�سطني �إىل قلب املقاومة �إىل قلب‬
‫العزة والكرامة‪.‬‬
‫خالل الأعوام التي قاربت الع�رشة التي مرت علي و�أنا معزول يف زنزانة العزل‬

‫‪135‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫االنفرادي مت اقتيادي للتحقيق عدة مرات كانت كلها عادية‪ ،‬بال طعم �أو لون‪� ،‬أما‬
‫ما �ضايقني وجعلني �أ�ست�شيط غ�ضبا ً كان عندما عر�ض علي حمققي ال�شاباك‬
‫ال�صهيوين ت�سجيالً م�صورا ً العرتافاتٍ �أدىل بها مقاومان ق�ساميان كان باديا ً عليهما‬
‫التعذيب ال�شديد والإعياء‪ ،‬مل يكن هذان املقاومان معتقالن عند �أجهزة املخابرات‬
‫ال�صهيونية ومل يعذبا هناك‪ ،‬بل كانا قد خ�ضعا للتحقيق على يد قوات �أمن �سلطة‬
‫حممود عبا�س‪ ،‬تلك ال�سلطة التي عرفت �أ�سفل درك من دروك الف�ساد والإف�ساد حتى‬
‫�أ�صبحت العمالة يف نظر قادة �أجهزتها الأمنية عقيدة زرعت وتغلغلت عميقا ً �أكرث من‬
‫ما يت�صور البع�ض‪.‬‬
‫ابنتي احلبيبة ومالكي احلار�س‪ ،‬اعلم وليعلم كل من تقر�أ عيناه هذه الكلمات‬
‫والوم�ضات �أن احلياة واحدة و�أن الرب واحد‪ ،‬ف�إما عي�شة تتوجها الكرامة والعزة‬
‫و�إما ِميته يق�صد بها وجه اهلل ع َّز وج َّل لرتتقي بعدها الروح �صاعد ًة هلل رب العزة‪.‬‬
‫�إنّ فل�سطني ب�أق�صاها وقد�سها ت�ستحق كل ما قدمت لها ولأجلها وي�شهد اهلل‪� ،‬إذا ما‬
‫ظل بج�سدي نف�س‪ ،‬فلن �أبخل به على وطني ال�سليب‪ ،‬فلي�س بعد القدو�س �إال القد�س‬
‫ولي�س بعد القد�س �إال الق�سام‪.‬‬
‫الق�سام رجال عملية الوهم املتبدد‪ ،‬ذلك الوهم وذلك احللم الذي حلمت �أن‬
‫�أ�صحو منه حمررا ً حراً‪ ،‬حلمت �أن �أعود �إىل كومة حجارة قلعتي �إىل �أطفايل �إىل‬
‫زوجتي و�أبي و�أمي �إىل كل من �أحبوين من �أخوة و�أخوات‪ ،‬الوهم املتبدد الذي‬
‫جعلني �أعي�ش �أمالً وحلماً‪ ،‬ا�ستيقظت من احللم وعاد من عاد �إىل �أهله وذويه من‬
‫الأ�رسى املحررين‪ ،‬عادوا �إىل غزة احل�صار واالنت�صار عادوا �إىل القد�س و�إىل‬
‫ال�ضفة‪ ،‬وغادر من غادر مبعدا ً �إىل بالد الغربة‪� ،‬أما �أنا عبد اهلل الربغوثي‪� ،‬أما‬
‫�أنا ح�سن �سالمة �أما �أنا ابراهيم حامد‪� ،‬أما �أنا جمال �أبو الهيجاء‪� ،‬أما �أنا عبا�س‬
‫ال�سيد‪� ،‬أما �أنا حممود عي�سى‪� ،‬أما �أنا �أحمد املغربي‪� ،‬أما �أنا بالل الربغوثي‪� ،‬أما‬
‫�أنا وائل العبا�سي �أما �أنا فبقيت مقيدا ً ملقى بزنزانة العزل االنفرادي حتى يومنا‬
‫هذا‪ ،‬فذهب الوهم املتبدد �أدراج الرياح وبقيت بل بقينا حتت جربوت ال�سجن‬
‫وال�سجان‪� ،‬أمل يعد هناك معت�صم نع�صتم به بعد اهلل لعله يفك �أ�رسنا ويك�رس‬
‫قيدنا‪� ،‬أم عدنا نحيا يف دنيا الوهم‪ ،‬والأوهام املتبددة؟!‬

‫‪136‬‬
‫�أكتب يا قلمي من داخل �أ�رسك‬
‫�أكتب من داخل عزلك ف�أنت قل ٌم ح ٌر بي ِد �أ�س ٍ‬
‫ري حرٍ‪� ،‬أكتب باهلل عليك �أكتب‪ ،‬ف�أنا‬
‫�أ�شعر بال�ضيق‪� ،‬أكتب يا قلمي‪� ،‬أكتب �أ�ستحلفك باهلل �أن تكتب‪:‬‬
‫�أكتب بحربك عني وعرب‬
‫فزنزانتي خر�ساء �صامت ٌة كالقرب‬
‫�أكتب وال تخف ف�أنت حر‬
‫ري �أجترع املر‬
‫�أما �أنا ف�أ�س ٌ‬
‫ا�صنع من حربك كلمات احلرية الن�رص‬
‫لتحلق عاليا ً ب�سماء احلرية وتطري‬
‫ا�صنع الق�صة واكتب عني اخلواطر‬
‫وارو حكايات كل ثائر‬
‫فالقيد يكبل مع�صم الأ�سري و�أنا �أ�سري‬
‫�أما مع�صمك فال يكبله �إال ال�ضمري‬
‫فخط بهذا الدم االنت�صار‬
‫واجعله �ساطعا ً بال�سماء كالبدر‬
‫�أمنتك باهلل بالكتابة �أن ت�ستمر‬
‫و�أن تقول وجتول باملعركة وال تفر‬
‫�أكتب بحربك عني وعرب‬
‫فزنزانتي خر�ساء �صامت ٌة كالقرب‬
‫ف�أنت قلم حر ال ي�شرتى بدينار‬
‫وال يباع ب�سوق ال�صهاينة والكفار‬
‫فحرب حريتك عليهم خطر‬
‫وحريتك لنا لفل�سطني هي الظفر‬
‫فاظفر للحق والدين وخاطر‬
‫واحرقهم بحرب دمك امل�ستعمر‬
‫وبالعميل �أحلق الذل والعار‬

‫‪137‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫وبكل معتد حمتل غدار‬


‫ف�أنت اليوم فار�س املنرب‬
‫و�أ�سد �أ�سود عرين الغ�ضنفر‬
‫�إدح�ض كذبهم وطهر التزوير‬
‫و�أطف�أ نار كفرهم ال�رشير‬
‫فما عدت اليوم طفالً �صغري‬
‫فحلق بال�سماء كال�صقر ِ‬
‫وطر‬
‫واحذر �شباكهم �شباك الغدر‬
‫واحذر من كل عميل حقري �سم�سار‬
‫وكن بيد املجاهد كاخلنجر‬
‫وك�سيف ق�سامي جماهد يبرت‬
‫وابقَ على درب احلق �سائر‬
‫و ِبقدم الن�صرّ هلل وب�رش‬

‫�أكتب يا قلمي‪ ،‬اكتب وال تتوقف‪� ،‬أكتب �أنت حر‪� ،‬أنت عبد اهلل غالب الربغوثي‪،‬‬
‫زوج فائدة و�أبو تاال و�أبو �أ�سامة و�أبو �صفاء و�أخ رائف و�أخ حممد ورمي وفائدة وابن‬
‫غالب وابن �صفاء وابن الق�سام‪� ،‬أكتب يا قلمي وعرب ف�أنا ابن الإ�سالم والق�سام‪.‬‬

‫�أوراق كتابي هذا الذي كتبت حتت عنوان «مهند�س على الطريق» �أمري الظل‪...‬‬

‫قد �شارفت على االنتهاء‪ ،‬بل انتهيت وحان وقت طي �صفحات الكتاب و�صفحات‬
‫اجلراح‪� .‬أما ق�صتي فال تنتهي ف�إن للحكاية بقية باقية‪ ،‬و�أن ما بقي �أكرث و�أكرب بل‬
‫�أعمق بكثري مما كتب وروي �ضمن �صفحات هذا الكتاب‪ ،‬كتاب مهند�س على الطريق‬
‫«�أمري الظل»‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫ُكتب هذا الكتاب يف زنزانة العزل االنفرادي بداخل معتقل رامون يف اجلنوب‬
‫الفل�سطيني‪ ،‬وقريبا ً من حدود م�رص العربية م�رص الثورة والثوار‪ُ ،‬كتب بعد الربيع‬
‫العربي‪ ،‬الربيع الذي �آمل �أن يتحول لعا�صفة على ال�صهاينة‪.‬‬

‫عبد اهلل غالب عبد اهلل اجلمل الربغوثي‬

‫‪139‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫«�أحالم التميمي»‬

‫ولدت عام ‪ 1980‬يف مدينة الزرقاء بالأردن التي غادرتها‬


‫مع �أهلها بعد درا�سة الثانوية العامة‪ .‬عادت �إىل الوطن‪،‬‬
‫وبد�أت يف جامعة بري زيت بال�ضفة الغربية الدرا�سة اجلامعية‬
‫يف كلية الإعالم‪.‬‬
‫هي �صحفية فل�سطينية و�أول �إمراة تن�ضم لكتائب ال�شهيد‬
‫عز الدين الق�سام‪ ،‬كانت �أ�سرية يف �سجون االحتالل الإ�رسائيلي وحكم عليها بـ ‪16‬‬
‫م�ؤبد بعد م�شاركتها يف عملية القد�س يف ‪� 9‬أغ�سط�س ‪.2001‬‬
‫�أحالم التميمي ابنة قرية النبي �صالح القريبة من رام اهلل‪.‬‬
‫حاولت �أحالم‪� ،‬أن تحُ ارب االحتالل بطريقتها فر ّكزت على ر�صد ممار�سات‬
‫حملي يبثّ من مدينة رام اهلل‬‫ّ‬ ‫االحتالل يف الربنامج الذي تق ّدمه يف تلفزيونٍ‬
‫ا�سمه (اال�ستقالل)‪.‬‬

‫ان�ضمامها لكتائب الق�سام‬


‫وق�ص�ص‬
‫ٍ‬ ‫من خالل عملها ال�صحايف امليداين ا�صطدمت �أحالم بواق ٍع مري ٍر‬
‫وحكايات م�أ�ساوية �سبّبها االحتالل‪ ،‬فق ّررت �أن تخطو خطوة �أخرى يف مواجهة‬
‫االحتالل‪ ،‬يف الوقت الذي ر�أى فيها زميلها يف كلية ال�صحافة والإعالم وائل دغل�س‬
‫الع�ضو يف كتائب الق�سام‪ ،‬موا�صفات منا�سب ًة لتكون يف هذه الكتائب‪.‬‬
‫ا�ست�شار وائل قيادته التي كان يقف على ر�أ�سها عبد اهلل الربغوثي ف�أبدت موافقتها‬
‫على ذلك‪.‬‬
‫وعبد اهلل الربغوثي الذي تولىّ قيادة كتائب الق�سام يف ال�ضفة الغربية يف فرت ٍة‬

‫‪140‬‬
‫كاف من‬‫حرجة له �صفات �شبه كثرية ب�أحالم‪ ..‬فكالهما عاد من الغربة‪ ،‬وعلى قد ٍر ٍ‬
‫الذكاء واحلما�س وامل�شاعر الوطنية والدينية‪ ،‬وكانت لهما �أحال ٌم كبرية يف احلياة‬
‫ورحلة مع النجاح‪.‬‬
‫و ّ‬
‫مت الإيعاز لدغل�س بتجنيد �أحالم‪ ،‬التي �أ�صبحت �أول امر�أة يف كتائب ال�شهيد عز‬
‫�سباق مع الوقت للم�شاركة‬‫ٍ‬ ‫الدين الق�سام‪ .‬وبد�أت مرحل ًة جديدة من العمل‪ ،‬وكانت يف‬
‫بتنفيذ عمليات يف القد�س الغربية‪.‬‬
‫ن�شاط يوم ‪ 27‬يوليو ‪ 2001‬عندما‬ ‫ٍ‬ ‫وبعد خ�ضوعها لعملية ت�أهيل‪ ،‬ن ّفذت �أول‬
‫بد�أت بالتج ّول يف �شوارع القد�س الغربية‪ .‬وكانت مه ّمتها اختيار وحتديد �أماكن‬
‫يخطط لتنفيذها انتقاما ً لك ّل‬
‫ّ‬ ‫لتنفيذ عمليات ا�ست�شهادية كان عبد اهلل الربغوثي‬
‫عملية اغتيال‪.‬‬

‫م�شاركتها يف عملية القد�س عام ‪2001‬‬


‫�أما عملها الأبرز كان م�ساعدتها يف تنفيذ الهجوم التفجريي الذي ه ّز القد�س‬
‫املحتلة يوم ‪� 9‬أغ�سط�س ‪ 2001‬والذي و�صلت تداعياته �إىل �صنّاع ال�سيا�سة الإقليميني‬
‫يف العامل‪.‬‬
‫جت ّولت �أحالم يف القد�س ب�سيارتها وح ّددت الطريق التي �سي�سلكها اال�ست�شهادي‬
‫عز الدين امل�رصي من رام اهلل �إىل القد�س املحتلة‪ .‬ويف اليوم التايل حملت �آلة الغيتارة‬
‫فخخها عبد اهلل الربغوثي وا�صطحبت عز الدين امل�رصي‪ ،‬وطلبت منه و�ضع‬ ‫التي ّ‬
‫الغيتارة على كتفه وح ّددت له املوقع وتركته يذهب يف رحلته الأخرية‪ ،‬بينما هي‬
‫قفلت عائدة �إىل رام اهلل‪.‬‬

‫القب�ض عليها‬
‫قا�س‪ ،‬وحكمت حمكمة‬ ‫لتعذيب ٍ‬
‫ٍ‬ ‫عندما �أُلقي القب�ض عليها بعد ذلك تع ّر�ضت‬
‫�صهيونية ع�سكرية عليها بال�سجن امل�ؤ ّبد ‪ 16‬مرة‪� ،‬أي ‪ 1584‬عاماً‪ ،‬مع تو�صية بعدم‬
‫الإفراج عنها يف �أية عملية تبادل حمتملة للأ�رسى‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫وجهتها للق�ضاة قالت فيها ‪�« :‬أنا ال �أعرتف‬‫واجهت �أحالم احلكم بابت�سامة وكلمة ّ‬
‫ب�رشعية هذه املحكمة �أو بكم‪ ،‬وال �أريد �أن �أع ّرفكم على نف�سي با�سمي �أو عمري �أو‬
‫حلمي‪� ..‬أنا �أع ّرفكم على نف�سي ب�أفعايل التي تعرفونها جيداً‪ .‬يف هذه املحكمة �أراكم‬
‫غا�ضبني‪ ،‬وهو نف�س الغ�ضب الذي يف قلبي وقلوب ال�شعب الفل�سطيني وهو �أكرب من‬
‫قلب �أو �إح�سا�س‪ ،‬فمن �إذا ً عنده قلب‪� ،‬أنتم؟ �أين‬
‫لدي ٌ‬
‫غ�ضبكم‪ ..‬و�إذا قلتم �إنه ال يوجد ّ‬
‫كانت قلوبكم عندما قتلتم الأطفال يف جنني ورفح ورام اهلل واحلرم الإبراهيمي‪� ،‬أين‬
‫الإح�سا�س؟؟‪.‬‬
‫مت الإفراج عنها يوم الثالثاء يف ‪ 2011/10/18‬يف عملية تبادل‪ ،‬ومت �إبعادها‬
‫�إىل الأردن‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫«املهند�س حممود �شريتح»‬

‫امليالد والن�ش�أة‬
‫ولد الأ�سري الق�سامي حممود حماد حممود �رشيتح بتاريخ‬
‫‪ 1977/3/13‬يف احلارة ال�رشقية من بلدة يطا جنوب حمافظة‬
‫اخلليل‪ ،‬ودر�س املرحلة االبتدائية يف مدر�سة املثنى الأ�سا�سية‪،‬‬
‫واملرحلة الإعدادية والثانوية يف مدر�سة ذكور يطا الثانوية‪،‬‬
‫وجنح الأ�سري حممود بتفوق يف امتحان �شهادة الدرا�سة الثانوية العامة عام ‪1995‬م‪،‬‬
‫فالتحق بكلية الهند�سة يف جامعة بريزيت لدرا�سة الهند�سة الكهربائية‪ ،‬ثم تخرج‬
‫منها بعد رحلة اعتقاالت ون�شاط طالبي �إ�سالمي مميز ولكنه مل ي�شارك يف حفل‬
‫التخرج ب�سبب اعتقاله‪.‬‬

‫ن�شاطه الطالبي‬
‫عرف عن الأ�سري ن�شاطه املتميز �ضمن الكتلة الإ�سالمية يف بريزيت‪ ،‬حيث �أ�صبح �أمريا‬
‫للكتلة بني عامي ‪ 1997‬و‪ ،1999‬و�شغل من�صب رئي�س جمل�س الطلبة يف اجلامعة بني‬
‫عامي ‪ .2001-1999‬وخالل فرتة درا�سته يف اجلامعة اعتقل حممود لأول مرة عام‬
‫‪ ،1996‬وحكم عليه بال�سجن ملدة ثمانية �أ�شهر لن�شاطه يف الكتلة الإ�سالمية وجمل�س‬
‫الطلبة‪ .‬كما اعتقل لدى ال�سلطة الفل�سطينية يف �أريحا عام ‪1996‬م ملدة ‪ 17‬يوما‪ ،‬بعد‬
‫زيارة وزير اخلارجية الفرن�سي جو�سبان للجامعة وطرده من قبل الطلبة‪.‬‬
‫وخالل درا�سته متيز الأ�سري بحر�صه على م�ساعدة الطلبة املحتاجني‪ ،‬واحليوية‬
‫والن�شاط‪ ،‬كما كان حمبوبا من قبل الطلبة حتى و�صفه البع�ض ب�أنه �شمعة؛ يحرتق‬
‫لي�سعد غريه من الطلبة من خالل تعبه وعمله ال�شاق يف توفري ال�سكن وامل�ساعدة للطلبة‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫�أخالقه و�صفاته‬
‫عرف عن الأ�سري حممود �أنه �شخ�ص كتوم جدا ويحب عمل املعروف مع الآخرين‬
‫واحلر�ص عليهم‪ .‬و�سبق له قبل دخوله اجلامعة �أن التحق بدورات حتفيظ القر�آن‬
‫الكرمي وهو يف ال�صف الأول الإعدادي‪ ،‬وذلك يف م�سجد ال�سالم الذي حر�ص على �أداء‬
‫الفرائ�ض فيه وامل�شاركة يف فعالياته‪ ،‬كما حر�ص وال زال على �صيام يومي االثنني‬
‫واخلمي�س‪ ،‬وح�صل نتيجة تفوقه يف دورات حتفيظ القر�آن على عمرة حيث �أداها قبل‬
‫مرحلة اجلامعة‪.‬‬

‫خلوة ال�سجن‬
‫انهى داخل ال�سجن حفظ �سبعة ع�رش جزءا من القر�آن الكرمي‪ ،‬كما يعرف عنه‬
‫حر�صه على التثقيف الذاتي‪ ،‬حيث يعترب �شاعرا مميزا وحاز �أيام الدرا�سة اجلامعية‬
‫على جائزة الق�صيدة الأوىل‪ .‬وداخل ال�سجن يعرف عن املجاهد حممود احليوية‬
‫والن�شاط وكرثة خمالفته للتعليمات ال�صهيونية‪ ،‬وهو ما كان �سببا يف عزله يف كثري‬
‫من املرات‪.‬‬

‫�ضريبة املقاومة‬
‫تعر�ضت عائلة الأ�سري يف فرتة مطاردته للكثري من املعاناة‪ ،‬فقد اقتحم البيت‬
‫عدة مرات واعتقل �أ�شقا�ؤه اخلم�سة عدة مرات‪ ،‬كما تعر�ض البيت للق�صف يف �إحدى‬
‫احلمالت العتقاله من منزله‪.‬‬

‫رحلة املعاناة‬
‫اعتقل الأ�سري حممود �رشيتح يف مدينة البرية بتاريخ ‪ 2005/10/17‬بوا�سطة �أفراد‬
‫من القوات اخلا�صة اال�رسائيلية امل�ستعربة‪ ،‬وذلك يف م�سجد �سيد قطب يف قلب املدينة‪،‬‬
‫ثم نقل �إىل �سجن امل�سكوبية ملدة �شهرين‪ ،‬وخ�ضع لتحقيق قا�س وعزل انفرادي‬
‫ا�ستمر خم�سني يوما‪ .‬ثم نقل �إىل �سجن هدارمي ثم �سجن �أي�شل يف بئر ال�سبع‪ ،‬ومل‬
‫ي�سمح لأقاربه والوالديه بزيارته �سوى مرات قليلة‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫التهمة‪ :‬مقاومة املحتل‬
‫وجه االحتالل للأ�سري املجاهد العديد من التهم املتعلقة مبقاومة االحتالل وامل�س�ؤولية‬
‫عن �إعداد عمليات ا�ست�شهادية‪ .‬فقد اتهم باالنتماء ملنظمة غري م�رشوعة هي كتائب‬
‫ال�شهيد عز الدين الق�سام‪ ،‬وبامل�س�ؤولية عن جتهيز اال�ست�شهادي الذي نفذ عملية‬
‫�شارع �ألنبي يف تل �أبيب بتاريخ ‪ ،2002/9/19‬والتي �أدت �إىل م�رصع �ستة �صهاينة‬
‫و�إ�صابة الع�رشات بجروح‪ .‬كما اتهم ب�إر�سال ا�ست�شهادي لتنفيذ عملية يف مدخل‬
‫مقهى منتزه �شاطئ البحر يف تل �أبيب‪ ،‬لكنه اعتقل قبل تنفيذ العملية‪ .‬ووجهت له‬
‫�أي�ضا تهمة ت�شكيل خاليا ع�سكرية‪ ،‬والتدريب على ال�سالح وجتهيز عبوات نا�سفة‪.‬‬

‫عزمية ال تنك�سر‬
‫وبعد �سل�سلة من اجلل�سات‪ ،‬حكمت املحكمة الع�سكرية اال�رسائيلية على الأ�سري‬
‫بال�سجن امل�ؤبد �سبع مرات‪ ،‬لكن الأ�سري ا�ستقبل احلكم مبعنويات عالية‪ ..‬وبعد‬
‫�صدور النطق باحلكم وقف مرفوع الر�أ�س وقال للق�ضاة �إنه مل يقف احرتاما لهم‬
‫�أوملحكمة االحتالل؛ م�ؤكدا �أن الذي يجب �أن يحاكم هو من قتل الطفلة �إميان حجو‬
‫والطفل حممد الدرة‪ ..‬و�أ�ضاف‪� :‬أنا مل �أقاتل مع �أحد‪ ،‬بل قاتلت مع اهلل‪ ..‬وهو الذي‬
‫�سيفرج عني ولن يرتكني‪ .‬و�أعرب الأ�سري عن �أ�سفه لعدم وقوع املزيد من القتلى يف‬
‫العمليات الفدائية التي اتهم بامل�س�ؤولية عنها‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫ال�شيخ الأ�سري «جمال �أبوالهيجا»‬


‫�أ�سد يقارع املحتل من زنزانته االنفرادية‬

‫ارتبط ا�سم ال�شيخ جمال �أبو الهيجا مبقارعة املحتل يف املخيم‬


‫الذي تخرج منه �أ�سدا مقداما يدافع عن �أر�ضه التي �سلبت منه‪،‬‬
‫وجترع مرارة البعد عنها ليعي�ش بني �أزقة املخيم الجئا حرمه‬
‫املحتل من �أدنى حقوقه‪ ..‬فحني تذكر �سريته‪ ،‬تذكر بطوالته‬
‫وت�ضحياته التي بذلها‪ ..‬فلقد �شاءت �أقدار اهلل �أن يعود ال�شيخ‬
‫�إىل موطنه بعد �أن تركه و�سافر �إىل دولة الكويت‪ .‬ومنذ �أن و�ضع �أقدامه على ثرى‬
‫وطنه و�شاهد ما يعانيه �أبناء �شعبه كان من �أوائل امل�شاركني يف االنتفا�ضة الأوىل‪،‬‬
‫فوقف بجانب �أهله و�إخوانه يف مواجهة املحتل‪ ،‬و�أكمل م�سرية جهاده التي بد�أها مع‬
‫دخول انتفا�ضة الأق�صى‪ .‬ومع اجتياح املحتل ملخيم جنني‪ ،‬كان من �أوائل املت�صدين‬
‫لهذا الهجوم واالجتياح اللعني‪ ،‬حتى �أ�صيب بيده الي�رسى �إ�صابة برتت يده على‬
‫�إثرها‪ ،‬لكن مل متنعه تلك الإ�صابة من موا�صلة �سريه وجهاده‪ ،‬بل كانت دافعا اكرب‬
‫ليم�ضي بكل عزمية وثبات‪.‬‬
‫من مواليد خميم جنني عام ‪ ،1959‬وهو متزوج وله من الأبناء ‪ 4‬وابنتني‪.‬‬
‫ح�صل على دبلوم تربية �إ�سالمية من الكلية العربية يف عمان‪.‬‬
‫عمل يف التدري�س يف اليمن وال�سعودية ملدة ‪ 11‬عاماُ‪ ،‬ثم عاد �إىل �أر�ض الوطن عام‬
‫‪ 1990‬لي�شارك يف انتفا�ضة �شعبه �ضد االحتالل �آنذاك‪ ،‬حيث اعتقل �ست مرات يف‬
‫�سجون االحتالل ق�ضى فيها ما يزيد عن خم�س �سنوات ون�صف‪.‬‬
‫يعد �أبو الهيجا من قادرة احلركة الإ�سالمية يف جنني حيث �شغل عدة منا�صب‬
‫كان منها مدير مراكز لتحفيظ القران الكرمي‪.‬‬
‫هو �أحد مر�شحي قائمة التغري والإ�صالح يف حمافظة جنني على م�ستوى الوطن‬

‫‪146‬‬
‫�أما عن جهاده وت�ضحياته فلقد كان ال�شيخ م�سئوال عن العمل الع�سكري داخل‬
‫املخيم �أثناء اجتياحه عام ‪ 2002‬و�شارك يف توجيه عمليات جهادية نفذت داخل‬
‫الأرا�ضي املحتلة عام ‪ 48‬من بينها عملية �صفد التي قتل فيها �سبعة �صهاينة‪،‬‬
‫و�أ�صيب منهم الع�رشات‪.‬‬
‫و�ضع املحتل ا�سمه �ضمن قائمة املطلوبني الذين طالبت دولة املحتل باعتقالهم �أو‬
‫قتلهم والتي �سلمها املندوب الأمريكي �إىل ال�سلطة الفل�سطينية يف انتفا�ضة الأق�صى‪.‬‬
‫تعر�ض بيته للحرق ب�شكل كامل خالل انتفا�ضة الأق�صى‬
‫مل تتوقف عملية امل�شاركة اجلهادية على ال�شيخ فح�سب بل كان لأبنائه ن�صيب‬
‫من االعتقال وكذلك زوجته وابنته‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫ال�شهيد القائد «�أمين حالوة»‬


‫حياة مليئة باجلهاد واملقاومة‬

‫ولد املجاهد الق�سامي القائد املهند�س «�أمين حالوة»‬


‫يف‪ 1974/10/17‬على ر�أ�س �أربعة من الإخوة و�أخت واحدة‪.‬‬
‫التحق مبدر�سة جعفر بن �أبي طالب ليدر�س فيها مرحلة‬
‫االبتدائية‪ ،‬ثم انتقل ملدر�سة عمرو بن العا�ص ليكمل املرحلة‬
‫الإعدادية‪ ،‬ويتابع مرحلته الثانوية يف مدر�سة قدري طوقان‪.‬‬
‫ويف االنتفا�ضة الأوىل اعتقل حالوة لأول مرة يف العام ‪1992‬خالل م�شاركته بفعالياتها‬
‫�ضمن �صفوف حركة املقاومة الإ�سالمية حما�س‪ ،‬حيث اقتيد �إىل �سجن “الفارعة”‪.‬‬
‫وبالرغم من �أن حالوة كان عليه م�ساعدة والده يف النجارة لكونه �أكرب �إخوانه‪� ،‬إال انه‬
‫ا�ستطاع �أن يتفوق يف درا�سة الثانوية العامة ويح�صل على معدل ‪ ،85%‬ليلتحق بعدها‬
‫بجامعة “بريزيت” ويدر�س الهند�سة الكهربائية يف العام ‪.1993‬‬
‫بد�أت االنتفا�ضة حتمل معها مزيدا ً من القتل لدى �شعبنا الفل�سطيني‪ ،‬وبد�أ‬
‫“�أمين” ي�س�أل نف�سه �إىل متى �سنظل هكذا خائفني‪ ..‬و�إىل متى �سنظل عاجزين عن‬
‫�إحلاق ال�رضر بالأعداء وتكبيدهم اخل�سائر املادية والب�رشية‪.‬‬
‫يف اجلامعة تعرف على املجاهد الق�سامي القائد “خليل ال�رشيف”‪ ،‬الذي كان‬
‫وقتها “من�سقا ً حلركة ال�شبيبة الطالبية” التابعة حلركة فتح‪ ،‬ومن ثم حتول‬
‫لي�صبح احد قيادات كتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام‪ ،‬وقائد خلية �شهداء من‬
‫�أجل الأ�رسى‪� ،‬إىل �أن نفذ عملية ا�ست�شهادية يف �سوق “حمناه يهوداه” مبدينة‬
‫القد�س يف العام ‪.1996‬وقد كان اعتقال املجاهد الق�سامي “�أمين حالوة” الثاين يف‬
‫‪ ،1998/1/19‬وذلك بتهمة االنتماء للكتلة الإ�سالمية‪ ،‬حيث اعتقل وهو يف طريق‬
‫عودته من اجلامعة‪ ،‬بعد �أن قامت القوات ال�صهيونية بن�صب حاجز طيار العتقاله‪،‬‬
‫واقتيد �إىل مركز حتقيق «اجللمة» بتهمة االنتماء لكتائب ال�شهد عز الدين الق�سام‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫وبعد اعتقاله ب�أيام‪ ،‬قامت القوات ال�صهيونية باقتحام منزل ذويه‪ ،‬حيث وجدوا‬
‫كمية من الأ�سلحة و�ساعة توقيت‪ ،‬كانت خمب�أة يف مكان خمفي داخل اخلزانة التي‬
‫�صممها حالوة بحكم مهارته ب�صناعة الأثاث املنزيل‪ .‬وقد خ�ضع بعدها لتحقيق‬
‫ع�سكري قا�س ا�ستمر لأكرث من ثالثة �أ�شهر‪ ،‬ا�رضب خاللها ع�رشة �أيام عن الطعام‬
‫ل�سوء املعاملة التي كان يتلقاها‪ ،‬ل ٍيُحكم بال�سجن ملدة ‪� 30‬شهراً‪ ،‬ق�ضاها يف �سجون‪:‬‬
‫“نفحة” و“ع�سقالن” و“اجللمة” و“�شطة”‪.‬‬
‫هناك التقى بعدد من قادة العمل يف احلركة الإ�سالمية‪ ،‬والذين �أ�صبح جزء منهم‬
‫فيما بعد من قادة العمل الع�سكري ومنهم‪“ :‬ال�شيخ “يو�سف ال�رسكجي”‪ ،‬و“�صالح‬
‫دروزة”‪ ،‬و“عمار الزبن”‪ ،‬و“معاذ �سعيد بالل” وبعد �أ�شهر من خروجه من ال�سجن‪،‬‬
‫تزوج من ابنة عمته وكان ذلك يف ‪ ،2000/7/2‬حيث رزق منها ببكر �أبنائه “عدنان”‪،‬‬
‫ومع هذا بقي حالوة نا�شطا ً يف عمله يف �صفوف الق�سام‪ ،‬ويف منجرة ذويه يبدع يف‬
‫عمله يف هذه وتلك‪ .‬وبقيت ال�رسية تخيم على عمله يف الق�سام‪� ،‬إال �أن ق�ضاء اهلل النافذ‬
‫يف �أمره كان له طريق �آخر‪ ،‬ليُك�شف �أمر ان�ضمامه لكتائب الق�سام‪ ،‬بعد �أن �أ�صيب‬
‫بحادث �إثر انفجار عبوة بني يديه �أثناء ت�صنيعها يف ‪ ،2001/5/28‬حيث مت نقله �إىل‬
‫م�ست�شفى “رفيديا”‪ .‬هناك مكث حتت العناية الطبية لأكرث من ‪ 50‬يوماً‪ ،‬تعر�ض‬
‫خاللها ملحاولة اغتيال‪� ،‬إال �أن جنود الق�سام الذي تناوبوا على حرا�سته‪ ،‬وبعد عناية‬
‫اهلل متكنوا من �إحباط املحاولة‪.‬‬
‫ومرت �أ�شهر ممتلئة باجلهاد واملقاومة والإثخان بالقوات ال�صهيونية‪ ،‬على‬
‫يدي املهند�س الثالث الق�سامي القائد «امين حالوة»‪ ،‬وم�ساعده املجاهد “�سليم‬
‫حجة”‪� ،‬إال �أن �سنني العطاء والت�ضحية واجلهاد التي قدمها املجاهد الق�سامي‬
‫حالوة‪ ،‬تو�شك على االنتهاء‪ .‬ففي ‪ 2001/10/22‬وعند ال�ساعة الثامنة والن�صف‬
‫�صباحاً‪ ،‬كان املوعد مع حور اجلنة التي كانت تتحرق �شوقا لفار�سها اجلديد‪،‬‬
‫حيث ركب املجاهدان الق�ساميان «امين حالوة» واملجاهد «علي عالن» ‪ -‬القادم من‬
‫بيت حلم ليتعلم ت�صنيع العبوات على يدي مهند�سنا ‪ -‬ركبا �سيارتهما من نوع‬
‫“�سوبارو” بي�ضاء اللون‪ ،‬يريدان احد خمتربات الق�سام‪ ،‬ولكن اهلل كان يريد لهما‬
‫مكانا ً �آخر‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫فما �إن و�صلت ال�سيارة التي كانت تقلهم �إىل م�ست�شفى نابل�س التخ�ص�صي‬
‫قرب جامعة النجاح الوطنية‪ ،‬حتى �سمع دوي هائل تناثر على �إثره حطام ال�سيارة‬
‫و�أ�شالء ال�شهيد املهند�س الق�سامي«امين حالوة»‪ .‬وملا تدافع املواطنون الذي �سمعوا‬
‫الدوي �إىل مكان ال�سيارة‪ ،‬وجدوا املجاهد الق�سامي وقد غرق يف دمائه‪ ،‬يف حني مت نقل‬
‫رفيقه املجاهد “ علي عالن” �إىل امل�ست�شفى العربي التخ�ص�صي‪ ،‬ليتلقى العالج من‬
‫جروحه املتو�سطة التي �أ�صيب بها‪ ،‬ولقد �أكد الأطباء �أن حالوة ا�ست�شهد نتيجة تفجر‬
‫�رشايني ج�سده‪ ،‬ليتم ت�شييع جثمانه يف م�سرية حا�شدة �إىل املقربة ال�رشقية يف املدينة‪،‬‬
‫و�سط هتافات املواطنني الداعية كتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام باالنتقام لل�شهيد‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫امي «�سيد ال�شيخ قا�سم»‬
‫الق�س ّ‬
‫ّ‬ ‫ال�شهيد‬
‫ّ‬
‫ف�ضل املوت يف �سبيل اهلل على اال�ست�سالم والأ�سر‬

‫من مواليد العام ‪ .1974‬منذ �صغره عندما كان يخرج يف‬


‫امل�سريات واملظاهرات يرفرف برايته اخل�رضاء‪ ،‬ومنذ بداية‬
‫عمله مع اجلهاز الع�سكري حلركة املقاومة الإ�سالمية‬
‫حما�س‪ ،‬كان يعلم �أن نهاية طريق املجاهدين �إما الن�رص �أما‬
‫ال�شهادة �أو الأ�رس‪ ..‬رغم ذلك و�صل �سيد عبد الكرمي ال�شيخ‬
‫قا�سم ال�سري يف طريق العزة طريق اجلهاد‪ ..‬رغم ما تع ّر�ض له من م�صاعب جمة‬
‫انتهت با�ست�شهاده‪.‬‬
‫يقول �أحد �أ�شقاء �سيد قا�سم‪« :‬ال نعلم كثريا ً عن عمله يف اجلهاز الع�سكري‬
‫التابع حلركة حما�س‪ ،‬لكنه كان مطاردا ً ومطلوبا ً لقوات االحتالل منذ‬
‫العام ‪ ،1998‬وبالتن�سيق مع ال�سلطة الفل�سطينية اعتقلته الأجهزة ا لأمنية‬
‫الفل�سطينية‪ ،‬و �أم�ضى يف �سجون ال�سلطة يف مدينتي رام اهلل و�أريحا مدة‬
‫جتاوزت العامني ون�صف»‪.‬‬
‫خالل �سجنه هناك‪ ،‬تع ّر�ض ال�شهيد للتعذيب اجل�سدي والنف�سي ال�شديد على‬
‫�أيدي �أفراد الأجهزة الأمنية الفل�سطينية‪ ،‬التي كانت حت ّقق معه بالتعاون مع �أجهزة‬
‫املخابرات ال�صهيونية‪.‬‬
‫طلبت �سلطات االحتالل من الأجهزة الأمنية الفل�سطينية ت�سليمها �سيّد لن�شاطه يف‬
‫اجلهاز الع�سكري التابعة حلركة حما�س (كتائب عز الدين الق�سام)‪ ،‬حيث كان يعتقل‬
‫يف �سجون �أريحا يف العام ‪ ،1999‬لكن ال�سلطة الفل�سطينية مل جتر�ؤ على فعل ذلك‪.‬‬

‫زميله يف الأ�سر زميله يف ال�شهادة‬


‫يرى �شقيق ال�شهيد �أن �سجن �شقيقه يف �أريحا �أحدث تغيرّ ا ً جذريا ً يف حياته‪ ،‬فهو‬

‫‪151‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫اليوم ي�سجن على �أيدي �إخوانه الفل�سطينيني وهو ال يقوى على حت ّمل ذلك‪ ،‬لأ نه‬
‫ال ي�ستطيع �أن يتخيّل �أن �رشيكه يف الن�ضال يف االنتفا�ضة الأوىل عام ‪� 1987‬أ�صبح‬
‫�سجانه وحم ّققه اليوم‪.‬‬‫ّ‬
‫ولكن من حما�سن ذلك «ال�سجن اللعني» يقول �شقيق ال�شهيد‪� ،‬أنه ع ّرفه على‬
‫�أ�صدقائه املنا�ضلني وعلى ر�أ�سهم املنا�ضل ال�شيخ �صالح تالحمة الذي ا�ست�شهد معه‪.‬‬
‫كان التقاء �سيد بال�شيخ �صالح مبثابة حت ّول يف حياته‪ ،‬حيث وا�صل املنا�ضالن‬
‫رصا على املقاومة‪ ،‬ومل تنقطع العالقة بينهما‬
‫طريق الن�ضال من داخل ال�سجن و�أ� ّ‬
‫على ما يبدو �إىل �أن ا�ست�شهدا معا ً وهما يقاومان‪.‬‬

‫�سيّد ينت�صر على زنازين االحتالل‬


‫قبل اعتقاله يف �سجون ال�سلطة‪ ،‬اعتقل �سيّد على �أيدي قوات االحتالل مرتني‪،‬‬
‫قا�س جدا ً ولكنه بحنكته و�صربه‪ ،‬ا�ستطاع التغلّب على‬ ‫لتحقيق ٍ‬
‫ٍ‬ ‫تع ّر�ض خاللهما‬
‫املح ّققني ال�صهاينة‪ ،‬ومل يد ِل ب�أي اعرتافات تدينه‪.‬‬
‫قا�س يف �سجن امل�سكوبية‪ ،‬و�أفرج عنه‬
‫لتحقيق ٍ‬
‫ٍ‬ ‫اعتقل �سيد يف العام ‪ 1993‬وخ�ضع‬
‫بعد �أربعني يوما ً من اعتقاله‪ ،‬بعد عدم ثبات � ٍّأي من التهم املوجهة �إليه من قبل قوات‬
‫االحتالل التي �أطلقت �رساحه ليعود �إىل مدينة رام اهلل م�سقط ر�أ�سه‪.‬‬
‫بعد عامني من االعتقال الأول عادت قوات االحتالل لتعتقله مرة �أخرى بتهمة‬
‫ينظمها �شباب م�سجد العمري يف مدينة‬ ‫امل�شاركة يف الن�شاطات االجتماعية التي كان ّ‬
‫البرية‪ ،‬حيث كان �سيّد دوما ًيف طليعتهم ومن �أن�شطهم و�أقدرهم على الأعمال االجتماعية‬
‫الهادفة‪ ،‬ولقد حكمت عليه بال�سجن عدة �أ�شهر لكنها عادت و�أطلقت �رساحه‪.‬‬

‫ن�صيب العائلة‬
‫جنود االحتالل مل ين�سوا عائلته فق ّرروا �أن يكون لها ن�صيب من التنكيل والتعذيب‬
‫والأ�رس‪ ..‬فهي التي خ ّرجت املنا�ضل �سيّد‪ ،‬حيث درج جنود االحتالل على احل�ضور‬
‫�إىل منزل املطارد �سيد‪ ،‬والقيام ب�إجراء حتقيق ميداين مع كافة �أفراد �أ�رسته مبن‬
‫فيه �شقيقاته و�أ�شقائه‪ .‬و�أقدموا يف الفرتة الأخرية على اعتقال جميع �أ�شقائه و�أبناء‬

‫‪152‬‬
‫عمه‪ ،‬وال يزال عد ٌد منهم ‪ -‬حتى تاريخ طباعة الكتاب ‪ -‬داخل ال�سجون ال�صهيونية‪،‬‬
‫ي�سجنون �أغلبهم �إداريا ً لي�س ٍ‬
‫لذنب اقرتفوه �إال لأنهم من �أقارب املنا�ضل �سيّد‪.‬‬

‫من اللد �إىل امل�سجد العمري‬


‫ين�س �سيّد عبد الكرمي قا�سم يوما ً �أنه الجئ فل�سطيني من مدينة اللد التي‬ ‫مل َ‬
‫احتلتها قوات االحتالل عام ‪ ..1948‬كان دوما ً يجل�س بجوار والده يطلب منه‬
‫�أن يح ّدثه عن بيتهم يف اللد‪ ،‬وقد ذهب ب�صحبة والده �إىل مدينة اللد و�شاهد مكان‬
‫بيته واحلي الذي عا�ش فيه والده و�أجداده‪ ،‬ولكن بحلة �أخرى‪ ..‬فاليوم ي�سكن فيه‬
‫جمموعة من ال�صهاينة الرومان‪.‬‬
‫العمري كان مدر�سته التي �أحبّها وتعلّم فيها الكثري‪ ،‬رغم �أنه �أنهى درا�سته‬
‫ّ‬ ‫م�سجد‬
‫الثانوية من مدر�سة اليتيم العربي يف مدينة القد�س ‪ -‬ق�سم التربيد والتدفئة املركزية‪.‬‬
‫�أ�صبح �سيّد فيما بعد يف امل�سجد العمري مبثابة املثل الأعلى والقدوة لأ�صدقائه‪،‬‬
‫فهو ي�صوم ك ّل �إثنني وخمي�س ويحثّهم دائما ً على املواظبة على ال�صالة وال�صيام‬
‫والتق ّرب �إىل اهلل بالنوافل‪.‬‬

‫وي�سقط �شهيد ًا بعد مقاومة �شديدة‬


‫ف�ضل �أن ميوت �شهيدا ً‬ ‫مل يعرف �سيد معني اال�ست�سالم يف حياته‪ّ ،‬‬
‫على �أن يقع �أ�سريا ً يف �أيدي قوات االحتالل التي علِمت مبكانه وح�رضت‬
‫العتقاله �أو الق�ضاء عليه‪ ،‬فقاومها ورفيقه ال�شيخ �صالح حتى ا�ست�شهدا معاً‪.‬‬
‫يقول �شقيقه ‪�« :‬أكاد �أجزم �أن عملية قتل �أخي ورفيقه متت بالتعاون بني الأجهزة‬
‫الأمنية ال�صهيونية والعمالء حيث ي�صعب على املخابرات ال�صهيونية �أن تعرف‬
‫�شخ�ص مطار ٍد لوحدها‪ ،‬مع العلم �أن املطاردين غالبا ً ما يتّخذون �إجراءات‬
‫ٍ‬ ‫مكان‬
‫�أمنية حلماية �أنف�سهم من قوات االحتالل»‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫الق�سامي القائد «بالل الربغوثي»‬


‫ّ‬ ‫املجاهد‬

‫ولد بالل يعقوب الربغوتي عام ‪ 76‬يف مدينة الكويت وهو من‬
‫�أ�رسة فل�سطينية مغرتبة عادت �إىل وطنها عام ‪ ،89‬حيث كانت‬
‫الأرا�ضي الفل�سطينية م�شتعلة يف وجه االحتالل الإ�رسائيلي‬
‫والتي باتت تعرف باالنتفا�ضة الأوىل‪ ،‬لين�ضم �إىل �صفوف‬
‫حركة املقاومة الإ�سالمية – حما�س‪.‬‬
‫�شارك بالل يف كل فعاليات االنتفا�ضة‪ ،‬وكان من �أبرز ن�شطاء حما�س يف بيت‬
‫رميا‪ ،‬وتعر�ض �إىل �إ�صابة خطرية كادت �أن تودي بحياته‪ ،‬حيث �أ�صيب بر�صا�صتني‬
‫يف الكلية والكبد واملعدة‪.‬‬
‫يتحدث بالل عن هذه التجربة ب�شجون فيقول‪ “ :‬دعت حما�س �إىل يوم ت�صعيد‬
‫�ضد جنود االحتالل يف ذكرى �إحراق امل�سجد الأق�صى املبارك‪ ،‬وكنت من بني‬
‫ال�شباب الذين �شاركوا يف املواجهات برام اهلل‪ .‬ويف ذلك اليوم اعتقلتني قوة من‬
‫امل�ستعربني‪� ،‬إال �أنني متكنت من الإفالت من بني �أيديهم‪ ،‬ف�أطلقوا النار علي‬
‫ف�أ�صابوين يف البطن بر�صا�صتني‪ ،‬وخ�ضعت لعملية ا�ستئ�صال للكلية‪ ،‬ومكثت يف‬
‫امل�ست�شفى مدة �أربعني يوما ”‪.‬‬
‫وبعد خروجه من م�ست�شفى رام اهلل ب�أ�سبوعني مت اعتقاله من منزله يف بيت رميا‪،‬‬
‫واقتياده للتحقيق يف معتقل الفارعة‪ ،‬واحتجز هناك ملدة ‪ 30‬يوما �إىل �أن مت الإفراج عنه‪.‬‬
‫وبالرغم من هذه احلادثة امل�ؤملة التي عا�شها ال�شاب املدلل بني �أ�رسته‬
‫والتي حاولت بكل الو�سائل والطرق �أن تقنعه بال�سفر �إىل اخلارج‪� ،‬إال �أنه �أ�رص‬
‫على البقاء يف فل�سطني‪ ،‬والتحق بجامعة بريزيت ‪ -‬ق�سم الرتبية وعلم النف�س‪ ،‬و�أقام‬
‫فيها عالقات �صداقة قوية و�شبكة عالقات وا�سعة جدا‪� ،‬ساعدته ب�شكل �أ�سا�سي يف‬
‫عمله القادم باجلهاز الع�سكري حلما�س عام ‪.1996‬‬

‫‪154‬‬
‫�شارك بالل يف �أول م�سرية �شهدتها ا لأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة‬
‫احتجاجا على زيارة �أرييل �شارون �إىل امل�سجد ا لأق�صى وتدني�سه ل�ساحاته‬
‫ال�رشيفة‪ ،‬حيث نظم جمل�س الطلبة يف اجلامعة‪ ،‬الذي كانت ت�سيطر عليه‬
‫الكتلة ا لإ�سالمية املح�سوبة على حما�س‪ ،‬م�سرية حا�شدة باجتاه مدينة‬
‫رام اهلل‪.‬‬
‫وبدون كلل �أو ملل‪ ،‬وا�صل بالل وب�شكل يومي امل�شاركة بكل فعاليات املواجهة‬
‫مع ال�صهاينة ملدة �شهرين كاملني‪� ،‬إىل �أن انتقل �إىل العمل الع�سكري يف حما�س‪ ,‬حيث‬
‫عمل خالل الأ�شهر الأوىل الن�ضمامه‪ ،‬كحلقة و�صل بني جمموعات العمل الع�سكري‬
‫حلما�س يف نابل�س ورام اهلل‪.‬‬
‫وبناء على طلب القائد �أمين حالوة �شكل الربغوتي خلية ع�سكرية يف رام اهلل‪،‬‬
‫كان من بني �أع�ضائها مهند�سا فذا‪ ،‬حيث در�س الهند�سة يف جامعات �إحدى الدول‬
‫اال�شرتاكية‪ ،‬وما لبث �أن حتول �إىل نقطة االرتكاز يف كتائب عز الدين الق�سام مبنطقة‬
‫الو�سط‪ ،‬و�أحد �أبرز خرباء ت�صنيع املتفجرات‪ .‬وقد ف�شلت قوات االحتالل يف‬
‫اعتقاله �أو اغتياله عدة مرات‪.‬‬

‫جتنيد ا�ست�شهاديني‬
‫وما لبث املهند�س �أمين حالوة �أن طلب من الربغوتي جتنيد ا�ست�شهادي‬
‫من منطقة رام اهلل لعملية فدائية بالقد�س املحتلة‪ ،‬فتوجه بالل �إىل �صديقه‬
‫�ضياء الطويل ‪ -‬من مدينة البرية ويدر�س الهند�سة يف جامعة بريزيت ‪-‬‬
‫وعر�ض عليه الأمر‪ ،‬فوافق وبدون تردد‪.‬‬
‫وبعد �أ�سبوعني من جتنيد �ضياء �صدرت التعليمات �إىل بالل بنقل‬
‫اال�ست�شهادي والتوجه �إىل نابل�س‪ ،‬وهناك مت ت�سجيل و�صية �ضياء عرب �رشيط‬
‫فيديو وجتهيز املتفجرات‪ ،‬ونقل الفدائي �إىل منطقة التلة الفرن�سية بالقد�س‬
‫املحتلة لتنفيذ العملية‪.‬‬
‫وبناء على طلب من املهند�س حالوه انتقل بالل �إىل ما ي�سمى (باخلاليا النائمة )‪،‬‬
‫وطلِب منه عدم القيام ب�أي ن�شاط ع�سكري حتت �أي ظرف‪.‬‬ ‫ُ‬

‫‪155‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫عملية مطعم �سبارو‬


‫كلف بالل كالً من دغل�س والتميمي بالإعداد لعملية فدائية بالقد�س‪ ،‬على عن‬
‫تكون مهمتهما حتديد الهدف املنا�سب‪ ،‬وت�أمني نقل اال�ست�شهادي �إىل الهدف‪ ،‬ونقل‬
‫املتفجرات �إىل داخل القد�س‪.‬‬
‫�شملت عملية التح�ضري خطوة تكتيكية من بالل هدف من خاللها �إىل فح�ص‬
‫ا�ستعداد دغل�س والتميمي للعمل الع�سكري وجناعتهما على �أر�ض الواقع‪ .‬ف�سلم‬
‫�إليهما قنبلة موقوتة على �شكل قارورة برية‪ ،‬وطلب منهما و�ضعها يف �أحد املحالت‬
‫التجارية بالقد�س املحتلة‪ ،‬لكن ل�سوء احلظ مل تنفجر‪.‬‬
‫�أثار هذا اخللل غ�ضب التميمي ودغل�س‪ ،‬فات�صل الأخري وبت�رسع غري حم�سوب‪،‬‬
‫من هاتفه اخلليوي ببالل ليخربه بهذا اخللل‪ ،‬ومن هنا كان اخلط�أ القاتل‪� ،‬إذ �أن‬
‫املخابرات “الإ�رسائيلية” مت�سك بطرف اخليط‪.‬‬
‫يقول بالل‪ “ :‬منذ اللحظة الأوىل لهذه املكاملة عرفت �أن الأمور بد�أت تتك�شف‪،‬‬
‫وو�صلتني بعد ذلك معلومات م�ؤكدة من خالل م�صادر خا�صة باحلركة‪� ،‬أن‬
‫الإ�رسائيليني يعرفون بكل حتركاتنا‪ ،‬فانتقلت للإقامة يف رام اهلل واتخذت الكثري من‬
‫االحتياطات”‪.‬‬
‫واجلدير ذكره �أن بالل الربغوتي خبري ب�إعداد عبوات نا�سفة يف كتائب‬
‫الق�سامي القائد عبد‬‫ّ‬ ‫الق�سام‪ ،‬وكان ال�سباق يف جتنيد املجاهد‬
‫ّ‬ ‫ال�شهيد عز الدين‬
‫اهلل الربغوثي �صاحب �أكرب ملف �أمني يف تاريخ الكيان ال�صهيوين‪ .‬وقد زود‬
‫الق�سام بالعبوات التي ا�ستخدمت يف عملية مطعم “�سبارو”‬ ‫ّ‬ ‫الربغوثي كتائب‬
‫بالقد�س‪ ،‬وكان ع�ضوا ً يف خلية نفذت عملية الـ “دولفناريوم” بتل �أبيب‪ ،‬وعملية‬
‫ا�ست�شهادية �أخرى بالتلة الفرن�سية‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫الق�سامي «حممد وائل دغل�س»‬
‫ّ‬ ‫الأ�سري‬

‫ُو لِد جماهدنا القائد يف ‪� 1979/3/29‬أثناء وجود �أ�رسته‬


‫إماراتي ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يف االمارات‪ ،‬حيث كان والده يعمل يف اجلي�ش ا ل‬
‫ويف العام ‪ُ 1990‬بعيد حرب اخلليج ا لأوىل التي �س ّميت‬
‫«بعا�صفة ال�صحراء”‪ ،‬عاد دغل�س و �أ�رسته �إىل م�سقط‬
‫ر �أ�سه بلدة “برقة” الواقعة �شمال مدينة “نابل�س” يف‬
‫ال�ضفة الغربية‪.‬‬
‫كان العام ‪ 1992‬عام حزنٍ بالن�سبة لأ�رسة دغل�س‪ ،‬فقد غادرتهم فيه‬
‫والدتهم �إىل غري رجعة‪ ،‬بعد �سنواتٍ من املر�ض‪ ...‬وجد دغل�س العائد لبلدته‬
‫يف امل�سجد وما يحويه من ن�شاطاتٍ ثقافية وتربوية ودعوية ي�رشف عليها‬
‫�أبناء احلركة ا لإ�سالمية‪ ،‬وجد اجل ّو الذي كان يبحث عنه ليُثرْ ي �إبداعاته‬
‫وطاقته احلركية وا لإميانية‪ .‬وهناك تع ّر ف على الكثري من ال�شبّان الذين‬
‫كان لهم دو ٌر كبري يف كتابة التاريخ بطريقتهم اخلا�صة‪.‬‬
‫�أحد �أبرز ن�شاطاته اليوميّة مع رفاقه من �شباب امل�سجد‪ ،‬كان يوم ‪1993/2/10‬‬
‫�أثناء قيامه بر�شق اجليبات ال�صهيونية على �شارع (جنني ‪ -‬نابل�س)‪ ،‬الأمر الذي‬
‫الكر�سي املتح ّرك‪ ،‬فقد �ص ّوب �أحد اجلنود‬
‫ّ‬ ‫ع ّر�ضه لإ�صاب ٍة كادت تبقيه حبي�س‬
‫ال�صهاينة فوهة ر�شا�شة باجتاه حممد دغل�س‪ ،‬ما �أ ّدى لإ�صابته ب�أربع ر�صا�صات‬
‫حية‪ ،‬ثالثة منها برجله اليمنى وواحدة بركبته الي�رسى‪ ،‬ليبقى حبي�س اجلب�س‬
‫والق�ضبان الطبيّة ملدة زادت عن اخلم�سة �أ�شهر‪.‬‬
‫يف �أعقاب اغتيال القوات ال�صهيونية للقائدين ال�شيخ جمال من�صور وجمال �سليم‬
‫يف ‪ ،2001/7/31‬طلب املهند�س �أمين حالوة من خلية الربغوثي القيام بالر ّد على‬
‫عملية اغتيال القائدين ال�شهيدين‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫ويف بداية �شهر ‪ 8‬من نف�س العام تل ّقى املهند�س من حالوة عرب ر�سولٍ‬
‫جيتارة كبرية احلجم‪ ،‬قام املهند�س بتفخيخها وو�ضعها داخل حقيبة‪،‬‬
‫وو�ضع بداخلها الرباغي لزيادة ا لإ�صابات‪ ،‬ثم ربطها بجهاز الت�شغيل‬
‫اال�ست�شهادي من تفجريها دون‬
‫ّ‬ ‫و �أخرج املفتاح من الغيتارة حتى يتم ّكن‬
‫�إخراج الغيتارة من احلقيبة‪.‬‬
‫وبعد عدة �أيام و�صل املن ّفذ وهو اال�ست�شهادي عز الدين امل�رصي من بلدة عقابا‬
‫ق�ضاء جنني‪ ،‬حيث التقاه بالل مع دغل�س يف رام اهلل‪ ،‬والحقا ً �سلّم املهند�س الغيتارة‬
‫لبالل وطلب ت�سليمها للمن ّفذ‪.‬‬
‫وح�سب �أوامر حممد دغل�س خرجت املنا�ضلة �أحالم التميمي يف جول ٍة يف القد�س‬
‫املحتلة لتحديد الهدف‪ .‬ويف اليوم التايل قام الق�سامي دغل�س برتتيب لقا ٍء لع ّز الدين مع‬
‫التميمي‪ ،‬ثم خرجا معا ً لإجراء جتربة لو�صول عز الدين و�أحالم �إىل مكان العملية‪� ،‬إال‬
‫�أنهم وب�سبب كثافة ال�رشطة يف املنطقة‪ ،‬عادوا و مل ي�ستطيعوا بلوغ هدفهما‪ ،‬فكرروا‬
‫رص ع ّز الدين �أن ي�صطحب معه‬ ‫املحاولة ملرة ثانية لكن دون جدوى‪ .‬يف املرة الثالثة �أ� ّ‬
‫ويفجر الغيتارة‪ ،‬فيقتل ‪� 20‬صهيونيا ً‬ ‫ّ‬ ‫العبوة لتنفيذ العملية‪ ،‬ليكرمه اهلل بال�شهادة‬
‫ويجرح �أكرث من ‪� 100‬آخرين‪.‬‬

‫يف ال�سجن‬
‫غياب عن بلدته‪ ،‬عاد حممد وائل دغل�س �إىل بلدته «برقة» يف‬ ‫ٍ‬ ‫بعد طول‬
‫زيار ٍة للعائلة‪ ،‬وكان ذلك يف ‪ .2001/9/4‬كانت ال�ساعات ا لأوىل لتلك الليلة‬
‫هادئ ًة ‪� ،‬إال �أ ّنه ويف متام ال�ساعة الثانية ليالً ‪ ،‬كانت قوة كبرية من القوات‬
‫اخلا�صة ال�صهيونية امل�س ّماة «دفدفان» تت�سلّل ليالً �إىل البلدة‪ ،‬وحتا�رص‬
‫منزل دغل�س‪.‬‬
‫ويف حماول ٍة لإجبار �أحد �أفراد الأ�رسة على اخلروج من املنزل ال�ستخدامه‬
‫ب�رشي‪ ،‬بد �أت القوات ال�صهيونية ب�إلقاء احلجارة على �شبابيكه‪ .‬وبعد‬ ‫ّ‬ ‫كدرع‬
‫ٍ‬
‫خروج �أحد �أفراد الأ�رسة طلبوا منه �إخراج البقيّة‪ .‬وملا ت�أ ّكدوا من هويات �أفراد‬
‫الأ�رسة قامت جمموع ٌة منهم باالنق�ضا�ض على حممد ورميه على ا لأر�ض ثم‬

‫‪158‬‬
‫�أح�رضوا له جمموع ًة من الكالب البولي�سية لت�ص َعد على �صدره يف حماولة‬
‫تفتي�ش دقيقة اقتادت القوات ال�صهيونية‬
‫ٍ‬ ‫لإلقاء اخلوف يف قلبه‪ .‬وبعد عمليّة‬
‫ع�سكري �إىل مركز حتقيق «بيت �أيل»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جيب‬
‫ٍ‬ ‫املجاهد حممد دغل�س مكبّالً يف‬

‫‪159‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫الق�سامي الأ�سري «�إبراهيم حامد»‪..‬‬


‫ّ‬ ‫القائد‬
‫كابو�س طارد �أجهزة املخابرات ال�صهيونية وزرع الذعر والرعب يف‬
‫نفو�س املحتلني‪.‬‬

‫اال�سم الكامل‪� :‬إبراهيم جميل مرعي حامد‪ ،‬كنيته �أبو‬


‫علي‪ ،‬و ُيطلَق عليه يف الأو�ساط املحلية ا�سم «�صالح‪»1‬‬
‫ُولِد الأ�سري �إبراهيم حامد يف قرية “�سلواد” �شمال �رشق‬
‫رام اهلل‪ ،‬و�سط �أ�رس ٍة متوا�ضعة وب�سيطة‪ ..‬وقد حت ّمل هو‬
‫و�أ�شقا�ؤه م�س�ؤولية القيام مبتطلبات الأ�رسة بعد وفاة والدهم‪.‬‬
‫ُعرِف عنه ات�صافه بال�شخ�صية القوية واجلادة‪ ،‬وحتلّيه بال�صرب واملكابدة جتاه‬
‫ظروف عائلته االقت�صادية ال�صعبة‪ .‬ومنذ نعومة �أظفاره كان �أحد ر َّواد امل�سجد‪ ،‬ويف‬
‫�شبابه كان �أحد خطبائه املف ّوهني‪ ،‬وعمل على رفع راية احلق �أينما كان‪.‬‬
‫تل ّقى املجاهد �أبو علي درا�سته االبتدائية والإعدادية والثانوية يف مدرا�س �سلواد‪،‬‬
‫بنجاح مع درجة امتياز من‬ ‫ٍ‬ ‫فكان نعم الطالب اخللوق واملثايل واملتفوق‪ ،‬ليتخ ّرج‬
‫امتحان التوجيهي‪ ،‬وينتقل �إىل جامعة بريزيت‪ ،‬لتحت�ضنه كلية الآداب‪/‬ق�سم‬
‫العلوم ال�سيا�سية‪.‬‬
‫تزوج «�أبو علي” عام ‪ 1998‬من قريبته �أ�سماء حامد‪ ،‬و�أجنبت له طفلني‬
‫“علي” وعمره �سبع �سنوات‪ ،‬و”�سلمى” وعمرها �أربع �سنوات‪� .‬أ ّما �أ�سماء وبعد‬
‫� ْأن تع ّر�ضت للتحقيق واال�ستجواب يف �سجن امل�سكوبية‪ُ ،‬ن ِقلت �إىل �سجن الرملة‬
‫املخ�ص�ص للن�ساء‪ ،‬وهناك احتُجِ َز ْت دون حماكمة �أو تهمة غري �أ ّنها زوجة مطار ٍد‬
‫لأكرث من ثمانية �أ�شهر‪.‬‬
‫كانت للقائد املجاهد �إبراهيم حامد امل�س�ؤولية املبا�رشة يف التخطيط والإعداد‬
‫ت �إىل مقتل و�إ�صابة نحو ‪68‬‬ ‫لع�رشات العمليات يف قلب الكيان املحتل؛والتي �أ ّد ْ‬

‫‪160‬‬
‫�صهيونيا ً خالل ال�سنوات ال�سابقة‪ ..‬ومن بينها عملية مقهى “مومنت”‪ ،‬وعملية‬
‫اجلامعة العربية‪ ،‬وعملية “ري�شون ليت�سيون”‪ ،‬وعملية القطارات وغريها الكثري‪.‬‬
‫وقد كثّفت قوات االحتالل ال�صهيونية من مطالبتها ب�إبراهيم حامد ومطاردته‬
‫وبحثها عنه‪ ،‬بعد اعتقال خلية �سلوان‪ ،‬وانتزاع اعرتافاتٍ �ض ّده عن طريق تعذيب‬
‫من بع�ض �أع�ضاء اخللية‪ .‬وقد و�ضعته �أجهزة الأمن ال�صهيونية يف �أعقاب العمليتني‬
‫اال�ست�شهاديتني يف “الرملة” و“القد�س” املحتلّتينْ ‪ ،‬يف العا�رش من �شهر �أيلول‪/‬‬
‫�سبتمرب ‪ ،2003‬على ر�أ�س قائمة املطلوبني للت�صفية �أو االعتقال‪ .‬وذكرت م�صادر‬
‫عربية يف حينه �أنّ جهاز “ال�شني بيت” ال�صهيوين يعتقد �أنّ “حامد” يقف وراء‬
‫العمليّتينْ الفدائيتني اللتني ت�سبّبتا يف م�رصع ‪ 16‬م�ستوطناً‪ ،‬و�إ�صابة �أكرث من ‪80‬‬
‫�آخرين بجروح‪ .‬وو�صفه اجلهاز ب�أ ّنه “يقود عدة خاليا تابعة لكتائب عز الدين‬
‫ؤول عن عد ٍد من الهجمات التي ا�ستهدفت‬ ‫الق�سام و�سط ال�ضفة الغربية‪ ،‬و�أ ّنه م�س� ٌ‬
‫اجلنود وامل�ستوطنني ال�صهاينة”‪.‬‬
‫امي �إبراهيم حامد يف �إحدى العمليات ال�صهيونيّة الغادرة‬‫الق�س ّ‬
‫مت اختطاف القائد ّ‬ ‫ّ‬
‫على رام اهلل‪ ،‬وكان القائد قد م َّر بتجربة اعتقالٍ لع ّدة �سنواتٍ يف �سجون االحتالل‬
‫ال�صهيوين‪ .‬كما اعتُ ِقل لدى ال�سلطة الفل�سطينية عدة مرات‪ ،‬ومت ّكن من الفرار بعد‬
‫الوقائي يف مدينة رام اهلل‪ ،‬الذي كان تز ّعمه �آنذاك جربيل الرجوب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اقتحام مق ّر الأمن‬
‫ولكن بعد ثماين �سنوات من املطاردة امل�ضنية‪ ،‬مت ّكنت قوات العدو ال�صهيوين‬
‫�صباح يوم الثالثاء ‪2006/5/23‬م‪ ،‬من اعتقال املجاهد ال�شيخ �إبراهيم حامد قائد‬
‫كتائب ال�شهيد عز الدين الق�سام يف ال�ضفة الغربية و�أحد كبار املطلوبني‪ ..‬وكانت‬
‫قوات االحتالل ال�صهيوين قد اقتحمت يومها منطقة “البالوع” يف رام اهلل حوايل‬
‫اخلام�سة فجراً‪ ،‬وحا�رصت منزالً مك ّونا ً من ثالثة طوابق‪ ،‬يقع مقابل منزل رئي�س‬
‫الق�سامي يف‬
‫ّ‬ ‫حت�صن القائد‬
‫ّ‬ ‫ال�سلطة الفل�سطينية حممود عبا�س “�أبو مازن”‪ ،‬حيث‬
‫حمل لبيع املرطبات كان يقع �أ�سفل البناية‪ .‬عندها �أجربت قوات االحتالل كافة‬
‫املواطنني الذين يقطنون البناية على �إخالئها؛ وهم ثالث عائالت مبا فيهم الن�سوة‬
‫والأطفال‪ ،‬واخلروج �إىل العراء ملدة ‪� 3‬ساعات تقريباً‪ ،‬قبل � ْأن تبد�أ بتفجري نوافذ‬
‫البناية و�أبوابها‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫ثم �أطلقت وابالً كثيفا ً من قنابل الـ”�أنريجا” احلارقة على املنزل املذكور‪ ،‬قبل‬
‫� ْأن تتم ّكن يف الثامنة �صباحا ً من اعتقال القائد الق�سامي �إبراهيم حامد دون حدوث‬
‫م�سلح بني الطرفني حيث كانت العملية مباغتة‪.‬واجلدير بالذكر �أن حامد هو‬‫ٍ‬ ‫ا�شتباك‬
‫من �أبرز املطلوبني جلهاز املخابرات ال�صهيوين منذ عدة �أعوام‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫الأ�سري املحرر «وليد اجنا�ص»‬

‫من �سكان بلدة خربة بني حارث غرب رام اهلل يف ال�ضفة الغربية‪.‬‬
‫در�س البكالوريو�س يف جامعة بريزيت يف رام اهلل‪.‬‬
‫عمل يف �أخطر خلية ق�سامية �أن�شئت يف ال�ضفة الغربية‪.‬‬
‫كما عمل مع رفيق دربه الأ�سري القائد البطل “حممد عرمان”‬
‫والذي رف�ض الإحتالل الإفراج عنه حتى تاريخه وننتظره يف‬
‫�صفقة قريبة قادمة ان �شاء اهلل ‪..‬‬
‫حكم عليه بال�سجن مدى احلياة ‪ 36‬مرة بالإ�ضافة �إىل ‪� 200‬سنة لإدانته يف حميع‬
‫الهجمات التي نفذتها هذه اخللية ‪..‬‬
‫متت �إدانته بال�ضلوع يف هجوم على مقهى مومنت يف القد�س عام ‪� 2002‬أ�سفر‬
‫عن مقتل ‪ 11‬ا�رسائيليا‪ ،‬ويف هجوم اجلامعة العربية‪ ،‬ويف كثري من الهجمات القوية‬
‫واملوجعة للكيان الغا�صب ‪..‬‬

‫‪163‬‬
‫ري ال ِّظل ِ‬
‫مهند�س على الطريق ِ‪� ...‬أم ُ‬
‫ٌ‬

‫«جامعة بريزيت»‬

‫جامعة بريزيت جامعة فل�سطينية تقع يف‬


‫بلدة بريزيت‪ ،‬وقد لعبت دورا رياديا يف‬
‫الأحداث ال�سيا�سية يف فل�سطني‪.‬‬
‫يعود تاريخ جامعة بريزيت �إىل عام‬
‫‪ ،1924‬عندما ت�أ�س�ست كمدر�سة ابتدائية‬
‫على يد نبيهة نا�رص ( ‪ )1951-1891‬يف بلدة بريزيت‪ .‬وكان الهدف الرئي�سي‬
‫للمدر�سة توفري فر�ص التعليم الأولية للفتيات من بريزيت والقرى املجاورة‪ ،‬يف وقت‬
‫انعدمت فيه املدار�س تقريبا ً يف تلك املنطقة‪ .‬وكانت رتيبة �شقري ( ‪� )1957-1881‬أول‬
‫مديرة للمدر�سة حيث عملت فيها حتى عام ‪.1932‬‬
‫تطورتتلكاملدر�سةلت�صبحعام ‪ 1930‬مدر�سةثانويةللبننيوالبنات‪.‬ويفعام ‪1932‬‬
‫�أ�صبحت املدر�سة تعرف با�سم “مدر�سة بريزيت العليا”‪ .‬وقد تغري ا�سمها يف عام ‪1942‬‬
‫لي�صبح “كلية بريزيت” رغم �أنها بقيت مدر�سة ثانوية‪ ،‬حيث كان ا�ستعمال ا�سم “كلية”‬
‫بدالً من “مدر�سة ثانوية” �شائعا ً يف تلك الفرتة‪ .‬ويف عام ‪ 1953‬وبرئا�سة مو�سى نا�رص‬
‫(‪� ،)1971-1895‬أ�ضيف للكلية ال�صف اجلامعي الأول بفرعيه العلمي والأدبي‪ ،‬تبعه‬
‫ال�صف اجلامعي الثاين يف عام ‪ ،1961‬و�أ�صبحت الكلية ت�ؤهل الطلبة لالنتقال مبا�رشة �إىل‬
‫ال�صف اجلامعي الثالث يف كثري من اجلامعات يف الوطن العربي وخارجه‪.‬‬
‫وملا كانت الكلية عندئذ هي امل�ؤ�س�سة اجلامعية الوحيدة يف املنطقة‪ ،‬فقد قررت‬
‫الرتكيز على التعليم اجلامعي فقط‪ .‬فبادرت يف عام ‪� 1961‬إىل �إلغاء ال�صفوف‬
‫االبتدائية والإعدادية والثانوية ب�صورة تدريجية‪� ،‬إىل �أن مت �إلغاء �آخر �صف ثانوي‬
‫يف نهاية العام الدرا�سي ‪ ،1967/1966‬واقت�رص التعليم حينذاك على ال�صفني‬
‫اجلامعيني الأول والثاين‪� ،‬أي ما يعرف باملرحلة اجلامعية املتو�سطة‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫ويف حزيران ‪ ،1972‬تقرر اال�ستمرار يف تطوير الكلية بالتو�سع يف الدرا�سة‬
‫اجلامعية لت�صل �إىل �أربع �سنوات‪ ،‬ت�ؤدي �إىل درجة البكالوريو�س يف الآداب والعلوم‪.‬‬
‫كما تقرر بناء حرم جامعي جديد على م�شارف بلدة بريزيت‪ .‬وملواكبة برنامج‬
‫النمو والتطوير تقرر و�ضع امل�ؤ�س�سة حتت �إ�رشاف جمل�س �أمناء ي�ضم عددا ً من‬
‫املواطنني املهتمني ب�ش�ؤون التعليم‪ ،‬من اجل �إ�رشاك املجتمع يف حتمل �أعباء امل�ؤ�س�سة‬
‫وم�س�ؤولياتها و�ضمان ا�ستمرارها يف ت�أدية ر�سالتها‪ .‬وعلى �أثر ذلك مت ت�سجيل‬
‫املجل�س قانونياً‪ ،‬وقامت عائلة امل�ؤ�س�سني بنقل ملكية الأرا�ضي التي ميلكونها يف‬
‫موقع احلرم اجلديد �إىل جمل�س الأمناء‪ ,‬وكان توفيق �أبو ال�سعود ( ‪)1981-1902‬‬
‫�أول رئي�س ملجل�س الأمناء‪.‬‬
‫�سار برنامج التطوير ح�سب اخلطة املر�سومة له ف�أ�ضيف ال�صف اجلامعي‬
‫الثالث يف العام الدرا�سي ‪ ،1976/1975‬وحتول ا�سم الكلية �إىل “جامعة بريزيت”‪.‬‬
‫وا�شتملت اجلامعة حينذاك على كليتني‪ :‬كلية الآداب وكلية العلوم‪ .‬ويف ‪ 11‬متوز‬
‫‪ 1976‬احتفلت اجلامعة بتخريج �أول فوج من حملة درجة البكالوريو�س يف‬
‫الآداب والعلوم‪.‬‬
‫هذا وكانت اجلامعة قد ُقبلت يف ني�سان ‪ 1976‬ع�ضوا ً يف احتاد اجلامعات العربية‪،‬‬
‫كما ُقبلت يف عام ‪ 1977‬ع�ضوا ً يف االحتاد العاملي للجامعات‪.‬‬
‫وا�ستمرارا ً لربنامج التطوير يف اجلامعة‪ ،‬مت �إن�شاء كلية التجارة واالقت�صاد يف‬
‫العام الدرا�سي ‪ ،1979/1978‬وكلية الهند�سة يف العام الدرا�سي ‪ ,1980/1979‬كما‬
‫�أ�ضيف برنامج املاج�ستري يف الرتبية ابتدا ًء من العام الدرا�سي ‪.1978/1977‬‬

‫‪165‬‬

Potrebbero piacerti anche